البريكس وأخواتها: “بعثية” عالمية جديدة؟

مدة القراءة 7 د


تتداخل الاستحقاقات الدولية أو العالمية التي ترتبط بواقع منطقة الشرق الأوسط وتؤثّر عليها بشكل مباشر. أبرزها العلاقة العربية مع الولايات المتحدة الأميركية، التي مرّت بخيبات وإخفاقات كثيرة، في موازاة السعي الأميركي الإيراني إلى إعادة إحياء الاتفاق النووي. يأتي ذلك على وقع الحرب الروسية الأوكرانية المستعرة، والبحث الأميركي عن نقاط التقاء مع الصين. في خضمّ هذه التحوّلات، يستسهل كثر طرح مسألة “تغيير النظام العالمي”. وهذا طموح مشروع لكنّه حتى الآن ما يزال مفتعَلاً وناتجاً عن عناصر الدفق الإعلامي والسياسي، أكثر منه عن إجراءات حسّية ومادّية ملموسة تفضي إلى ذلك.

مغامرة “البريكس

من بين الاستسهالات القائمة حول إحداث تغيير في بنية النظام العالمي، الرهان على قمّة بريكس التي عقدت في جنوب إفريقيا، على وقع كلّ هذه التطوّرات الدولية، وفي ظلّ مشاركة دول عديدة بينها عدد من الدول العربية ودول الخليج العربي كضيوف في هذه القمّة، بالإضافة إلى تقدّم عدد من الدول بطلب للانضمام إلى هذه المجموعة ومؤسّساتها المالية. يذهب كثر إلى اعتبار أنّ القمّة قد تؤسّس لاعتماد عملة مشتركة أو موحّدة، وسط إغفال أنّ أيّ عملة سيتمّ اعتمادها ستكون خاضعة في معيار قوّتها لسعر الدولار.

تتداخل الاستحقاقات الدولية أو العالمية التي ترتبط بواقع منطقة الشرق الأوسط وتؤثّر عليها بشكل مباشر. أبرزها العلاقة العربية مع الولايات المتحدة الأميركية، التي مرّت بخيبات وإخفاقات كثيرة

في كلّ الأحوال، وبعيداً عن التنظير في هذه الاستراتيجيات والرؤى، فإنّ الرجوع إلى المنطقة العربية وأحوالها يظهر فارقاً كبيراً بين الدول، فبعضها يواكب الحداثة ويراكم النموّ الاقتصادي، فيما دول أخرى تسجّل عجزاً بعد آخر وتراكم الانهيارات. وهنا لا بدّ من التفريق في التصوّرات، بين دول ذات أدوار واسعة واقتصادات كبيرة، كالمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، وبين دول أخرى متعثّرة تسعى إلى الشراكة مع قمّة البريكس. إذ إنّ الدول ذات الاقتصادات الكبرى لا ترتبط طموحاتها بالذهاب إلى مواجهة الغرب، بعكس واقع الدول المتعثّرة أو التي تتعايش مع الانهيارات التي تريد مواجهة الغرب إمّا لغايات سياسية، أو بنتيجة التخلّف عن الالتحاق بركبه.

بهذا المعنى، هناك ضرورة للدخول العربي إلى مثل هذه القمّة بما يتماثل مع طموحات تتقدّم بها الدول الساعية إلى تطوير اقتصاداتها، والبحث عن العدالة في عالم الاقتصاد العالمي. أمّا محاولة روسيا لتحويل مثل هذا التجمّع إلى مجابهة مع الولايات المتحدة الأميركية والغرب، فمن شأنها أن تفشل مساعي هذه القمّة. وهذا يذكّر بما كانت تقترحه بعض القوميات العربية أو أنظمة البعث العسكريتارية في التخلّف عن أيّ تقدّم تحت شعار مواجهة الغرب أو مواجهة الإمبريالية. فيما تبدو الصين أكثر حذراً من مثل هذا التحرّك، وبالنسبة إليها الأفضل هو التكامل وليس التضادّ.

الدور العربي المتنامي في هذا السياق ستكون له قدرة على المدى الأبعد للعب أدوار توفيقية على الساحة العالمية، انطلاقاً من مواقف التوازن التي اتُّخذت، خصوصاً بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وذهاب الدول العربية، ولا سيّما دول الخليج، إلى إعلاء شأن مصالحها الاستراتيجية على حساب تحالفاتها، وهذا يتّضح من الحفاظ على العلاقة مع الأميركيين والغرب من جهة، ومع روسيا والصين شرقاً من جهة أخرى، والتوصّل إلى عقد اتفاق سعودي إيراني وترتيب العلاقات بينهما برعاية صينية، وقد يتطوّر هذا الاتفاق لاحقاً ليشمل اتفاقات على ساحات مختلفة في المنطقة.

التكامل.. بدل المواجهة

بناء على هذا التصوّر، فإن الدور الذي تطمح إليه القوى العربية، هو القدرة على التأثير في المشهد العالمي، واقتراح مبادرات من شأنها السعي إلى تبريد الأزمات أو تخفيفها، ومنها ما شاركت فيه السعودية والإمارات من قبل بين روسيا وأوكرانيا من أجل إطلاق سراح أسرى ورهائن، وإمكانية اضطلاع إحدى الدول العربية بدور يتّصل بوقف الحرب الروسية الأوكرانية، سواء في الاجتماع الذي عُقد في جدّة وبحث عن فرص لوقف إطلاق النار، أو في زيارتَي رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد لروسيا ولقائه بوتين والتشديد على أهمية وقف هذه الحرب والذهاب إلى مفاوضات، وما نُقل عن رغبة البابا فرنسيس والفاتيكان بالعمل المشترك مع دولة الإمارات لاستضافة قمّة للسلام العالمي وبحث وقف الصراع الروسي الأوكراني.

التنافس على قيادة العالم سيبقى قائماً وفق معيار أساسي يشترط الجدارة، في زمن لم تعُد القوة العسكرية وحدها، ولا القوة الاقتصادية وحدها، كافية لاكتساب هذه الجدارة

من بريكس إلى سياسة التوازن على المستوى الدولي، وتنويع العلاقات الإستراتيجية، بناءً على اقتصادات قويّة، يمكن الاطّلاع على ولادة مشروع عربي قائم بذاته، قابل للتطوّر وطرح الحلول لأزمات كثيرة، بعضها ذات بعد عالمي، وبعضها يتّصل بالمنطقة العربية أو الشرق الأوسط. وهذا قد يؤسس لولادة قوة عالمية جديدة تتوافر فيها مقوّمات التكامل، بدلاً من طرح فكرة تغيير النظام العالمي التي قد توحي في أحد جوانبها بأنّ غايتها مواجهة الغرب أو الولايات المتحدة الأميركية.

يتطوّر جزء من هذه الأدوار في المسارات السياسية والاقتصادية المفتوحة، منذ إكسبو 2020 في دبي، مروراً بقمّة الـcop 28، وصولاً إلى إكسبو الرياض 2030. يشير هذا المسار الاستراتيجي إلى ضرورة التكامل والانفتاح نحو تكوين تكتّلات عابرة للوطنيّات والعصبيّات تتجاوز حدود الأقاليم، بحيث يتقدّم مبدأ رفاهية المواطن واستقرار الأوطان والتفاهم مع الجوار، الذي يبني البيئة المناسبة للنموّ والسلم والمستقبل الأفضل. وليس القصد هو الضمّ أو الطموح في التوسّع المرتكز على القوّة العسكرية أو البشرية أو الثقافة التاريخية، أو إلغاء مفهوم الأوطان والدول، إنّما بل التقارب والتفاهم على نحو ما حدث في مجلس التعاون الخليجي، أو الاتحاد الأوروبي، أو اتحادات أميركا الجنوبية وإفريقيا، وانطلاقاً من فكرة الجامعة العربية، لتكون بذرة أولى لا بدّ من رعايتها وإحيائها وإنمائها مجدّداً. ولا مانع من تكتّلات أوسع تضمّ دولاً غير عربية، لكن بعد أن تنتهي أوهام الأيديولوجيات القاتلة، أو تخيّلات إعادة إحياء الإمبراطوريات والمشاريع التوسّعية.

التنافس على قيادة العالم

التنافس على قيادة العالم سيبقى قائماً وفق معيار أساسي يشترط الجدارة، في زمن لم تعُد القوة العسكرية وحدها، ولا القوة الاقتصادية وحدها، كافية لاكتساب هذه الجدارة. حتى اليوم، ما يزال الغرب بمعناه الثقافي هو الذي يقترح أفكاراً وقيماً، وأنماط عيش، قابلة للعولمة، ولذلك هو الذي يقود البشرية برمّتها على الرغم من كلّ الاعتراضات الأيديولوجية والثقافية والدينية.

إقرأ أيضاً: “بريكس بلس”: فرصة جدّيّة لـ”عالم متوازن”… دونها عقبات

منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، أنشأ الغرب مؤسّسات وقوانين ترعى شؤون العالم بالمعنى الحقوقي، والسياسي، والماليّ. حتى اليوم، ليس من مقترح جدّيّ بديل من هذه المؤسّسات والأنظمة، أو منظومة القيم التي قدّمت وتقدّمت، بغضّ النظر عن تأييدها أو معارضتها. فما يسمّى بالنظام العالمي ليس هيمنة أميركية غربية فحسب، بل هو سلسلة طويلة من الإدارات والمؤسّسات، والقوانين، والشبكات، تنظّم علاقات الدول فيما بينها على مستوى الكوكب بأسره. فمثلاً لا بدائل من محكمة العدل الدولية لفضّ النزاعات الحدودية، ولا بديل من الأمم المتحدة، أو من المحكمة الجنائية الدولية. وفي حالة حصول كارثة طبيعية في أيّ دولة في العالم، لا بدّ لها أن تلجأ إلى الأمم المتحدة، وهي المؤسّسة المولجة صيانة شرعة حقوق الإنسان أو حماية حرّية التجارة في العالم، وصولاً إلى محاكمة مرتكبي جرائم الحرب، ومكافحة العنصرية، ومكافحة الجرائم ضدّ الإنسانية. كلّها عبارة عن “سيستيم” قائم بذاته، يُعتبر من أساسيّات النظام العالمي، وقد اكتسبت سمة عالمية، وصولاً إلى قيادة آلاف الأبحاث العلمية بحثاً عن علاجات طبّية أو غيرها. ولكن أيضاً لا يمكن إغفال العطب أو الضعف أو الاعتراضات التي تعيق عمل هذه المؤسّسات أو تقترح أفكاراً لتطوير عملها وتغيير آليّتها، ولا سيّما أنّ أيّ تغيير جوهري فيها أو في مهامّها سيعني بشكل أو بآخر تغييراً في النظام العالمي.

مواضيع ذات صلة

هل تملأ مصر فراغ التّسليم والتّسلّم؟

يترنّح المسار التفاوضي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية تحت وطأة الضغوط العسكرية التي تمارسها الحكومة الإسرائيلية في عدوانها الوحشي بحقّ لبنان. في الأثناء، يواظب الموفد…

برّي ينتظر جواب هوكستين خلال 48 ساعة

تحت وقع النيران المشتعلة أعرب الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب عن موافقته على أن يستكمل الرئيس جو بايدن مسعاه للوصول إلى اتّفاق لوقف إطلاق النار…

الجيش في الجنوب: mission impossible!

لم يعد من أدنى شكّ في أنّ العدوّ الإسرائيلي، وبوتيرة متزايدة، يسعى إلى تحقيق كامل بنك أهدافه العسكرية والمدنية، من جرائم إبادة، في الوقت الفاصل…

وزير الخارجيّة المصريّ في بيروت: لا لكسر التّوازنات

كثير من الضوضاء يلفّ الزيارة غير الحتميّة للموفد الأميركي آموس هوكستين لبيروت، وسط تضارب في المواقف والتسريبات من الجانب الإسرائيلي حول الانتقال إلى المرحلة الثانية…