الدِّين والدَّولة

مدة القراءة 4 د


تَشابُك الدِّين والسُّلطة السياسية مسألة قديمة قِدَم الأديان. وهذا التَّشابُك ليس خاصّاً بمجتمعات دون أخرى. بيد أنَّ التَّشابُك والتَّنافُر يختلفان من مجتمع إلى آخر. في المجتمعات الأوروبية كان الدِّين يلعب دوراً محورياً ومتواشجاً مع السُّلطة السياسية. إلَّا أنَّ التطوّرات التاريخية أدَّت إلى تنظيم العلاقة بين الاثنين، سواء داخلياً بتبنّي نهج علماني أو خارجياً كما في اتفاقية “ويستفاليا” التي اعترفت بالدولة كسيِّد على الولاءات الطائفية.
والدِّين والدَّولة في المجتمعات العربية والإسلامية لهما خصوصية قد تتقاطع مع تجارب الأمم، لكنّها فريدة من نواحٍ عِدَّة. وتتعلّق بالتفرّد بالصيرورة التاريخية التي أفضت إلى تطوّر الإسلام ليس كدين فحسب، بل بما هو حضارة تؤثّر على جوانب الحياة. ولا يمكن فهم أيّ من هذه المجتمعات العربية من دون فهم التأثير الديني فيها، لكنّ من الخطأ فهم هذه المجتمعات من خلال الدين فقط.
لديّ اهتمام بالموضوع بسبب هذه التأثيرات على المجتمعات العربية من ناحية سياسية وسوسيولوجية وتاريخية. وقد أهداني أحد الأصدقاء، الدكتور عبد الرحمن هابيل، كتابه الأخير بعنوان: “موافقات الدين والدولة”، الذي يشرح الاشتباك بين الدين والدولة من وجهة نظر فقهية وتأصيلية للعلاقة الشائكة بين الاثنين. ومن وجهة نظر الكاتب فإنّ دراسة وفهم علاقة هذه القضية في غاية الأهميّة لنزع فتيل الأزمات التي تعتري المجتمعات العربية وتعيق التطوّر والتغيير الاجتماعي المنشود.

تَشابُك الدِّين والسُّلطة السياسية مسألة قديمة قِدَم الأديان. وهذا التَّشابُك ليس خاصّاً بمجتمعات دون أخرى. بيد أنَّ التَّشابُك والتَّنافُر يختلفان من مجتمع إلى آخر

الكتاب مركّب ويعالج قضايا عديدة وتفرّعات تصلح لأنْ تكون حقولاً معرفية بذاتها، ولا يمكن معالجة الكتاب وسبر أغواره في مقالة واحدة. ولكنّ أهمّ ما جاء في الكتاب: التأكيد على مشروع وطني يقطع دابر مشروع الإسلام السياسي. ويتمثّل المشروع “بمقاربة الرؤية الكونية القرآنية مقاربة موضوعية مُتَّزنة تقطع الطريق على السَّطحية وسوء الفهم والمزايدة بالدين والجرائم التي تُرتَكب باسمه”.
يقترح هابيل الابتعاد عن النصوص الفردية لتحقيق الإصلاح الديني المطلوب، والالتفاف إلى النصوص المتعاضدة، بمعنى أنَّ النصوص الفردية لها سياق مُعيَّن وظرفية، بينما النصوص المتظافرة هي نصوص فيها ديمومة واستمرارية، ويجب الأخذ بها ومُقدَّمة على النصوص الفردية.
الفكرة الرئيسة الثانية للكتاب المتّصلة بالنقطة الأولى هي: الأخذ بالفقه المقاصدي الذي طوّره الفقيه العلّامة الإمام أبو إسحاق الشاطبي. والمقصود بالمقاصد هي: مقاصد الشريعة في حفظ الدين، وحفظ النَّفس، وحفظ العقل، وحفظ النَّسل، وأخيراً حفظ المال. وتُعَدُّ هذه المقاصد الأسس التي تُؤَطَّر للاجتهاد في القضايا المعاصرة، مثل: قضية المرأة أو الحرّيات أو الأقلّيات في المجتمعات المسلمة وقضايا الأحوال الشخصية من ميراث وصداق.
ويُصرُّ الكاتب على مسالة الانضباط في شأن الفقه المقاصدي بما لا يتجاوز قراءة النصوص المتعاضدة والعِلَل المُطَّرِدَة التي تفسّر وتدعم بعضها بعضاً. وفي هذا المضمار يتطرّق الكاتب إلى المعاملات الماليّة التي تَتَّسم بالشرعية على الرغم من أنّها تخالف جوهر الشرع وأنّها نوع من التحايل للحصول على قروض بفائدة تحت مُسمَّى الرِّبح على الرغم من أنَّه بيع بجهالة. فبدلاً من التَّحايل في المعاملات الماليّة التي تفضي إلى مخالفات شرعية ظاهرة أو باطنة، يقترح الكاتب معالجة الفوائد المصرفية من خلال فقه المقاصد. ما هو مقصد الشريعة من تحريم الرباء؟ وكيفية حفظ المال وهو مقصد من مقاصد الشريعة من خلال المعاملات المصرفية الحديثة وفي الوقت نفسه منع الاستغلال وأكل الأموال بالباطل.

إقرأ أيضاً: في الخوف من الدولة.. وفي الخوف عليها

في خلاصة القول: إنَّ ما يسعى إليه الكتاب تجديداً للفقه هو حلّ إشكاليات علاقة الدين بالشأن العامّ للحفاظ على روح الدين وليس التَّشبُّث بالنصوص. وحسب الكاتب فإنَّ المراجعة الفقهية يجب أنْ تقوم على ثلاثة مبادئ رئيسة، وهي: أوّلاً، سدّ الذرائع للفوضى السياسية بتقديم السلم على العدل، والمطالبة السلمية بالعدل. وثانياً، سدّ الذرائع للمظالم الاقتصادية وإصلاح النظام المالي. وثالثاً، سدّ الذرائع للفوضى الاجتماعية بالمساواة بين الجنسين والمحافظة على الأسرة.
لقد ألقى الكاتب بخيط مُهمّ في إصلاح العلاقة بين الدين والدولة، والأرب من هذا الاستعراض المقتضب هو التقاط هذا الخيط من قِبَل المتخصّصين وأهل الشَّأن العامّ، ومناقشة المسائل الكثيرة التي يطرحها هذا الكتاب المهمّ.

 

* كاتب إماراتيّ

مواضيع ذات صلة

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…

السّوداني يراسل إيران عبر السعودية

 لم يتأخّر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ومعه قادة القوى السياسية في قراءة الرسائل المترتّبة على المتغيّرات التي حصلت على الساحة السورية وهروب رئيس…