بين ضبابيّة الحراك الخارجي وضجيج الحركة الداخلية سيمرّ أيلول كما الشهور التسعة الماضية من دون رئيس للجمهورية، وذلك بعكس التكهّنات بأنّ آخر الصيف سيحمل معه انفراجاً رئاسياً معيّناً، فإن لم يكن انتخاب الرئيس الجديد فتهيئة أرضية صالحة لانتخابه، خارجياً وداخلياً.
لم يحصل هذا كلّه وليس مرشّحاً أن يحصل قريباً، فالأجواء في المنطقة لا تشير إلى إمكانات حلّ قريب في بيروت، إذ في مقابل استكمالات تطبيق اتفاق بكين بين السعودية وإيران، يتصاعد التوتّر بين طهران وواشنطن في أكثر من ساحة إقليمية، وآخِرتها الحدود العراقية – السورية، بعدما كانت أميركا قد عزّزت حضورها العسكري في المياه الخليجية. وهو ما يؤكّد أنّه بموازاة الاتفاقات الجزئية بين الدولتين، وأبرزها الإفراج عن الرهائن الأميركيين مقابل الإفراج عن أموال إيرانية محتجزة، تتشدّد واشنطن ضدّ النفوذ الإقليمي لإيران. وهو ما أمكن رصده أيضاً في البيان الأخير للمجموعة الخماسية بشأن لبنان. وليس ضرورياً أن ينعكس التقدّم في العلاقات بين الرياض وطهران تساهلاً سعودياً تجاه الحزب في بيروت، فهذا مرتبط بمعطيات أبعد من لبنان تتّصل بالسلوك الإقليمي العامّ لإيران.
بيروت بديلاً من دمشق
حتى إنّ الحركة الدبلوماسية تجاه لبنان، سواء الفرنسية مع الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان، أو الأميركية مع الموفد الرئاسي آموس هوكستين، لا تشي بأنّ ثمة تحوّلاً نوعياً في المقاربة الغربية للملفّ اللبناني يمكن أن يسفر عن انتخاب رئيس جديد قريباً جدّاً، وإن كانت تعطي صورة عن شكل التسوية الرئاسية النهائية، خصوصاً لناحية إبرام صفقة مع إيران والحزب قد تقتصر على لبنان وقد تكون في إطار صفقة إقليمية أكبر. لكن حتى الآن يتخبّط الموفد الفرنسي في إدارة مبادرته، وملفّ الترسيم البرّي دونه عقبات، ولا سيّما أنّ الحزب لم يعطِ إشارات جدّية بعد إلى استعداده لبتّه، وهو لم يقبض حتى الآن ثمناً سياسياً لقبوله بالترسيم البحري الذي عدّته أميركا إنجازاً لها ضمن إطار “إدماج إسرائيل في المنطقة”، لكن لا شيء نهائياً في موقف الحزب بشأن هذا الملفّ، ويمكن أن يبدي مرونة حياله إذا توافق مع الأولويات الإيرانية في المنطقة.
الحركة الدبلوماسية تجاه لبنان، سواء الفرنسية مع الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان، أو الأميركية مع الموفد الرئاسي آموس هوكستين، لا تشي بأنّ ثمة تحوّلاً نوعياً في المقاربة الغربية للملفّ اللبناني
بيد أنّ الأكيد أنّ زيارة وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان لبيروت أظهرت مدى الاهتمام الإيراني بالساحة اللبنانية، خصوصاً في ظلّ الإنهاك الكبير الذي يواجهه نظام الأسد في سوريا، سواء اقتصادياً أو لجهة تجدّد الاحتجاجات في الجنوب السوري. وهذه مسألة تجعل إيران والحزب أكثر تصميماً على الإمساك بالساحة اللبنانية دعماً للساحة السورية وبديلاً منها أيضاً، وهو ما يمكن رصده من خلال تعزيز حضور “حماس” و”الجهاد الإسلامي” في لبنان عوضاً عن سوريا. واستطراداً تجعل أزمةُ نظام الأسد الاقتصادية الحزبَ أكثر حذراً في إيصال رئيس للجمهورية لا يحظى بغطاء خارجي بالحدّ الأدنى لكي لا يشهد عهده ويلات اقتصادية جديدة.
حوار التحدّي
بموازاة هذا المشهد الخارجي المعقّد يزداد المشهد الداخلي تعقيداً أيضاً. عملياً، تحصل دعوة الرئيس نبيه برّي إلى الحوار في جوّ من التحدّي داخلياً، بغضّ النظر عن أيّ سياقات خارجية لها في حال وُجدت، أي يتحوّل الحوار إلى أداة تحدٍّ لا إلى مبادرة سياسية بحتة لحلّ الأزمة. وهو ما يجعل الحوار ملغوماً ما دام الهدف منه تسجيل نقاط ضدّ الخصوم لا الاتفاق معهم على نقاط مشتركة، كما تكون غالباً غاية أيّ حوار.
لذا لا تطمس كلّ الدعاية للحوار أحقّية المبرّرات السياسية والدستورية لرفضه، خصوصاً أنّ الرئيس برّي نفسه كان قد قال سابقاً إنّه لا يقدر على إدارة الحوار لأنّه طرف في الأزمة الرئاسية، فما الذي تغيّر الآن؟
لكن بغضّ النظر عن هذا الجدال، فإنّ المعطى الرئيسي الذي يستحقّ التوقّف عنده هو الموقف المسيحي المتصلّب في رفض الحوار، وبالأخصّ موقف القوات اللبنانية وحزب الكتائب. في الواقع لا تقتصر النبرة العالية لخطاب رئيس القوات سمير جعجع الأحد الماضي، على الحوار كحوار، بل هي تعكس منحى انشقاقياً لدى المسيحيين عن العملية السياسية بقوانينها الحالية، أي عن النظام السياسي ككلّ، ما دام التفريق بين قوانين اللعبة السياسية التي يفرضها الحزب وقواعد النظام صعباً جدّاً، إذ إنّ الحزب مستمرّ في تطويع النظام لمصلحته، ولذلك هو غير مضطرّ الآن إلى إبداء رغبة علنية في تغييره.
مقاطعة 1992
على هذا النحو، يذكّر موقف القوات والكتائب من الحوار بالمقاطعة المسيحية لانتخابات عام 1992، ولو بنصاب غير مكتمل في ظلّ تمايز التيار الوطني الحرّ عن هذا المناخ المسيحي المتشدّد. ولكن حتى التيار نفسه لن يكون هذه المرّة قادراً على التفلّت بسهولة من هذا المناخ، وهو ما انعكس في بيانه الثلاثاء بشأن الحوار الذي أظهر بعض التشدّد قياساً بالموقف الأوّل الذي صدر عن جبران باسيل عقب دعوة برّي إلى الحوار.
في مطلق الأحوال سيصعّب تشدّد المعارضة المسيحية على باسيل حواره مع الحزب لأنّه لن يكون قادراً على تقديم تنازلات تظهره تابعاً للحزب لا حليفاً وندّاً له، وهو ما يأخذه الحزب في الاعتبار
والحال هذه، يُترجم رفض القوات والكتائب ومعهما شخصيات مسيحية أخرى للحوار، إذا ما استمرّ بالتصلّب نفسه، رفضاً مسيحياً للدخول في السلطة أو الدولة ما دام الوضع على ما هو عليه، أي ما دام الحزب يسعى إلى السيطرة المطلقة على الدولة. ولذلك يمكن تشبيه الموقف الحالي لهؤلاء بالموقف المسيحي في عام 1992، الذي عكس رفضاً مسيحياً تامّاً للدخول في دولة الوصاية السورية ولم يكن يقتصر على رفض المشاركة في الانتخابات وحسب.
هذا ما يفترض أخذه في الاعتبار عند مقاربة الموقف المسيحي المتصاعد من الحوار الذي عكسه بالتحديد خطاب جعجع الأحد. وفي الواقع فإن قبول هذه القوى المسيحية بالحوار والتسوية مع الحزب، في الظرف الراهن، يعبّر عن استعدادها لتغطيته في الدولة تحت سقف ثلاثية الجيش والشعب والمقاومة، ولا يعكس بأيّ شكل من الأشكال شراكة ندّية مع الحزب في الدولة من ضمن ترتيبات النظام السياسي.
مأزق باسيل
هذا هو المآل النهائي لرفض المسيحيين للحوار بصيغته المقترحة، وهو مآل لا يستطيع باسيل التفلّت منه، ولو كان يحاول موازنة تصلّب القوات والكتائب تجاه الحزب بطرح مسألتَي النازحين السوريين واللامركزية الإدارية الموسّعة اللتين تحظيان بشعبية عند المسيحيين، لكن ليس أكيداً أنّ باسيل سينجح في إقامة توازن مع الطرح المسيحي المتشدّد حيال الحزب، خصوصاً إذا نجحت المعارضة المسيحية في إدارة معركتها الحالية.
إقرأ أيضاً: تهديد جعجع والجميّل بالقتل… والدعوة “الجنبلاطية” إلى الحوار
في مطلق الأحوال سيصعّب تشدّد المعارضة المسيحية على باسيل حواره مع الحزب لأنّه لن يكون قادراً على تقديم تنازلات تظهره تابعاً للحزب لا حليفاً وندّاً له، وهو ما يأخذه الحزب في الاعتبار، ولذلك يمكن أن يقدّم هدايا لباسيل، لكنّ الأمر في النهاية ليس بهذه السهولة، فثمّة متغيّرات راديكالية في الساحة المسيحية لا يمكن إغفالها، خصوصاً أنّ باسيل لم يعد قادراً، كما في الماضي، على فرض سقف الخطاب المسيحي، بل أصبح شديد التأثّر بالسقف السياسي والشعبي العالي في الوسط المسيحي، والذي يعبّر عن أزمة مسيحية فاقمها الانهيار وتأثيراته الكبيرة على الوقائع السياسية والاقتصادية والديمغرافية لدى المسيحيين. لكنّ الأمر متوقّف في آخر المطاف على كيفية مواصلة المعارضة المسيحية معركتها، فإمّا تعبّر عن مظلومية مسيحية فتسقط حيث سقط الآخرون، وإمّا تعبّر عن فداحة الاختلال الوطني في ظلّ سعي الحزب إلى السيطرة على الدولة، فتنجح في تأسيس مسار سياسي جدّيّ رافض لتغطيته في الدولة. وساعتذاك تصبح مطالبة باسيل باللامركزية الإدارية الموسّعة أقصى درجات الذمّية السياسية لأنّها تعني القبول بسيطرة الحزب على كلّ مفاصل الدولة المركزية!
لمتابعة الكاتب على تويتر: eliekossaifi@