عن اليمين الإسرائيلي “المُمانع” لأميركا…

مدة القراءة 7 د


تُفضّل الولايات المتحدة إعداد “طبخاتها” السياسية بالمنطقة، وتحديداً ذات الصلة بإسرائيل، في الظلام، وأن تنتهي منها قبل تقديمها في الضوء. وهذا يفسّر الغضب الأميركي من إعلان وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين لقاءه مع نظيرته الليبية نجلاء المنقوش.

لم تخفِ واشنطن، التي تعدّ “عرّابة” التطبيع بين إسرائيل والدول العربية، غضبها من كشف اللقاء الذي جرى بروما، وهي التي عملت منذ سنوات لبناء قناة اتّصال للوصول إلى نتيجة على غرار ما جرى مع العديد من الدول العربية، لكنّ الكشف يبدو قد بدّد كلّ تلك الجهود.

يمكن فهم الغضب الأميركي والانتقاد الشديد اللهجة الذي وجّهته واشنطن لكوهين إثر كشفه عن اللقاء لأنّه ألحق أضراراً بالسياسة الأميركية ومصالحها بالمنطقة، فهو تسبّب بنسف القناة السرّية السياسية التي أقامتها واشنطن بين ليبيا وإسرائيل، ونظراً إلى أنّ الظروف السياسية والشعبية لم تنضج حتى الآن لإعلان مثل هذا التقارب. وربّما هذا ما يفسّر ردّة الفعل الشعبية الغاضبة في البلدات والمدن الليبية، التي بدورها دفعت رئيس الوزراء الليبي عبد الحميد الدبيبة إلى التنصّل من اللقاء واتّخاذه قراراً بطرد الوزيرة، والقيام بزيارة سفارة فلسطين بطرابلس وتأكيده رفض التطبيع.

تُفضّل الولايات المتحدة إعداد “طبخاتها” السياسية بالمنطقة، وتحديداً ذات الصلة بإسرائيل، في الظلام، وأن تنتهي منها قبل تقديمها في الضوء

تدرك واشنطن أنّ ما جرى إعلانه قبل نضوجه ستكون له تداعيات سياسية وميدانية، فهو يمسّ بشكل مباشر جهودها لتعزيز التطبيع بين إسرائيل وليبيا ودول عربية أخرى، وخاصة عقب الاحتجاجات الشعبية الكبيرة في ليبيا، الأمر الذي قد يخيف بعض الدول العربية والإسلامية التي قد تفكّر في مثل هذه الخطوة، وسيؤدّي إلى زعزعة الاستقرار في ليبيا، وهذا ستكون نتيجته الإضرار بالمصالح الأمنيّة والاقتصادية الأميركيّة.

في الحقيقة، لم يكن تصرّف كوهين الموقف الوحيد الذي أغضب الولايات المتحدة من إسرائيل أخيراً، فوزراء الحكومة الإسرائيلية، وتحديداً أولئك الذين يمثّلون اليمين المتطرّف مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، لم يتوقّفوا عن إثارة غضب واشنطن ودفعها إلى انتقادهم ورفض الاعتراف بهم والتعامل معهم، بل وهاجموا واشنطن وانتقدوها كما فعل سموتريتش.

عبّر مسؤول أميركي رفيع المستوى لموقع “واللا” الإسرائيلي عن جوهر الموقف الأميركي ممّا جرى بالقول: “لقد قتل ذلك (الإعلان عن اللقاء) قناة المحادثات مع ليبيا، وجعل جهودنا لدفع (بجهود) التطبيع مع الدول الأخرى، أكثر صعوبة بكثير، فإدارة بايدن رأت فيه مجرّد لقاء سريّ بهذه المرحلة، ولذلك فوجئ مسؤولون أميركيون رفيعو المستوى بنشر كوهين إعلاناً رسمياً عنه، وأُصيب الليبيون بالرعب بعد إعلان كوهين، إذ لم يكونوا ينوون إعلانه”.

كوهين “الهاوي”

اذاً يمكن فهم الانتقاد الأميركي للخارجية الإسرائيلية، الذي يحظى بتأييد من سياسيين ووسائل إعلام ومحلّلين إسرائيليين، أنّه محاولة للحفاظ على مصالح إسرائيل، ووقف الرعونة والتخبّط اللذين تمتاز بهما الحكومة الإسرائيلية الحالية التي ترى السياسة الأميركية أنّها تلحق ضرراً بإسرائيل وتكبّدها خسائر تسعى بكلّ قوتها لتقليل حجمها.

يُوصَف وزير الخارجية الإسرائيلي كوهين في إسرائيل بأنّه “هاوٍ” نظراً إلى عدم عمله في أيّ منصب دبلوماسي أو سياسي رفيع له صلة بالعلاقات الخارجية والدولية. ويُعرف عنه أنّه يفضّل الإنجازات الاستعراضية والعناوين المثيرة بالإعلام، التي تُظهره للجمهور الإسرائيلي وكأنّه حقّق اختراقات في علاقات التطبيع مع الدول العربية.

تتولّى الأجهزة الأمنيّة بإسرائيل مثل “الموساد” و”الشاباك” و”مجلس الأمن القومي” إدارة العلاقات وتطويرها مع الدول العربية، وليس وزارة الخارجية. ويعتمد نتانياهو على سفير تل أبيب السابق في واشنطن رون ديرمر كمبعوث له حين يتعلّق الأمر بالقضايا الخارجية الاستراتيجية، وليس على وزير الخارجية الذي يحاول منافسة هذه الأجهزة في عملها إعلامياً، وهذا ما ظهر في أوقات سابقة عند كشفه عن العديد من اللقاءات مع شخصيات عربية وإسلامية.

لم يقتصر الغضب على الموقف الأميركي، بل إنّ جهات عدّة بإسرائيل أعربت عن غضبها ممّا أعلنه كوهين وأشعل سجالاً سياسياً وأمنيّاً بين الفرقاء داخل إسرائيل، ومنها جهاز الموساد ذراع إسرائيل الخارجية، وأحد اللاعبين الرئيسيين لتوسيع علاقات إسرائيل، بعد انتقاده كوهين واعتباره أنّه ألحق أضراراً جسيمة بالعلاقة بين إسرائيل وليبيا من الصعب ترميمها.

يدير نتانياهو حكومة يمينية من العنصريّين المتطرّفين، الذين يتولّون مناصب ووزارات، ويُجمع المحلّلون والمراقبون على رعونتهم وافتقارهم إلى الحنكة السياسية، لكنّهم يوفّرون له طوق النجاة والبقاء بالحياة السياسية

“إحراق” الجسر مع ليبيا

نقلت القناة 12 عن مسؤول في الموساد قوله إنّ “سلوك الوزير تسبّب بأضرار جسيمة للعلاقة التي تمّت صياغتها بهدوء وحذَر في السنوات الأخيرة. لقد أحرق الجسْر (بين البلدين). لا توجد طريقة (لتجاوُز) ذلك”، وسط اعتقاد لدى الجهاز أنّ كوهين ومدير مكتبه “يواصلان إحداث الضرر، لأنّهما يعقدان مثل هذه اللقاءات، ليس مع وزيرة خارجية ليبيا فحسب، بل مع مسؤولين من دول أخرى، من دون التنسيق معه”.

لم تتأخّر بالظهور مواقف المعارضة الإسرائيلية ممّا جرى، إذ قال زعيم المعارضة بيني غانتس إنّ “علاقات إسرائيل الخارجية مسألة حسّاسة وخطيرة. عندما تتصرّف انطلاقاً من دوافع محصورة بالعلاقات العامّة والعناوين الرئيسية، من دون أيّ مسؤولية أو تفكير، فهذا ما يحدث، سواء في العلاقات الخارجية أو الأمن أو الاقتصاد أو التعليم. حكومة نتانياهو مهملة وفاشلة ويجب أن تسقط”. بينما قال رئيس حزب “ييش عتيد” إنّ الإعلان “غير المسؤول” عن اللقاء بين كوهين والمنقوش، “تصرّف غير احترافي وغير مسؤول وفشل خطير بالحكم. إنّه صباح العار القومي والمخاطرة بحياة الإنسان من أجل عنوان رئيسي (في وسائل الإعلام الإسرائيلية)”.

يدير نتانياهو حكومة يمينية من العنصريّين المتطرّفين، الذين يتولّون مناصب ووزارات، ويُجمع المحلّلون والمراقبون على رعونتهم وافتقارهم إلى الحنكة السياسية، لكنّهم يوفّرون له طوق النجاة والبقاء بالحياة السياسية، والذين يجد نفسه فاقداً للسيطرة عليهم. فهو منذ تولّيه الحكومة لم يستطِع وقف التسريبات لمحاضر اجتماعاتها أو اجتماعات المجلس السياسي والأمنيّ المصغّر “الكابينت” لوسائل الإعلام.

لم يقتصر الغضب الأميركي هذا الأسبوع على تصرّف كوهين، بل سبقته إدانة شديدة اللهجة لتصريحات وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، التي قال فيها: “حقّي وحقّ زوجتي وأولادي في التنقّل على طرقات الضفّة الغربية أهمّ من حقّ العرب في حرّية الحركة”، وأضاف: “هذا هو الواقع، هذه هي الحقيقة، حقّي في الحياة يسبق حقّهم (العرب) في حرّية التنقّل”.

وصفت واشنطن تصريحات بن غفير بـ”الخطاب العنصري والتحريضي”، لكنّها حظيت بتأييد من رئيس الحكومة نتانياهو، ودفاع وزير المالية اليمينيّ سموتريتش الذي انبرى لمهاجمة واشنطن متّهماً إيّاها بالنفاق، قائلاً في تصريحات إذاعية: “لا توجد دولة أكثر أخلاقية من إسرائيل، ولا يوجد جيش أكثر أخلاقية من الجيش الإسرائيلي”، مضيفاً: “كلّ من يهاجمنا في العالم منافق، ولن نسمح بأن يقدّموا مواعظ أخلاقية تتعلّق بحقوق الإنسان، سواء للجيش الإسرائيلي أو لنا كمستوى سياسي. رأينا ما فعلوه في العراق وأفغانستان. هذا نفاق”.

إقرأ أيضاً: الأسد طلب “معارضة محليّة”… الدروز والعلويّون أجابوه

على نحو مماثل لتداعيات حادثة الوزير كوهين، ألقت تصريحات بن غفير، التي حظيت بإدانة دولية واسعة رسمياً وشعبياً، بظلالها على الداخل الإسرائيلي وخلقت سجالاً واتّهامات بين الفرقاء حول تأثيراتها على إسرائيل، إذ نقل موقع  “واينت” الإلكتروني عن مسؤولين سياسيين وإعلاميين إسرائيليين قولهم إنّ الضرر السياسي والإعلامي والقانوني بسبب أقوال بن غفير “هائل”، وإنّ تفوّهات بن غفير تسبّبت بـ”هجوم إعلامي ضخم يكشف للأسف عن وجه الحكومة”، وأضاف هؤلاء: “بعد تفوّهات بن غفير أصبح من الأصعب الادّعاء أنّ إسرائيل ليست دولة أبارتهايد. وأخيراً حصل الذين ينتقدون إسرائيل على “الإثبات الذهبي” لادّعاءاتهم حول العنصرية الإسرائيلية”.

مواضيع ذات صلة

لا تضيّعوا الفرصة بالانتظار

فتح سقوط نظام بشار الأسد في سوريا وتحطيم “الحزب”، بدءاً من اغتيال قائده التاريخي حسن نصرالله وصولاً إلى تدمير بنيته العسكرية البشرية والمادّية، نافذة تاريخية…

اللّحظة الإيرانيّة: انهيار على الطّريقة السّوفيتيّة

تواجِه الجمهورية الإسلامية الإيرانية مستقبلاً محفوفاً بالمخاطر، نتيجة الضربات العسكرية والمعنوية التي تلقّاها محورها، وآخرها سقوط نظام الأسد في سوريا. وتزداد وضوحاً المقارنات مع انهيار…

عندما يكون الانتصار أو الهزيمة وجهة نظر

اختبر اللبنانيون خيبات كثيرة وتوتّرات أهليّة أكثر. اختبروا مِحناً أكثر، بلغ بعضها حدّ خنق الجماعات الأهلية التي استقوت بالشرق، كما تلك التي استقوت بالغرب. بعضها…

طائف واحد لا “طائفان”

 دخل لبنان بعد توقيعه على اتّفاق وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني، مدار القرارات الدولية الملزمة. تتطلّب هذه الفترة من الدولة ديناميكية رشيدة في…