بريكس11: الهند لا تعادي الغرب… وقِيَمُ الصين “صعبة”

مدة القراءة 8 د


انعقدت قمّة “بريكس” الخامسة عشرة في جوهانسبورغ على وقع الاستقطابات الحادّة التي أفرزها الغزو الروسي لأوكرانيا والعقوبات الغربية على روسيا، والمنافسة الشرسة بين الصين والولايات المتحدة الأميركية على النفوذ في المحيطين الهادئ والهندي. وعلى الرغم من التباين في العديد من القضايا الدولية بين أعضاء “بريكس” المؤلّفة من البرازيل، روسيا، الصين، الهند وجنوب إفريقيا، والتي تمثّل حاليّاً حوالي 40% من سكّان العالم وربع الناتج العالمي، شكّل الإجماع على دعوة كلّ من السعودية، مصر، الإمارات العربية المتحدة، إثيوبيا والأرجنتين إلى الانضمام إلى المجموعة، تحوُّلاً كبيراً في العلاقات الدولية ورسم التحالفات السياسية والتشكيلات الاقتصادية. ولن يتأخّر الرئيس الصيني شي جينبينغ، الذي قاد مع حليفه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين جهود إقرار توسعة المجموعة، في وضع هذا الإنجاز الاستراتيجي في خدمة مشروعه الذي يهدف إلى عالم متعدّد الأقطاب. فهل باتت الطريق مفتوحة إلى التعدّدية القطبية؟ وهل تنجح الصين وروسيا في تحويل هذه المجموعة إلى منصّة في مواجهة الغرب؟ 

انعقدت قمّة “بريكس” الخامسة عشرة في جوهانسبورغ على وقع الاستقطابات الحادّة التي أفرزها الغزو الروسي لأوكرانيا والعقوبات الغربية على روسيا، والمنافسة الشرسة بين الصين والولايات المتحدة الأميركية على النفوذ في المحيطين الهادئ والهندي

التوسّع الحذر

نجح الرئيس الصيني في احتواء تحفّظات الهند والبرازيل على التوسّع غير المدروس الذي ترى هاتان الدولتان أنّه ينال من نفوذهما. وقد طرح تعليق طلبات انضمام أكثر من 22 دولة إشكاليّة معايير الانتساب وإمكانية التوفيق بين أهداف التوسّع وتأثيره على ميزان القوى بين أعضاء المجموعة. لذلك اقتصرت الدعوة على ستّ دول للانضمام إلى “بريكس”، وهو ما سيرفع تعادل القوّة الشرائية للناتج المحلّي الإجمالي العالمي لـ”بريكس11” إلى 36 في المئة (أكبر بالفعل من مجموعة 7)، وستضمّ المجموعة 47 في المئة من سكّان العالم. 

لا يمكن الفصل بين مشروع التوسّع هذا الذي سعى إليه الرئيس الصيني وبين رؤيته للعالم التي عبّر عنها بشكل واضح في تشرين الثاني من عام 2021، إذ قال إنّ الأمّة الصينية المتجدّدة ستبني “نوعاً جديداً من العلاقات الدولية” من خلال صراع “طويل الأمد” حول طبيعة النظام الدولي، وإنّ “الاتجاه المتنامي نحو عالم متعدّد الأقطاب لن يتغيّر”.

كما لا يمكن فصل أهداف توسعة “بريكس” عن تطلّعات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي شارك في القمّة عبر تقنية الفيديو، تفادياً للإحراج بشأن مذكّرة التوقيف الصادرة بحقّه من المحكمة الجنائية الدولية. ورأى في هذه القمّة فرصة لتأكيد الخروج من عزلته، والدفع مع حليفه شي جينبينغ باتجاه بناء تحالف في مواجهة الغرب، واستبدال الدولار بالعملات الوطنية في التبادلات التجارية البينيّة.

يتّفق بوتين مع الرئيس الصيني على أهميّة قيام عالم متعدّد الأطراف لا تحكمه المؤسّسات الماليّة التي تتحكّم بها واشنطن، ولا القيم الليبرالية التي يعتبر منظّرو بوتين أنّها تتناقض مع حضارة روسيا التي يدّعون أنّها خليفة بيزنطيا وثقافتها ودورها.

من جهة أخرى، تنظر الهند وجنوب إفريقيا بحذر شديد إلى استخدام “بريكس” منصّةً في مواجهة الغرب. وقد عبّر المسؤولون في كلا البلدين عن قلقهما من هذا الموضوع. فالهند تخشى أن يؤدّي التوسّع في الاقتصادات الناشئة الأخرى إلى تخفيف نفوذها، ولديها ملفّات ونزاعات حدودية شائكة مع بكين، وهي عضو في تحالف “كواد” الذي يضمّ الولايات المتحدة الأميركية وأستراليا واليابان. لذلك تتعامل بحذر كبير مع التوجّهات الصينية المناهضة للغرب والولايات المتحدة الأميركية.

في هذا السياق، ذكرت صحيفة “لوموند” الفرنسية في 25 آب أنّ “نيودلهي، التي تعتزم أن تصبح واحدة من الدول البارزة في البلدان النامية، تتبع أجندة مناهضة لأجندة بكين، المهووسة بإنشاء بديل سياسي واقتصادي لتفوّق الدول الغربية”. وقد صرّح دبلوماسي هندي في نيودلهي بالقول: “لا نريد أن نرى “بريكس” تتحوّل إلى منصّة معادية للغرب من شأنها أن تخدم مصالح الصين وروسيا في المقام الأوّل”. 

البنك الآسيوي للاستثمار وبنك التنمية الجديد اللذان تطرحهما الصين بديلاً عن صندوق النقد والبنك الدولي، يرتبطان بالدولار الأميركي. وما يزال النموذج الصيني المطروح يصطدم بقوّة القيم الليبرالية

التحدّيات التي تواجه بريكس11

سيؤدّي انضمام السعودية وخمس دول أخرى في بداية عام 2024 إلى مجموعة “بريكس” إلى ميزان قوى اقتصادي جديد على مستوى العالم، إذ بحسب مراكز دراسات متعدّدة ستتحكّم “بريكس11” بحوالي 39 في المئة من صادرات النفط العالمية، وبالتالي ستصبح رقماً صعباً في المعادلة التي تؤثّر في أمن الطاقة واستقرار الأسواق. وستزداد الأهميّة الجيوسياسية للبلدان المنتجة للنفط في هذه المجموعة، ولا سيّما المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وإيران، التي تهتمّ الصين برفع نسبة وارداتها النفطية والغازية منها. 

إذا كانت “بريكس11” ستشكّل قوة اقتصادية كبيرة بالمقارنة مع مجموعة السبع التي ما تزال تتحكّم بنصف الناتج العالمي، فإنّ استثمار هذه المكانة الاقتصادية في السياسة الدولية وفي مزيد من الاستقلال عن الولايات المتحدة الأميركية وعملة الدولار، يصطدم بالعديد من التناقضات في المصالح والسياسات لدول المجموعة، وأيضاً بالعديد من التحدّيات التي قد تتطلّب سنوات طويلة وإصلاحات هيكلية كبيرة وتوافقات سياسية صعبة. 

من أهمّ التحدّيات: 

1- فقدان التجانس في الأنظمة الاقتصادية والسياسية، وفي السياسات الاقتصادية والماليّة والنقدية، وفي حجم دور الدولة والقطاع الخاصّ في الاقتصاد الوطني. 

2- صعوبة بناء منظومة قيم موحّدة بالمقارنة مع مجموعة السبع التي ترتكز على القيم الليبرالية التي جعلتها قادرة على تجاوز العديد من التناقضات والمصالح من أجل وحدة الموقف السياسي والاقتصادي في بعض المحطّات. يشكّل إجماع دول مجموعة السبع على إقرار العقوبات على روسيا أحد أبرز الأمثلة على أهمّية القيم في رسم السياسات وتحديد الخيارات.

3- صعوبة التخلّي السريع عن الدولار. إذ على الرغم من تراجع وزن هذه العملة في احتياطات البنوك، فهي ما تزال تشكّل نسبة 59 في المئة من هذه الاحتياطات، فيما لا يشكّل اليوان الصيني من احتياطات النقد الأجنبي العالمية أكثر من 2.6%. وما يزال الدولار يمثّل نسبة 89% من معاملات سوق الصرف الأجنبية، و60% من الفواتير التجارية، و48.5% من إصدارات السندات الدولية.

4- صعوبة تسويق الصين نموذجها الاقتصادي الذي يعتمد بشكل كبير على دور الدولة. ومن شأن هذه المحاولة، إذا جرت، أن تثير تحفّظ الهند التي لا تؤيّد تحويل “بريكس” إلى منصّة لتسويق النموذج الصيني على حساب الهند ونفوذها السياسي والاقتصادي. 

إقرأ أيضاً: البريكس وأخواتها: “بعثية” عالمية جديدة؟

من المرجّح أن تشكّل “بريكس 11” قوة اقتصادية ذات مكانة عالية. لكن تبقى أمامها تحدّيات هائلة في صرف هذه القوة في السياسة الدولية أو في جعلها في خدمة مشاريع روسيا والصين التي تسعى إلى عالم متعدد الأقطاب لا تحكمه لا القيم الليبرالية ولا المؤسسات المالية التي نشأت في “بريتون وودز” بعد الحرب العالمية الثانية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي. إذ تتحكّم واشنطن والغربيون بحقوق التصويت في صندوق النقد لتمرير سياساتهم وتعزيز نفوذهم. وتواجه الصين معضلات كبيرة في طرح “البنك الآسيوي للاستثمار” و”بنك التنمية الجديد”، اللذين تأسّسا في العام 2014 كبديل عن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. 

ذكرت مجلة “فورين افيرز” في 22  آب الماضي، أنّ الصين، ومنذ الإعلان عن “مبادرة الحزام والطريق” موّلت قروضاً بقيمة 1 تريليون دولار لمئة دولة. ما جرى أنّ العديد من هذه المشاريع فشلت في كسب العوائد التي توقعها المحللون، ووجدت حكومات هذه الدول نفسها مثقلة بديون ضخمة غير قادرة على تأمين التمويل للمشاريع المستقبلية أو حتى خدمة الديون المستحقة لها بالفعل. كما أنّ بنك التنمية الجديد الذي تملك موسكو 19% من رأسماله ما زال الاستثمار فيه مرتبطاً بالدولار الأميركي، والمستثمرون الأميركيون توقفوا عن الاستثمار فيه منذ الغزو الروسي لأوكرانيا.

في النهاية، النموذج الصيني المطروح ما يزال يصطدم بقوة القيم الليبرالية. والعديد من الدول في “بريكس11” ترغب في رؤية عالم متعدد الأقطاب، لكنها ليست بوارد التخلي عن صندوق النقد والبنك الدولي بل تطالب بإصلاحهما، وتعزيز موقع بلدان الجنوب فيهما. إذ لا تمثل بلدان “بريكس” أكثر من 15% من حقوق التصويت في صندوق النقد مقابل 45% لمجموعة الدول الصناعية السبع.

* أستاذ الدراسات العليا في كليّة الحقوق والعلوم السياسية والإدارية بالجامعة اللبنانية.

مواضيع ذات صلة

لبنان والسّيادة… ووقاحة “الشّعب والجيش والمقاومة”

جاء المبعوث الأميركي آموس هوكستين أخيراً. لا يزال يعمل من أجل وقف للنّار في لبنان. ليس ما يشير إلى أنّ طرفَي الحرب، أي إيران وإسرائيل،…

أرانب نتنياهو المتعدّدة لنسف التّسوية

إسرائيل تنتظر وصول المبعوث الرئاسي الأميركي آموس هوكستين، بعدما بات ليلته في بيروت لتذليل بعض العقد من طريق الاتّفاق مع لبنان والحزب، على وقع الانقسام…

كيف ستواجه تركيا “فريق ترامب الصّليبيّ”؟

عانت العلاقات التركية الأميركية خلال ولاية دونالد ترامب الأولى تحدّيات كبيرة، لكنّها تميّزت بحالة من البراغماتية والعملانيّة في التعامل مع الكثير من القضايا. هذا إلى…

حماس وأزمة المكان

كانت غزة قبل الانقلاب وبعده، وقبل الحرب مكاناً نموذجياً لحركة حماس. كان يكفي أي قائد من قادتها اتصال هاتفي مع المخابرات المصرية لتنسيق دخوله أو…