تؤكّد الوثائق والدراسات التاريخية أنّ الأفارقة تعرّضوا للاستعباد على يد ثلاث قوى أوروبية رئيسية هي بريطانيا وإسبانيا اللتان تنافستا على التجارة بالمستعبَدين الأفارقة وبيعهم إلى أسيادهم الجدد في الولايات المتحدة وأميركا الجنوبية وجزر الكاريبي. أمّا الدولة الثالثة التي مارست الاستعباد فكانت فرنسا. وقد تمثّل استعبادها للأفارقة في الاستعمار الداخلي، وفي تشغيل الشباب منهم في قواتها العسكرية (من دول المغرب العربي حتى الهند الصينية أو فيتنام ولاوس اليوم).
تحرّرت الدول الإفريقية من الاستعمار، لكن بقيت اللغة الفرنسية اللغة الأولى في الدولة. وبقيت العملة الوطنية مرتبطة بالخزينة الفرنسية، وبقيت لغة التخاطب والثقافة اللغة الفرنسية (الفرنكوفونية). وفوق ذلك كلّه بقيت قوات فرنسية لتحمي استقلال وسيادة الدول الإفريقية التي استقلّت عنها منذ الستينيات من القرن الماضي!
لكنّ الوقائع أثبتت أنّ هذه القوات الفرنسية كانت تتولّى حماية شيء آخر هو مناجم الذهب واليورانيوم والفوسفات وغيرها من المعادن التي تنتشر في الأراضي الإفريقية.
الهيمنة بوابة الديمقراطية
دخلت الديمقراطية إفريقيا من بوّابة الهيمنة الفرنسية. وكانت وسيلة لوصول المؤتَمنين على المصالح الفرنسية. كان التنافس حصراً بين القوى الملتزمة بهذه المصالح. وقد استحال وصول قوى معادية للمصالح الفرنسية إلى السلطة. وهكذا انحصر التنافس على السلطة بين نوعية معيّنة من السياسيين المحليّين، وتحوّل إلى تنافس داخل الحضن الفرنسي وفي إطار الحرص على سلامة مصالحها المادّية والمعنوية. أدّى هذا التنافس إلى استشراء الفساد وتداول السلطة بين قوى تختلف على كلّ شيء لكنّها تقف باحترام أمام المصالح الفرنسية.
قلَب العسكر هذا الوضع بالقوّة المسلّحة، فتحرّكت جيوش دول كانت تحتلّها فرنسا، وقامت بانقلابات عسكرية للإطاحة بالحكومات التي تنام على كتف المستعمِر السابق كما قال الفيلسوف الإفريقي الكاميروني “أشيل بومبة” في مقال نشرته صحيفة لوموند الفرنسية. وفي هذا المقال قال الفيلسوف الإفريقي إنّ الاستعمار الفرنسي لدول غرب إفريقيا استمرّ بعد استقلال هذه الدول في الستينيات من القرن الماضي. استمرّ عسكرياً (استمرار القواعد العسكرية)، وسياسياً (استمرار الهيمنة على صناعة القرار)، وثقافياً (سيطرة اللغة الفرنسية)، وماليّاً مع استمرار ربط العملة الوطنية بالخزينة الفرنسية والسيطرة على الثروات الطبيعية والموادّ الخام.
تبقى قضية اليورانيوم الذي تنتجه النيجر، والذي تحتاج إليه فرنسا لتوليد الكهرباء، خاصة بعد ارتفاع أسعار الغاز والمازوت نتيجة المقاطعة الأوروبية للإنتاج الروسي
أدّى خضوع أو إخضاع الطبقة السياسية الإفريقية لحسابات المصالح الاستراتيجية الفرنسية إلى ظهور حركات تململ جسّدتها سلسلة الانقلابات العسكرية التي كان آخرها ما حدث في النيجر.
يؤكّد ذلك ردود الفعل الإفريقية على هذا الانقلاب. فالسياسيون قرّروا مواجهته تحت شعار “التمسّك بالديمقراطية”، وهدّدوا بإرسال قواتهم إلى النيجر لاستعادة شرعية الرئيس محمد، الذي احتُجز في الإقامة الجبرية، وإعادة الديمقراطية إلى مجراها الطبيعي. ولكنّ بعض الدول الإفريقية رفضت المشاركة في هذه العملية العسكرية. فقد كانت لدى هذا البعض مخاوف من أن تتحوّل المشاركة إلى عصيان، والعصيان إلى عمل عسكري مضادّ. وبعض الدول الإفريقية الأخرى رفضت من حيث المبدأ أيّ تدخّل، وذلك تحت شعار “لا تقاتل بين الأفارقة دفاعاً عن مصالح غير الأفارقة”. وهكذا استُبعدت العملية العسكرية للإطاحة بالانقلاب في النيجر خوفاً من أن تؤدّي إلى سلسلة انقلابات في الدول الإفريقية ذاتها التي تشارك في العملية.
تبقى قضية اليورانيوم الذي تنتجه النيجر، والذي تحتاج إليه فرنسا لتوليد الكهرباء، خاصة بعد ارتفاع أسعار الغاز والمازوت نتيجة المقاطعة الأوروبية للإنتاج الروسي.
اليورانيوم النيجيري إنتاجه سهل وذو كلفة متدنّية جدّاً. إلا أنّ عائدات النيجر منه ضئيلة جدّاً. فهي تستورد الكهرباء من جارتها نيجيريا، أكبر الدول الإفريقية، وما تستورده لا يغطّي سوى جزء من حاجتها.
عندما اتّخذت مجموعة دول غرب إفريقيا القرار بالتدخّل العسكري ضدّ الانقلاب كان واضحاً أنّ القرار يستجيب للإرادة السياسية الفرنسية. إلا أنّ تنفيذ القرار عسكري. وعسكر دول هذه المجموعة لا يبدون تعاطفاً مع فرنسا. من هنا كان التعثّر في التنفيذ. بل كان هناك تخوّف من ارتدادات سلبية في داخل عدد من الدول الإفريقية ذاتها.
أدركت الولايات المتحدة أمرين: الأمر الأوّل هو أنّ الانقلاب في النيجر كان ضدّ فرنسا ولم يكن بوحي من روسيا، أي يعكس شعوراً بالكراهية لفرنسا لا شعوراً بالودّ لروسيا. أمّا الأمر الثاني فهو أنّ أيّ ردّ فعل أميركي مباشر أو بإيحاء أميركي ضدّ الانقلاب من شأنه أن يرمي النيجر في أحضان روسيا. من هنا كان حرص واشنطن على أن تقوم بدور استيعابي لا بدور صداميّ.
إقرأ أيضاً: انقلاب النيجر: نهاية نفوذ فرنسا… واليورانيوم في يد الروس
وبين الاستيعاب والصدام مساحة للتحرّك الدبلوماسي: ترحيباً وترهيباً.
في مطلع السبعينيات من القرن الماضي شهدت منطقة الخليج العربي وضعاً مشابهاً عندما أفل نجم الهيمنة البريطانية. يومها تحرّكت الولايات المتحدة على استحياء لملء الفراغ قبل أن ترسل قطعاً من أسطولها السابع إلى المحيط الهندي ثمّ عبر مضيق هرمز إلى الخليج.
في السياسة كما في الطبيعة، لا يوجد مكان للفراغ. يملأ الفراغ أوّلاً من يتحرّك أوّلاً. والتحرّك الأميركي في غرب إفريقيا هو من هذا النوع. وهو يتميّز بالاستيعاب لا بالصدام، في ضوء تجربة أثبتت أنّها كانت ناجحة!