كانت مفاوضات التجديد لقوات الطوارىء الدولية في جنوب لبنان، تمريناً على جولة أخرى من التفاوض على الحدود البرّية. ويقول البعض إنّها ربّما كانت جزءاً، أو مقدّمةً، للتفاوض المرتقب على البرّ.
خاض لبنان معركة نصوص في مجلس الأمن لن تغيّر في الوقائع على الأرض، وكانت أقرب إلى أن تكون رمزية ما دامت الترجمة العملية خاضعة للمساومات وموازين القوى. بدا الأمر أشبه بمحاربة طواحين الهواء حين أرادت الدبلوماسية اللبنانية تعديل الفقرتين اللتين وردت فيهما العبارتان اللتان جاءتا في قرار التمديد السنة الماضية. الأولى في الفقرة 16 من القرار ونصّت على أنّ “اليونيفيل لا تحتاج إلى إذن مسبق أو إذن من أيّ شخص للاضطلاع بالمهامّ الموكلة إليها، ويُسمح لها بإجراء عمليّاتها بشكل مستقلّ”. والثانية وردت في الفقرة 17 منه وتدعو “الأطراف إلى ضمان حرّية حركة اليونيفيل، بما في ذلك السماح بتسيير الدوريات المعلن عنها، وغير المعلن عنها”.
كانت مفاوضات التجديد لقوات الطوارىء الدولية في جنوب لبنان، تمريناً على جولة أخرى من التفاوض على الحدود البرّية. ويقول البعض إنّها ربّما كانت جزءاً، أو مقدّمةً، للتفاوض المرتقب على البرّ
شكّل انكشاف موقع الحزب التفاوضي على دور “اليونيفيل” عاملَ اطمئنان لكبير مستشاري الإدارة الأميركية لشؤون الطاقة العالمية آموس هوكستين في المفاوضات التي سيقودها حول الحدود البرّية، وذلك خلافاً لتستّر “الحزب” خلف موقف الرئيس السابق العماد ميشال عون وفريقه في شأن الحدود البحرية، ولذلك بدا متفائلاً قبيل مغادرته بيروت أوّل من أمس بإمكان التقدّم على هذا المسار الأكثر صعوبة. ويعني إنهاء الإشكالات على الحدود البرّية احتمال إنهاء النزاع مع إسرائيل، ويقود إلى إنهاء وظيفة سلاح الحزب وإقفال ملفّ كبير، له أبعاد إقليمية كبرى، وقد يشهد مناورات تفوق أهمّية ما جرى في نيويورك، نظراً إلى الأثمان المطلوبة.
كشفت المناقشات والمفاوضات للتجديد لقوات “اليونيفيل” وتشدّد أعضاء مجلس الأمن جملة وقائع ذات مغزى حيال البعدين الداخلي والخارجي لموقع جنوب لبنان:
الحزب مفاوضاً على المكشوف
1- الحزب كان المفاوض الرئيسي في شأن صدور قرار التجديد لـ”اليونيفيل” وفي شكل مكشوف، فيما كان الجانب اللبناني الرسمي مواكباً ومكمّلاً بصفته الجهة المخوّلة حضور جلسات مجلس الأمن. والحزب تولّى التواصل مباشرة مع بعض الدول الكبرى، خصوصاً روسيا والصين، ولا سيما فرنسا “حاملة القلم”، التي صاغت مشروع القرار، قبل بدء مشاورات التجديد التي بدأت مطلع شهر آب، وتبلّغ المسؤولون اللبنانيون بالنتائج ليتولّوا المتابعة في نيويورك. لم يثق الحزب بالجانب اللبناني الرسمي جرّاء الخيبة التي تعرّض لها السنة الماضية بسبب إضافة تينك العبارتين.
2- كان أشبهَ بلعب غير واقعي طلبُ الحزب من لبنان الرسمي التلويح بسحب طلب التجديد للقوات الدولية في حال لم يؤخذ بطلبه شطب العبارتين. وعلى الرغم من أنّ الأمين العامّ للحزب كشف عن قيادته المفاوضات خلافاً لحالات سابقة حين كان يقف “خلف الدولة” كما حصل في ترسيم الحدود البحرية، فإنّه لم يتردّد في إطلاق التهديدات بقوله في خطابه في 28 آب إنّ “قرار تمديد ولاية “اليونيفيل” سيبقى حبراً على ورق والناس في الجنوب لن يسمحوا بأن يُطبّق قرار على الرغم من رفض الحكومة اللبنانية”. تدرك الدول المعنيّة بالتجديد أنّ الحزب كما الدولة بحاجة إلى بقاء “اليونيفيل” في الجنوب أسوة بإسرائيل، لأنّ وجودها في أسوأ الحالات مانع لحرب لا يريدها أيّ منهما… على الرغم من أنّ تقييد حركتها هو لزوم التلويح من قبل إيران بـ”وحدة الساحات” لإتاحة حرّية حركة الحزب وسلاحه في “الساحة” الجنوبية، بغير إرادة الدولة اللبنانية، وبحكم الأمر الواقع… وخلافاً للغة الاستهزاء بدور المنظمة الدولية وقراراتها في أدبيّات “الحزب”، فإنّه تعاطى مع التجديد على أنّه “قانون دولي” قابل للتنفيذ مهما طال زمن إقراره، وإن كان يخضع للتسويات والأخذ والردّ، وهو ما استوجب منه الاستنفار الذي حصل.
الـ2650 دفع مجلس الأمن ثمنه دماً
3- القاعدة هي أنّ ما يُتّخذ من قرارات في مجلس الأمن غير قابل للعودة عن نصوصه في قرار جديد، قبل تنفيذه، وبالتالي يمكن أن يخضع لإضافات لا للحذف. ولذلك بقيت العبارتان الواردتان في القرار 2650 للعام الماضي عن حرّية حركة “اليونيفيل”، وأضيفت إلى العبارة الواردة في القرار الأخير 2695 كلمة “التنسيق مع الحكومة اللبنانية”. وهي عبارة لم تبتدعها الدبلوماسية الفرنسية لأنّها واردة أصلاً في نصّ القرار الأساسي 1701 الذي أوقف حرب 2006 وأدّى إلى انسحاب القوات الإسرائيلية حينئذٍ، والذي يستند إليه أيّ قرار تجديد وتفويض القوات الدولية حفظ السلام في الجنوب.
كشفت المناقشات والمفاوضات للتجديد لقوات “اليونيفيل” وتشدّد أعضاء مجلس الأمن جملة وقائع ذات مغزى حيال البعدين الداخلي والخارجي لموقع جنوب لبنان
4- حسب مصادر دبلوماسية، كان يستحيل على الدول الكبرى الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، والدول العشر الأخرى من الأعضاء المؤقّتين، أن تقبل في عام 2023 بحذف العبارتين الواردتين في قرار التجديد عام 2022، لأنّها “دفعت دماً” ثمناً لإضافتهما السنة الماضية، حين قُتل الجندي الإيرلندي بعد أربعة أشهر في 22 كانون الأول 2022 خارج منطقة عمليات القوات الدولية. والتحقيق في القضية لم ينتهِ بالنسبة إلى هذه الدول، إذ إنّ تقارير الأمين العامّ أنطونيو غوتيريش وقرارات مجلس الأمن ما تزال تصرّ على جلب العناصر الآخرين من “الحزب” إلى العدالة، إضافة إلى العنصر الذي صدر بحقّه قرار اتّهامي، في سياق تعدادها لحوادث الاعتداءات على جنود “اليونيفيل” التي لم تتمّ محاسبة مرتكبيها منذ…
موسكو: لن ندعم الحكومة اللبنانية
5- فرنسا التي تولّى الحزب التواصل معها من أجل تعديل القرار، والتي اطمأنّ إلى أنّها ستلبّي مطالبه، ثمّ نقل اطمئنانه إلى الخارجية اللبنانية، كي تتصرّف في نيويورك على هذا الأساس، لم تستجِب للطلب فصاغت مسوّدة القرار بصفتها “صاحبة القلم” التي تتولّى كلّ سنة الصياغة، مع الإبقاء على العبارتين اللتين طلب “الحزب” إلغاءهما. فباريس تقوم بالصياغة كالعادة، بالتنسيق مع بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية. وأبلغت موسكو وبكين من يجب إبلاغه، بالتزامن مع جلسات التشاور وقبل التصويت، أنّ القرار سيبقى كما هو والعبارتين اللتين يشكو منهما الحزب لن تتغيّرا. ومن يعرفون الموقف الروسي ردّدوا الفكرة التالية: “لماذا نخوض معركة بطلب من لبنان حول القرار بينما حكومته كانت أصدرت بياناً دانت فيه دخول روسيا أوكرانيا في 24 شباط 2022؟”.
اقتصرت الاتصالات اللبنانية الرسمية مع كلّ من الجانبين الروسي والصيني على تلك التي أجرتها البعثة في نيويورك، والحزب عبر قنواته، ولم تتمّ مع السفارة الروسية في بيروت، ولم يُطلب إلى السفير اللبناني في موسكو بذل أيّ جهد مع الخارجية الروسية.
أدّت الاتصالات إلى امتناع الدولتين عن التصويت لسبب شكليّ هو شطب الجانب الأميركي بين ليلة 30 آب ونهار 31 منه عبارة “خراج بلدة الماري” من الفقرة التي تدعو إسرائيل إلى الانسحاب من شمال بلدة الغجر، (هكذا ترد في القرارات السابقة وفي تقارير الأمين العامّ منذ 2006)، واستبدالها بعبارة “المنطقة المتاخمة وشمال بلدة الغجر”.
لكنّ خلفيّة الموقف الروسي والمسايرة الصينية له، هو التناحر الأميركي الروسي في كلّ مؤسّسات الأمم المتحدة على أيّ اقتراح أو موقف لواشنطن، إذ تعترض روسيا على أيّ أمر (مهما كان) تقترحه الولايات المتحدة، والعكس صحيح، جرّاء العداوة الشديدة بعد حرب أوكرانيا. وهي مماحكة شلّت مجلس الأمن والكثير من اللجان المنبثقة عن الجمعية العمومية طوال السنة الماضية وما تزال.
إقرأ أيضاً: تعديلات اليونيفيل: “التنسيق مع الحكومة”.. بدل الجيش
سراب الفصل السابع
6- الدبلوماسيون الروس أسرّوا إلى أصدقاء لهم استغرابهم الحملة اللبنانية الرسمية ومن قبل الحزب وإعلامه للتحذير من إصدار قرار التجديد وفق الفصل السابع، وصولاً إلى إدلاء وزير الخارجية عبد الله بوحبيب بتصريح بهذا المعنى، في وقت لم تطرح أيّ دولة هذه الفكرة لا من قريب ولا من بعيد، وبقيت في مخيّلة الجانب اللبناني فقط. في تعليق بعض الدبلوماسيين الروس على ذلك لم يستثنوا التكهّنات المحلّية بأنّ الهدف اللبناني تعظيم الأمور للإيهام بتحقيق انتصار حين يصدر من دون الفصل السابع، مقابل الإخفاق في تغيير العبارتين المشكوّ منهما حول حرّية حركة “اليونيفيل” في شكل مستقلّ. ثمّ تبيّن أنّ بعثة لبنان فسّرت النصّ على حرّية حركة “اليونيفيل” بأنّه “شبيه” بوضع الجنوب تحت الفصل السابع الذي يشرّع استخدام القوّة.