التقوى والسلام: المتّهم بشار الأسد..

مدة القراءة 7 د


.. “لحظات لا تُنسى كأنّها أمامي الآن، عشت حالة من الذهول تحت وقع الانفجار، وخسرت سمعي دقائق عدّة، نظرت حولي فلم أجد سوى الدمار والدماء. اتّجهت إلى باب المسجد حيث منعتني النار المخيفة من الخروج، فما كان منّي إلّا أن توجّهت إلى الباب الخلفي، فإذا بأشلاء المصلّين تملأ الأرض. الشابّ الذي توجّهت إليه بالتحيّة أثناء الدخول إلى الصلاة، ترقد جثّته أمامي. تعرّفت عليه من ملابسه. مضت 10 سنوات وصرخات الناس وعويلهم ما تزال تسكن مخيّلتي. كانت لحظات رعب شديدة. صور الجثث المتفحّمة، وتحديداً جثّة امرأة عجوز محروقة، لا تغادرني”. بتلك الكلمات يصف الشابّ الطرابلسي علي الأسمر لحظة انفجار مسجد التقوى عند نهر أبو علي قبل 10 سنوات.
23 آب 2013 ذكرى لها في كلّ منزل طرابلسي قصة حزينة أو صورة أب أو أخ أو ابنٍ معلّقة على الجدار، ومنهم من قُتل في مسجد التقوى، فيما آخرون قتلوا في مسجد السلام.
10 سنوات مرّت على تفجيرَي مسجدَي التقوى والسلام اللذين قتلا 55 شخصاً وأسقطا ما يقارب 400 جريح. إلّا أنّ السنوات العشر تلك لم تُسقط صوت الانفجارين، إذ ما يزال الصدى يتردّد في كلّ شوارع وأزقّة عاصمة الشمال.
لم تتغيّر اللحظة منذ 10 سنوات، فما يزال صراخ الأهالي يرتفع بحثاً عن أولادهم، فيما رائحة الأشلاء البشرية المحترقة تغالب رائحة الياسمين في المدينة.
ما تزال الأوجاع هي نفسها، دفينةً في داخل كلّ شخص فقدَ حبيباً وينتظر حكم القضاء ومجلسه العدلي بحقّ المتّهمين الذين يمرحون خلف الحدود ويستقبلون من اللبنانيين شخصيات ووفوداً.

عندما تحاسَب الضحيّة
شيخ قرّاء طرابلس وإمام وخطيب مسجد السلام الشيخ بلال بارودي وأحد أبرز الشهود على الفاجعة يستعيد مع “أساس” دقائق القتل قائلاً: “لحظات لا أنساها حتى أستذكرها. هي تعيش معي وبداخلي منذ نزولي عن المنبر في ذلك اليوم. للوهلة الأولى لم أكن أعلم أنّني مصاب. شاهدت الجرحى والنيران ولم أسمع صوت الانفجار. هرعت إلى منزلي الذي يقع فوق الجامع للاطمئنان على عائلتي فوجدتهم مصابين، لكنّ إصاباتهم ليست خطيرة، وسمعت ابني الصغير البالغ من العمر حينها 5 سنوات يقول لابنتي “بابا مات”. بقي 11 يوماً لا يأكل لأنّه كان في حالة صدمة. خلال فترة الحرب لم يحصل مثل هذا التفجير، وهذا دليل على كميّة الحقد”، مشيراً إلى أنّ “هدف الجريمة لم يتمّ، إذ كان الهدف الأساسي تفجير المصلّين أثناء خروجهم من الجامع بعد انتهاء الصلاة، لكن حينها تأخّرنا في خطبة الجمعة، وكذلك الأمر بالنسبة لمسجد التقوى. تمّ وضع السيارة في مكان بعيد عن الجميع. كان المجرم يتوقّع سقوط 1,000 قتيل”.
بعد 10 سنوات يقول الشيخ بارودي: “أوّلاً هدفنا ليس الإمساك بالفاعل بل أن نُري الفاعل بأنّك لم تفعل شيئاً، وثانياً زرع الأمل في الناس بقول كلمة الحقّ وعدم الخوف، وثالثاً ما يحصل في سوريا بالذكرى العاشرة للتفجيرين فيه عبرة، وهي أنّ الشعب السوري كالشعب اللبناني قادر على المحاسبة”.
يتابع: “لا عدالة في لبنان، فالمجرم دائماً في مأمن من العقاب، سواء كان قاتلاً أو لصّاً أو مهرّباً. المأمن من العقاب يسمح بارتفاع نسبة الجرائم. لبنان بلد تحكمه مافيات وعصابات. مثلاً في ملفّ حادثة الكحّالة القضية نامت وتمّ استدعاء أهل الكحّالة إلى التحقيق، كأنّ أهل المنطقة هم المجرمون. وكذلك الأمر في أحداث الطيّونة. المعتدى عليه صار مطلوباً للعدالة”.
يختم بارودي كلامه: “قبل 3 سنوات من الانفجار كان التركيز الإعلامي على أنّ طرابلس هي قندهار ومدينة الإرهاب. أمّا بعد الانفجار فأصبحنا نملك شهادة براءة، شهادة التقوى والسلام، وأصبحنا ضحايا، على الرغم من أنّنا نعلم منذ اللحظة الأولى للانفجار مَن الفاعل. عندما تمّ سؤالي في النيابة العامّة “من تتّهم؟”، قلت لهم “بشار الأسد”.

من يُنصف الشهداء وعائلاتهم؟
إمام مسجد التقوى الشيخ سالم الرافعي الذي كان يخطب بالناس يوم الانفجار، يستذكر تلك اللحظة متحدّثاً إلى “أساس”: “أذكر جيّداً صورة المصلّين وعائلاتهم وهي تبحث عن أشلاء أبنائها وتنتشلها من بين الركام. صور الجثث المتفحّمة المنتشرة في كلّ زوايا المسجد لا تغادر مخيّلتي”.
يضيف: “لم تتمكّن الدولة من توقيف المجرمين أو مَن خطّط للقيام بهذا التفجير، والتحقيقات وصلت إلى طريق مسدود كتحقيقات تفجير مرفأ بيروت”.
يختم بالقول: “للأسف الشديد كثرت الجرائم في لبنان، ولا يعاقَب الجناة، بخاصة إذا كانوا ينتمون إلى محور معيّن. تبقى كلّها ذكريات كذكرى تفجير المسجدين وتفجير المرفأ. نخشى أنّه إذا بقيت كلّ الجرائم ذكريات واكتُفي بها من دون معاقبة الجناة فسيصبح لبنان نفسه ذكرى أيضاً، لأنّه إذا غاب العدل فإنّ مصير البلد الهلاك”.

لم تتغيّر اللحظة منذ 10 سنوات، فما يزال صراخ الأهالي يرتفع بحثاً عن أولادهم، فيما رائحة الأشلاء البشرية المحترقة تغالب رائحة الياسمين في المدينة

شهادات لجرح لم يغلَق
الطفل أحمد غمراوي أحد شهداء تفجير مسجد التقوى بقيت عائلته تبحث عنه 3 أيام بعدما وزّعت صوره على جدران المدينة ووسائل التواصل الاجتماعي. تروي والدته لـ”أساس” قصة المأساة فتقول: “كلّما مررت أمام جامع التقوى أُصاب بـ”دوار” شديد وأشعر بأنّني سأغيب عن الوعي. يقع منزلي خلف المسجد، وعندما يأتي يوم 23 آب يعود الزمن بي إلى عام 2013. ما تزال لحظة الانفجار راسخة في ذاكرة عدد كبير من الطرابلسيين ممّن فقدوا حبيباً أو أخاً أو أباً أو أختاً. عاشت عائلتي أوقاتاً عصيبة، فقد اعتدْت على ذهاب ابني للصلاة في يوم العطلة كعادته كلّ يوم جمعة”.
تصمت قليلاً والدموع تنهمر من عينيها: “بعد الانفجار مضت أيام قبل العثور على أشلاء جثّة ابني الصغير الذي كان يبلغ حينها 10 أعوام، لأنّ الانفجار قذفها بعيداً. وبعد جهد جهيد تسلّمنا الأشلاء التي توزّعت على عدّة مستشفيات كانت تستقبل الجثث والجرحى حينها”.

أمّا خالد الأسود الذي كان يعمل في مقهى قريب من جامع السلام فيروي لـ”أساس” لحظة الانفجار قائلاً: “لحظات لا تُنسى حين سمعنا صوت انفجار بعيد، ولم نكن نعرف حينها أنّه استهدف مسجد التقوى عند نهر أبو علي. هرعنا باتجاه الصوت لنعرف ما حصل. وما إن قطعنا أمتاراً، ولم تكن ثلاث دقائق قد مرّت بعد، حتى سمعنا انفجاراً آخر مزلزلاً، فنظرنا وراءنا، فرأينا دخاناً وناراً في المكان الذي كنّا نجلس فيه. فهمنا أنّ كارثة ثانية قد وقعت، فعدنا أدراجنا”.
يضيف: “عدنا لنطفئ النار، ونلملم الجثث والأشلاء. لم يكن في المكان غير الدماء والصراخ. كان ثمّة سيارة تحترق وبداخلها رجل وامرأة، فأخرجنا الرجل ولم نتمكّن من إسعاف المرأة التي تفحّمت”. يقول صديقه عمار الصغير الذي كان معه لحظة وقوع الانفجار: “الأصعب هو أنّ الناس كانوا “يولولون” ويبكون وهم يبحثون عن أبنائهم. كلٌّ يأتي ليسألنا إذا شاهدنا ابنه أو ابنته. حاولنا تهدئة روع الناس، لكنّهم ما كانوا قادرين على احتمال الانتظار، وهم يعرفون أنّ أولادهم يحترقون في الداخل، ولا يستطيعون مساعدتهم أو البحث عنهم”.
من منّا ينسى بائع العصير وابنه اللذين توفّيا أمام مسجد التقوى. ابن شقيق بائع عصير الليمون عبد الهادي الناظر يروي لنا تفاصيل ذلك اليوم: “عربة العصير بقي منها جزء صغير، والحاجّ عمّي تطايرت جثّته. وجدنا أوّل جزء من أشلائه في جبّانة الغرباء. لم نكن نعلم أنّ ابنه كان معه حينها. تعرّفت على جثّة ابن عمي قبل أن أتعرّف على جثّة عمّي عندما كنّا نفتح برّادات الموتى في المستشفيات، وكانت الصدمة أصعب عندما وجدت جثّته”.

بائع الكعك سمير كاج الذي توفّي مع ابنته أمام مسجد التقوى أيضاً قصة لا تقلّ ألماً عن قصّة بائع العصير يرويها ابنه: “كنت أصلّي في جامع حربا لأنّ الصلاة تنتهي فيه قبل مسجد التقوى. أنا أبيع الكعك أيضاً. وصلت إلى دوّار أبو علي وحصل الانفجار، فبدأت الناس تركض يميناً ويساراً وهرعنا إلى الجامع لتقديم المساعدة. اتّصلت بالمنزل وسألت عن أختي فقالوا لي إنّها مع والدي. كنت أعلم أنّ أبي داخل المسجد، لكن لم أكن متأكّداً من أنّ أختي كانت تقف في الخارج أمام عربة الكعك تنتظر والدي لينهي صلاته. بدأنا بالبحث عنهما فلم نجد غير أشلاء. أصعب لحظة في حياتي حين شاهدت أختي مقطّعة ومحروقة، وأمّا أبي فلم نجد منه غير رجله وكيس أشلاء من اللحم لا تنسى”.

وقع تفجيرا مسجدَي التقوى والسلام، وما يزال الجناة فارّين من وجه العدالة، لكن خلال تلك السنوات العشر كان المئات من أبناء طرابلس يقبعون في السجون اللبنانية من دون محاكمة وتهمتهم الوحيدة أنّهم أبناء هذه المدينة.

مواضيع ذات صلة

مشاورات “الأعياد”: لا 65 صوتاً لأيّ مرشّح بعد!

تَجزم مصادر نيابية لموقع “أساس” بأنّ المشاورات الرئاسية في شأن جلسة التاسع من كانون الثاني قد تخفّ وتيرتها خلال فترة الأعياد، لكنّها لن تتوقّف، وقد…

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…