الترسيم البرّي الكامل… أو مزيد من “شبح الحرب”

مدة القراءة 8 د


تتزاحم عند بوّابة الجنوب، عناصر التوتّر التي تحمل كلّ احتمالات الانفجار:

– ثمّة معركة سياسية أمميّة، تتجدّد كلّ عام، تدور حول التمديد لقوات اليونيفيل في ضوء رغبة أقوى هذه المرّة في توسعة التفويض الممنوح لها، وربّما تبنّي التفويض تحت الفصل السابع.

– وثمّة التوتّر الحدوديّ المتصاعد بين ميليشيا الحزب وإسرائيل حول الخيمة-اللغم التي نُصبت من طرف الميليشيا في أرض متنازَع عليها في مقابل أعمال إنشائية إسرائيلية داخل نقاط مشابهة.

– وأخيراً وصول المبعوث الأميركي آموس هوكستين اليوم إلى بيروت. وتفيد التقارير حول زيارته بأنّه يحمل في جعبته طرحاً شاملاً لمعالجة الحدود البرّية اللبنانية الإسرائيلية.

– إضافة إلى زيارة مفاجئة لوزير الخارجية الايراني حسين أمير عبد اللهيان إلى بيروت يعلن عنها اليوم.

تتناسل هذه السياقات الثلاثة من فكرة أساسية، وهي أنّنا في لبنان بإزاء ما يُسمّى “مقاومة”، كانت منذ البدء ترفض أن تحتفل بإنجاز التحرير. فحين حصل الانسحاب الإسرائيلي المتفاهَم عليه مع لبنان عام 2000، باغتت ميليشيا الحزب الجميع آنذاك باستعراض ناريّ واكب الانسحاب، وأسّست عبره لخرافة أنّها هزمت إسرائيل وأجبرتها على الانسحاب.

ثمّة معركة سياسية أمميّة، تتجدّد كلّ عام، تدور حول التمديد لقوات اليونيفيل في ضوء رغبة أقوى هذه المرّة في توسعة التفويض الممنوح لها، وربّما تبنّي التفويض تحت الفصل السابع

لنتذكّر أنّ الانسحاب كان عنوان الحملة الانتخابية لإيهود باراك يومها، وظلّ لأشهر طويلة عنوان السجال السياسي في إسرائيل قبل أن يفوز باراك وينفّذ وعده الانتخابي. ولنتذكّر أكثر أنّ حافظ الأسد، الذي كان يعيش آخر أسابيعه، كان شديد القلق من الانسحاب ولا يحبّذ حصوله، لا سيّما بالشكل الذي حصل فيه، لأنّه سيُدخل إلى المعادلة مجموعة من التحدّيات الاستراتيجية التي يمكن أن تؤثّر سلباً على نفوذ سوريا الإقليمي، واستقرارها الداخلي، ومكانتها الدولية.

“خوف” الأسد من الحزب وإيران

أوّلاً، كان حافظ الأسد يدرك أنّ الانسحاب الإسرائيلي سىيؤدّي إلى تعزيز مكانة الحزب، وهو ما قد يخلّ بتوازنات العلاقة بين دمشق وحليفها.

ثانياً، كان الأسد يدرك أنّ انتهاء الاحتلال الإسرائيلي سيُزيل من الخطاب السياسي العامّ في لبنان فكرة العدوّ الموحّد للّبنانيين، وهو البند الأهمّ الذي بني عليه الاستقرار السياسي الاستراتيجي بين مختلف الفصائل اللبنانية. كانت دمشق قلقة من انفلات الصراعات الداخلية، وهو ما بدأت نُذُره سريعاً، على نحو سيعقّد إدارة سوريا لمصالحها في لبنان.

ثالثاً، أدّى خروج إسرائيل إلى زيادة الضغوط على سوريا للانسحاب من لبنان، وهو ما فعلته في نهاية المطاف في عام 2005.

رابعاً، أدرك الأسد أنّ الانسحاب الإسرائيلي يهدّد بفتح أبواب عزلة سوريا إقليمياً في اللحظة التي كان يستعدّ فيها لتسليم الحكم لابنه بشّار، غير المهيّأ، لإدارة فضاء استراتيجي جديد لسوريا.

وأخيراً، فإنّ التغيير في الوضع اللبناني كان مهيّأً لأن يُضعف موقف سوريا التفاوضيّ مع إسرائيل، بفقدان سوريا جبهةً للضغط عليها، ووضع دمشق أمام الخيار الأخطر، وهو المقاومة في الجولان!

التقت مخاوف حافظ الأسد مع حسابات إيران الإقليمية التي أرادت أن تحمي “إنجازها” وتبني عليه لتمتين حضورها في لبنان.

“الفجور” الإيراني.. والتوسّع

صحيح أنّ إيران لم تكن يومها بنفس الفجور التوسّعي الذي مارسته وتمارسه اليوم، إلّا أنّ انسحاب عام 2000 كان بمنزلة انتزاع مشروعية ثمينة لِما يُسمّى “خيار المقاومة” في السياسات الإقليمية، في مقابل خيارات السلام البادئة مع مؤتمر مدريد-1991 وسرديّة “الشرق الأوسط الجديد” التي أقلقت إيران كثيراً.

وقد عزّز هذا الحدث العلاقات بين ميليشيا الحزب وإيران، التي رأت الفرصة سانحة لترسيخ حليفها لاعباً سياسياً رئيسياً في لبنان لا منظمة عسكرية وحسب، وترسيخ نفوذها المباشر في السياسة اللبنانية، من دون المرور عبر سوريا فقط. كما زوّدت الميليشيا راعيها الإيراني بعمق استراتيجي في بلاد الشام، وهو ما زاد من عناصر قوّتها في مواجهة إسرائيل وغيرها من الخصوم الإقليميين.

صحيح أنّ إيران لم تكن يومها بنفس الفجور التوسّعي الذي مارسته وتمارسه اليوم، إلّا أنّ انسحاب عام 2000 كان بمنزلة انتزاع مشروعية ثمينة لِما يُسمّى “خيار المقاومة” في السياسات الإقليمية

أمّا على الصعيد الداخلي، فقد شكّل انسحاب عام 2000 من جنوب لبنان أوّل انتصار حقيقي لرواية النظام الإيراني عن المقاومة ضدّ “الإمبريالية” الغربية والإسرائيلية، ووُظّف كدعاية داخلية وأداة للوحدة الوطنية. وممّا لا شكّ فيه أنّ اختطاف ميليشيا الحزب للانسحاب الإسرائيلي عام 2000 وتحويله إلى انتصار، لعب دوراً حاسماً في تشكيل استراتيجية إيران الإقليمية وتعزيز طموحاتها الجيوسياسية الأوسع.

التقاء مخاوف الأسد مع شهوات إيران أوصل إلى اختراع مزارع شبعا وتلال كفرشوبا كقضية لبنانية وطنية محورية تشرعن بالنسبة لإيران سلاح ميليشيا الحزب في لبنان، وتضمن استمرارية مشروع ما يسمّى “المقاومة”، وتُبقي، بالنسبة لسوريا، على متنفّسات لمشاغلة إسرائيل والضغط عليها من دون تعريض الأمن السوري المباشر للخطر.

الحرب السورية وضربات إسرائيل

صحيح أنّ الحرب السورية وتصدّع نظام الأسد جعلا الضربات الإسرائيلية المتكرّرة على الأراضي السورية، من الأمور العاديّة، إلّا أنّ ذلك لم يُفقد مزارع شبعا وتلال كفرشوبا (ولاحقاً أجزاء من قرية الغجر)، وظائفها الاستراتيجية الأخرى بالنسبة لسوريا، ولم يبدّد بالتالي التقاطع السوري الإيراني عند رعاية الغموض المحيط بهويّة هذه الأراضي أكانت لبنانية أم سورية، بما يعقّد بالتالي ترسيم الحدود أو تثبيتها بين لبنان وإسرائيل.

تستغلّ سوريا الغموض المحيط بمزارع شبعا وتلال كفرشوبا وأجزاء من قرية الغجر، كورقة نفوذ دبلوماسي، في أيّ مفاوضات أو مبادرات دولية، كمهمّة هوكستين مثلاً، وتطمح إلى أن يكون ذلك بوّابة تفاوض مع الأميركيين قد تتوسّع باتجاه ملفّات أخرى، كإعادة الإعمار، أو ابتكار وظيفة سياسية لنظام الأسد في أيّ خارطة استقرار إقليمي مقبلة.

الأهمّ، أنّ ملفّ المزارع والتلال والغجر، يعطي دمشق عنصراً نادراً لإدخال بعض التوازن إلى العلاقة بحلفائها، لا سيّما إيران والحزب، تداري به ضعفها الواضح. فالأخيران بحاجة إلى أن لا يقدم الأسد على تنازلات تربك حساباتهما في ملفّ الغجر ومزارع شبعا وتلال كفرشوبا، وهو ما يعطيه هامشاً للابتزاز السياسي وغير السياسي.

تجدر الإشارة إلى أنّ النقاط الـ12 المتنازَع عليها بين لبنان وإسرائيل، والممتدّة على كامل الشريط الحدودي، هي عبارة في الغالب عن بقع صغيرة لا يتعدّى الاختلاف عليها أمتاراً معدودة، وأخرى لا تتجاوز أكبرها مساحة 3,000 متر مربّع، ما عدا بقعة واحدة تصل مساحتها إلى 18 ألف متر مربّع. ولئن كانت هذه النقاط لا تشمل تلال كفرشوبا وقرية الغجر ومزارع شبعا، فإنّ مسألة ترسيم الحدود البرّية بين لبنان وإسرائيل غير مرشّحة لأكثر من معادلة “نصف الحلّ”.

تستغلّ سوريا الغموض المحيط بمزارع شبعا وتلال كفرشوبا وأجزاء من قرية الغجر، كورقة نفوذ دبلوماسي، في أيّ مفاوضات أو مبادرات دولية، كمهمّة هوكستين مثلاً

بايدن يريد “إنجازاً” في لبنان

تخدم معادلة “نصف الحلّ” مجموعة معقّدة من الاعتبارات لجميع الأطراف المعنيّة، بما في ذلك الولايات المتحدة. فبالنسبة لواشنطن يمكن للاتفاق الجزئي بين لبنان وإسرائيل أن يسوَّق كإنجاز جديد لإدارة جو بايدن على مسار السلام في الشرق الأوسط. فهذا البند عاد ليحتلّ موقعاً متقدّماً على أجندة البيت الأبيض. وقد تستسيغ ميليشيا الحزب، مثل هذه التسوية، التي تسمح لها بتحقيق 3 أهداف:

أوّلاً، حماية مشروعية “المقاومة” من خلال “إجبار” إسرائيل على التنازل “عن آخر شبر”. وهذا ما قد يفسّر التصعيد الأخير للميليشيا جنوباً، تماماً كتصعيد المسيَّرات الاستعراضي قبل الترسيم البحري.

ثانياً، ضمان استمرارية المقاومة من خلال الإبقاء على الغموض المحيط لا سيما بمزارع شبعا وتلال كفرشوبا وإخراجها من معادلة الحلّ.

وثالثاً، تعزيز البيئة الأمنيّة الجنوبية التي تسمح بمواكبة البدء بالحفر والتنقيب عن الغاز وما لذلك من عائدات مادّية ولو متأخّرة لسنوات للدولة ونفسية على أهل الجنوب، علّها تبدّد بعضاً من حال الغضب المتصاعد في بيئته.

أمّا ردّ الفعل الإسرائيلي، فسيتشكّل بناء على مجموعة متعدّدة من العوامل، تراوح بين المخاوف الأمنيّة والسياسة الداخلية والمصالح الاقتصادية. ففي حين أنّ حسابات إسرائيل تلتقي مع حسابات الحزب، بشأن اتفاق يزيد جرعة الاستقرار على حدودها الشمالية، ويحظى بدعم الولايات المتحدة، فإنّها ستكون بغاية الحذر، بشأن أيّ ترتيب يمكن أن يعرّض أمنها للخطر من خلال ترك الأراضي الغامضة بلا ضوابط، وتمكين ميليشيا الحزب من استغلالها. وتلعب الحسابات الإسرائيلية الداخلية دوراً مهمّاً في تقرير وجهة ردّ فعل تل أبيب على المقترحات الأميركية، لا سيّما في ظلّ تصاعد الاشتباك الداخلي وهشاشة التحالف الحكومي القائم. سيتعيّن على الحكومة الإسرائيلية أن تتجنّب أيّ تنازلات محسوسة لميليشيا الحزب تشكّل لها مخاطر سياسية داخلية.

إقرأ أيضاً: السويداء.. حراك “المعارضة المصنّعة محلّيّاً”

قد تقدّم معادلة “نصف الحلّ” فوائد مؤقّتة ومقبولة بالنسبة للولايات المتحدة والحزب وإسرائيل، لكنّ من السذاجة الاعتقاد أنّها تُبعد كثيراً شبح الاصطدام المحتمل بين إسرائيل والحزب.

كان “اكتشاف” مزارع شبعا وتلال كفرشوبا من العناصر التي مهّدت لكلّ الخراب الذي لحق بلبنان إلى يومنا هذا، وها هي تتحضّر لأن تكون من بين أسباب الخراب المقبل، إذا ما بقي لبنان مصرّاً على أن يكون آخر الجبهات وآخر البنادق وآخر الطلقات.

مواضيع ذات صلة

سوريا: حصان الاقتصاد الجديد في الشّرق؟

“إنّه ذكيّ جدّاً (إردوغان). لقد أرادوها (أراد الأتراك سوريا) لآلاف السنين، وقد حازها، وهؤلاء الناس الذين دخلوا (دمشق) تتحكّم بهم تركيا، ولا بأس في ذلك”….

أسئلة في العقبة حول تفرّد الشّرع بالمرحلة الانتقاليّة

من بين الأسئلة الكثيرة التي تناولتها اجتماعات العقبة العربية الدولية السبت الماضي مدى استعداد أحمد الشرع (الجولاني سابقاً) لإشراك قادة المعارضة الآخرين في إدارة المرحلة…

سوريا: تركيا تتقدّم.. إيران تتراجع.. والعرب يتمهّلون

شكَّل سقوط النظام السوري تتويجاً للمتغيّرات بالمنطقة، وعنى تراجعاً للمحور الإيراني، وتعاظماً للنفوذ الإسرائيلي والتركي. والفرق أنّ تركيا تملك قوّة عسكرية وقوّة ناعمة، بينما لا…

“أساس” يُحاور بشّار الأسد: يحيى خرّب كلّ شيء

في غرفة أقرب ما تكون إلى الظلمة منها إلى الضوء، جلست ومعي قلم ودفتر بعدما سحبوا منّي آلة التّسجيل. كانت الساعة فوق الموقدة المشتعلة تُشير…