للمرّة الأولى منذ قيام إسرائيل قبل 75 عاماً، تضرب المجتمع والسياسة أزمة وجودية غير مسبوقة، فتهزّ المُؤسّسة العسكرية وتهدّد فعّاليتها وجهوزيّتها. فلم يكُن أحدٌ ليتصوّر قبل أسابيع قليلة فقط أنّ ضبّاطاً إسرائيليين سيتخلّفون عن الالتحاق بالخدمة، أو أنّ طيّارين في سِلاح الجوّ الأقوى في منطقة الشّرق الأوسط سيتمرّدون، بسبب القانون الذي يحدّ من صلاحيّات المحكمة العليا. في إسرائيل تسود مقولة للمُفكّر العسكريّ البروسي كارل فون كلاوزفيتز تعتبر أنّ “الجيش في حالة حربٍ دائمة”، باعتبار أن الحرب هي أرقى أشكال السياسة، وامتدادا لها بطريقة أخرى. فهو إمّا يقاتل فعليّاً على الجبهة أو يستعدّ للحرب المقبلة. هكذا هو الحال منذ أن أعلَنَ ديفيد بن غوريون في 14 أيّار 1948 قيام إسرائيل. ومنذ ذلك الحين، أدمَن الجيش الإسرائيليّ على خوض الحروب مع محيطه العربيّ بدافع التشكّل القومي للعقل الصهيوني، وبذريعة حماية الكيان في محيط غريب عنه واقعاً. ولم يلتفِت هذا الجيش يوماً إلى الأزمات السّياسيّة الدّاخليّة. وإن لم يجد الجيشُ عدوّاً اخترَعَ واحداً. فهذا ما يعطيه دوراً محوريّاً في تسيير شؤون الدّولة. فما الذي أصابه الآن؟
الأزمة الإسرائيليّة غير المقبولة
في كلّ الحروب التي خاضتها إسرائيل مع العرب جيوشاً وفصائلَ منذ عام 1948 إلى آخر طلقةٍ في مخيّم جنين قبل أسابيع قليلة، كانَ لإسرائيل اليد العُليا في سِلاح الجوّ الذي تضمن الولايات المُتحدة والدّول الغربيّة تفوّقه على جميع دول المنطقة من دون استثناء.
في قراءة لكلّ الخضّات السّياسيّة التي مرّت بها إسرائيل لم نسمَع يوماً أنّ الجيشَ كانَ طرفاً أو أنّ الأزمات عصفَت ولو عندَ أعتابِ قيادته.
اختلفَ الوضع اليوم.
في قراءة لكلّ الخضّات السّياسيّة التي مرّت بها إسرائيل لم نسمَع يوماً أنّ الجيشَ كانَ طرفاً أو أنّ الأزمات عصفَت ولو عندَ أعتابِ قيادته
لم يستطِع رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو أن يحتوي الأزمات. كانَت كوابيس انهيار ائتلافه اليمينيّ الحاكم، ومن خلفها كابوس السّجن، أقوى. ألزمته وعوده واتفاقيّاته الانتخابيّة مع أحزاب الحركة الصّهيونيّة الدّينيّة أن يزجّ الجيشَ بأتون الأزمات الدّاخليّة.
اتّفقَ نتانياهو مع حلفائه اليمينيّين على تمرير قانون التعديلات القضائيّة وإقرار قانون لإعفاء اليهود الحريديم (الأرثوذكس) من الخدمة العسكريّة. ولئن شكّلَ الحريديم ما نسبته 10% من الإسرائيليين، إلّا أنّ تخلّفهم عن أداء الخدمة العسكريّة من أجل إتمام الدّراسة الدّينيّة يُنذِرُ بالأسوأ بالنّسبة للإسرائيليين.
لذا ما تشهده تل أبيب اليوم لم يعُد انقساماً سياسيّاً عاديّاً. بل صارَ انقساماً أيديولوجياً بين تيّارات اليمين المُتطرّف وحركة الصّهيونيّة الدّينية وبين أحزابِ اليسار والوسط المدعومة من ضبّاط الجيش.
لا خِلاف أنّ الأحزاب الإسرائيليّة بيمينها ووسطها ويسارها تُريد إسرائيل دولة قوميّة لليهود. لكنّ اختلاف الرّؤى بين اليمين وخصومه يكمُن في عمقِ إدارة الكيان. فاليمين يُريدها دولة قوميّة بأحكام الشّريعة اليهوديّة. أمّا اليسارُ فيُريدها دولة لليهودِ لكن بقانونٍ علمانيّ مدنيّ، وهذا سرّ الخلاف الذي قد يؤدّي إلى شطرِ الجيش الإسرائيليّ.
هذا الجيشُ الذي ترتكز عقيدته العسكريّة على الحاجة الدّائمة إلى الحروب، وعلى المعاركِ بين الحروب هو سرّ تماسك إسرائيل في محيطها المُعادي. حتى الآن، وفي ذروة ادّعائها التطبيع مع “العرب”، ما تزال تواجه أزمة جدّية على امتداد الخطّ من الجولان إلى بوّابة فاطمة، وحتى في حقل كاريش الذي وقّعت اتفاقاً بشأنه مع لبنان.
“تهديدات” آتية
التّوقيتُ الذي أُثيرت فيه مسألة “تجنيد الحريديم” هو العامل الأبرز. إذ ينشغل جيشها بـ”التهديدات” الآتية من جميع الاتّجاهات:
1- في الجنوب، وتحديداً حدودها مع قطاع غزّة، حيثُ حركتا حماس والجهاد الإسلاميّ. كانَ القطاع طوال السّنوات الـ10 الأخيرة قاعدةً مُتقدّمةً لإطلاق كلّ أنواع الصّواريخ والطّائرات المُسيّرة على العمق الإسرائيليّ، بدءاً من “سديروت” و”أشدود” المُتاخمتيْن للقطاع وصولاً إلى “تل أبيب” و”حيفا” والقُدس.
2- أمّا في الشّرق، فجمرُ الضّفّة الغربيّة يطفو فوق الرّماد الخامدِ منذ انتفاضة عام 2000. الفارقُ أنّ العمليّات الآتية من الضّفّة ليسَت بالحجارة والسّكاكين والمقالع، بل عمليّات عسكريّة وأمنيّة خاطفة، كانَ آخرها قربَ نابلس حيثُ استطاع مُقاتلٌ فلسطينيّ أن يقتلَ مستوطنَيْن اثنيْن وأن ينسحبَ من مكان العمليّة.
لا خِلاف أنّ الأحزاب الإسرائيليّة بيمينها ووسطها ويسارها تُريد إسرائيل دولة قوميّة لليهود. لكنّ اختلاف الرّؤى بين اليمين وخصومه يكمُن في عمقِ إدارة الكيان
يُضاف إلى ذلك تطوّر أسلوب القتال لدى فصائل المُقاومة الفلسطينيّة، خصوصاً في مُخيّم جنين، حيث أعلنَت كتائب القسّام، الجناح العسكريّ لـ”حماس”، إطلاق صاروخيْن للمرّة الأولى من الضّفّة الغربيّة بعدما كانَت غزّة هي القاعدة لذلك.
3- في الشّمال، الجبهة الأخطر والأقرب بالنّسبة للإسرائيليين. فالحدود مع لبنان وسوريا هي الشّغل الشّاغل للقيادتيْن الأمنيّة والعسكريّة الإسرائيليّة طوال الأسابيع الماضية، منذ أن ثبّتَ الحزبُ خيمتيْن على خطّ الانسحاب عند مزارع شبعا، مع إعادة تحريك قضيّة القسم الشّمالي من بلدة الغجر.
الأرجح أنّ الحزب من خلال تحرّكاته على الحدود اللبنانيّة – الفلسطينيّة يريد استغلال الأزمة الدّاخليّة الإسرائيليّة، التي تنعكسُ على الجيش، لتمرير الرّسائل العسكريّة والأمنيّة. بدءاً من الخيمتيْن وصولاً إلى إلقاء قنبلة مولوتوف قُربَ مُستوطنة المطلّة المُحاذية للحدود، ومروراً بما حصلَ قبل أسابيع قليلة على الشّريط الحدوديّ قُربَ بركة “النّقار” يومَ اقترَب مقاتلون من الحزبِ على الشّريط الحدوديّ.
في هذا الإطار تدخل أيضاً المُناورات العسكريّة التي أجراها الحزب أمام عدسات الإعلام في الجنوب والبقاع، وتسريبه مقاطع فيديو عمّا صار يحوزه من أسلحة نوعية من مُدرّعات ودبّابات غنمَ أكثرها أثناء مشاركته في الحرب السّوريّة، إضافة إلى “دوبل كورنيت الروسي المُطوّر إيرانياً”.
4- أمّا الخطر الأكبر والأبعد كما يراه الإسرائيليّون فهي إيران. ذلك أنّ الوضع في طهران لا يُطمئن القيادة العسكريّة والسّياسيّة الإسرائيليّة. فمنذ انسحاب الرّئيس الأميركيّ السّابق دونالد ترامب من الاتفاق النّوويّ في 2018 يعمل البرنامج النّوويّ الإيرانيّ من دون قيودٍ.
هذا ولم تتوقّف إيران يوماً عن تزويد الميليشيات المدعومة منها بالطائرات المُسيّرة والصّواريخ والعتاد وكلّ ما من شأنه أن يرفَع منسوب القلق داخل إسرائيل من اليمَن إلى لبنان وسوريا والعراق وقطاع غزّة وأخيراً الضفّة الغربيّة.
علاوة على ذلك، تُشاهد تل أبيب حليفتها واشنطن تُبرمُ اتفاقاً لتبادل السّجناء مع طهران مُقابل الإفراج عن مليارات الأخيرة المُجمّدة في كوريا الجنوبيّة واليابان والعراق، وهو ما يعني “راحة ماليّة” لإيران.
إقرأ أيضاً: فتح المرونة والعقلانيّة والاعتدال… ماضياً وحاضراً
إسرائيل بين الانقسام والاستغلال الإيرانيّ
تشير هذه العوامل مُجتمعةً إلى أنّ ما يحصل داخل إسرائيل وجيشها قد يُؤثّر على إمساكها بزمام المُبادرة العسكريّة في المُنطقة. وتكمن الخشية العميقة في تل أبيب في استغلال إيران وحلفائها للانقسام الإسرائيليّ لترسيخ مبدأ “وحدة السّاحات” والقول إنّ “الرّدع الإسرائيليّ تآكل”.
ليسَ تفصيلاً أن يُهدّد نائب رئيس الأركان الإسرائيليّ السابق يائير غولان بأنّه إذا لم يتمّ تجنيد الحريديم في الـ”جيش” فإنّه ورفاقه أيضاً لن يخدموا في الاحتياط.
هذا نذيرُ شؤمٍ لدولة تأسّسَت من أجل جيشها، في حين أنّه في كلّ الدّول الطبيعيّة يُؤسّس الجيش من أجل الدولة.
لمتابعة الكاتب على تويتر: jezzini_ayman@