ملحمة سامر رضوان: “ابتسم أيّها الجنرال”.. السوري

مدة القراءة 9 د

ربّما كان أكبر تحدٍّ أمام الكاتب السوري سامر رضوان عدم الانزلاق في السرديّة السياسية المباشرة في عمله الأخير “ابتسم أيّها الجنرال”. فهذه المرّة الأولى التي يرتقي فيها الكاتب إلى النقطة صفر من المنطقة المحرّمة، فيحلّل الشخصية السايكوباتية أو psychophatic (العدوانيّة التي لا تشعر بوخز الضمير) لحاكم عربي في دولة رمزية اسمها الفرات (نسبة إلى نهر الفرات الذي يجتازها).

ففي مسلسل “ولادة من الخاصرة” بأجزائه الثلاثة بين عامَي 2011 و2013، تناول رضوان بجرأة غير معهودة الشخصية السايكوباتية لضابط الأمن، وأبرزهم المقدّم رؤوف (عابد فهد). أمّا في مسلسل “دقيقة صمت” لعام 2019، فقد دخل الكاتب إلى الدهاليز التآمريّة لعصبة داخل نظام سياسي أمنيّ فاسد، في قصّة رمزية تتحدّى الخيال، حين يتمكّن ضابط الأمن العميد عصام (خالد قيش) من التلاعب برؤسائه، فيوقع بهم قبل أن يجعلوه ضحيّة الخطأ المقصود (إعدام شخصين مكان آخرَيْن).

ربّما كان أكبر تحدٍّ أمام الكاتب السوري سامر رضوان عدم الانزلاق في السرديّة السياسية المباشرة في عمله الأخير “ابتسم أيّها الجنرال”

بالمقارنة الدرامية بين المسلسلات الثلاثة، يبدو المقدّم رؤوف (سلوكه يعاكس اسمه)، نموذجاً مصغّراً لجنرال دولة فرات، فيما تتشابه شخصيّتا العميد عصام في “دقيقة صمت” مع العميد حيدر في “ابتسم أيّها الجنرال” من حيث إنّ رجال الأمن في النظم الشمولية يتلاعبون بالسياسيّين بقدر ما يخدمونهم، وهو ما قد يبدو موضوعة ثابتة لدى كاتب السيناريو، واقتناعاً راسخاً لديه يتطابق مع الرأي الشعبي السائد، وهو أنّ رجال الأمن في هذه الدولة الفراتيّة (سوريا الأسد) هم حقّاً من يديرون البلد، ويسرّبون ميولهم ومصالحهم في مجرى الأحداث.

تتبدّى كلّ هذه المعاني بقوّة في “ابتسم أيّها الجنرال”، المسلسل الذي هو على حافة التماسّ بين الواقع والخيال. فإذا بالأحداث، والمعالم، والرموز، والعبارات المفتاحيّة التي تتردّد بين مشهد وآخر، تُنعش ذاكرة المتلقّي، فتنبّهه ولو للحظات من غفلات الخيال الدرامي، فتعيده هنيهات قصيرات إلى الواقع. وهذه التواردات تتحرّك في غير سياقها الزمني الواقعي، لكن في البلد نفسه، دولة الفرات، الدولة التي تتشخّص برئيسها. الصراع بين الشقيقين فرات وعاصي مثلاً، لا يرمز إلى صراع مفترض بين بشّار وماهر الأسد، بل هو استمداد من صراع حقيقي بين حافظ ورفعت الأسد في ثمانينيّات القرن الماضي، لكنّه حاصلٌ دراميّاً بوساطة الدمج الرمزي المكثّف لشخصيّات المسلسل وأحداثه.

رفيق الحريري.. والدولة الغربية

ظاهرة النوادي الثقافية في بداية حكم بشّار عام 2000 وما تلاه، وإلى مدّة قصيرة، في ما سُمّي بربيع دمشق، وكانت إرهاصاً لحياة سياسية فيها شيء من الليبرالية المقنّنة، سبقت بسنوات عدّة اغتيال رفيق الحريري في لبنان (نصير الجيلاني صاحب قناة تلفزيونية في الدولة الغربية)، لكنّها تُذكر على نحوٍ مقتضبٍ في توقيت درامي مختلف بحيث تبدو غريبة حتى عن سياق الأحداث. ولهذا التداخل الزمني بين مرحلتين تمتدّان لنصف قرن، فائدة اختزال الأحداث في زمن الرواية إلى أقصى حدّ من دون الإخلال بالمعنى. كما أنّ للتخادم بين الواقع المعيش والدراما المتخيَّلة، دوراً أساسيّاً وغير منظور في البناء الدرامي، وفي تطوّر شخصيّات المسلسل. فلم يكن الكاتب ليحتاج إلى كثير من الشرح والتمهيد، في الحلقات الأولى، بل إنّه جرت تهيئة الجمهور قبل عرض المسلسل، بالإشارة في حملة الترويج له إلى الإسقاطات التاريخية والراهنة المتوقّعة، فأصبح المتلقّي جاهزاً منذ الحلقة الأولى، لإعمال الفكر وتنشيط الذاكرة واستعراض الشخصيّات السياسية والعسكرية والأمنيّة والاقتصادية الواقعية على أبطال المسلسل.

استغلّ سامر رضوان الفُضول الفطري لدى الجمهور لمعرفة حقيقة الفضيحة وأشخاصها، فعقد منذ الحلقة الأولى رباطاً وثيقاً بينه وبين الجمهور الذي ازداد تشوّقاً وتشوّفاً لمعرفة سير الأحداث وحصائلها

أسهم هذا الاستحضار في أمرين متلازمين:

– أوّلاً، دفع المتلقّي إلى أن يكون مشاركاً بقدرٍ ما في تشكيل روايته الخاصة وتقدير هويّة أبطالها وأدوارهم في الواقع.

– وثانياً، ملء الفراغ في بنية الحكاية الدرامية بمَدَد من الذاكرة الشعبية الغنيّة بالقصص وتأويلاتها، وهو ما جعل المسلسل يحقّق قفزة قويّة مع تتالي الحلقات عقب تذخير مؤقّت من الواقع المعيش. علماً أنّ هذا شتّت في البداية انتباه المشاهدين إلى حين، من قوّة الصدمة الأولى، التي لا ترقى إلى شدّة صدمة الحلقة الأولى من “دقيقة صمت”: فضيحة أخلاقية يعلنها العميد وضّاح فضل الله، خارج كلّ مقياس، بكشف علاقاته السابقة بالنساء المدعوّات إلى حفلة لمناسبة تقاعده، وهنّ بصحبة أزواجهنّ، فراح الجميع يبحث داخل الإطار الدرامي عن ماهيّة الفضيحة، ومعهم الجمهور المستعرِض لاحتمالات الواقع.

إنّها اللعبة التي أشركَ فيها سامر رضوان كلّ الناس. فمن يكون وضّاح في الواقع؟ ومن هم أبطال الفضيحة؟

طارت التكهّنات في كلّ اتّجاه. استغلّ سامر رضوان الفُضول الفطري لدى الجمهور لمعرفة حقيقة الفضيحة وأشخاصها، فعقد منذ الحلقة الأولى رباطاً وثيقاً بينه وبين الجمهور الذي ازداد تشوّقاً وتشوّفاً لمعرفة سير الأحداث وحصائلها. لكنّ الالتهاء الظرفي بإسقاط الوقائع على الدراما، جعل الحلقات الأولى تمرّ بأقلّ قدر من الإثارة، حتى بدا أنّ الخيط الدراميّ قد تراخى، ودخلنا مرحلة التيه. لم يطُل الأمر كثيراً، حتى تغلّبت الحبكة الدرامية تدريجياً فراحت الأحداث المتعاقبة تحبس الأنفاس. فماذا سيفضح وضّاح؟ وما مصير قناة الشروق التي تورّطت ببثّ خبر الفضيحة المدوّية التي أطلقها وضّاح؟ وما مخطّط عاصي شقيق الرئيس فرات للانقلاب عليه؟ ما هي تحالفاته؟ ما هي الخطّة المضادّة للعميد حيدر؟ وما هي أدواته؟ الجماعات الجهاديّة غبّ الطلب، الوسائل الأمنيّة القذرة للإيقاع بعاصي وتفكيك مصادر قوّته؟ وأخيراً، الاستعانة بالعدوّ الإسرائيلي وتقديم التنازلات له من الأرض المحتلّة لقاء تغليب فرات على عاصي المستقوي بقوى خارجية (فرنسا).

بين الواقع والخيال

الأحداث الرئيسية للمسلسل، من مثل وصول فرات إلى السلطة عقب وفاة أبيه، اختلاف رجال النظام على توريثه الحكم، استبعاد معظمهم والإبقاء على قلّة منهم، تعديل الدستور كي يكون على مقاسه، مشكلة شقيقة الرئيس واعتراض الأسرة الحاكمة على زواجها، مواجهة المشكلات بسبب تدخّل الدولة بشؤون دولة شقيقة مجاورة، واغتيال شخصيّة مهمّة في البلد الثاني واستنفار العالم لمعاقبة الدولة المعتدية، خروج تظاهرات في البلد الثاني أوّلاً احتجاجاً على الاغتيال، ثمّ تظاهرات أخرى في البلد الأوّل بعد فضيحة استعمال موادّ كيميائية على معتقلين، استخدام جهاديّين مأسورين لتشكيل عصابات مسلّحة وتنفيذ عمليّات مدروسة، وحتى تشكيل تنظيم الدولة (داعش)، بناء سجن تحت الأرض لاستقبال معتقلين إرهابيين من أنحاء العالم بالتنسيق مع دول أجنبية، تفجير خليّة الأزمة في بداية الثورة السورية وإلقاء التهمة على جهات داخلية وخارجية، الاستعانة بإسرائيل للتغلّب على الأعداء في الداخل والخارج. كلّ هذه ترمز لأحداث واقعيّة أو شهد بها أفراد أو جماعات، أو تداول السوريون تحليلات وتكهّنات عنها في العقد الماضي. تناولها سامر رضوان في ملحمته المختزَلة ليس من دون إضفاء رأيه الخاصّ في الأحداث، وهو الذي يقف خلف شخصية وضّاح فضل الله، المصاب بالسرطان، ويريد فضح كلّ شيء قبل وفاته، في تداخل لا يقلّ حساسيّة بين الكاتب والراوي الرئيسي في المسلسل.

فاجأ سامر رضوان المشاهدين بافتتاحية صادمة، الفضيحة المدوّية التي تطال نخبة المجتمع الفراتيّ، فقد فاجأهم بخاتمة ولا أقوى، وهو مشهد تسميم فرات لصهره نزار زين الدين، وبتقديم الطعام والشراب بنفسه له

النصّ – البطل

في هذا المسلسل، كحال ما سبقه من مسلسلات بتوقيع الكاتب سامر رضوان، فإنّ الموقع الأبرز يبقى له، مع أنّ الممثّلين في “ابتسم أيّها الجنرال” قدّموا بمجملهم أداءً متفاوتاً يصل أحياناً إلى التفوّق على الذات بالنظر إلى حساسيّة الأمر. النصّ هو البطل الحقيقي. وهو الرافعة الأساسية للمسلسل. يليه أداء استثنائي للممثّل المخضرم عبد الحكيم قطيفان في دور العميد حيدر. ويمكن القول إنّه كان بتشخيصه رجل الأمن الأوّل في نظام فرات على قدر النصّ من حيث بلاغته وقوّته:

– تمكّن الممثّل مكسيم خليل من الإمساك جيّداً بشخصيّة الحاكم العبوس المهووس بالسلطة، الذي لا تردعه أيّ قرابة أو صداقة عن اتّخاذ القرار الذي يحفظ هيبته وهيمنته على المشهد.

– والمفاجأة هو غطفان غنوم (عاصي شقيق فرات)، الذي أبدع في مشاهد كثيرة متقلّباً بين التجبّر والتحسّر.

– محمد الأحمد (وضّاح فضل الله) الرجل الذي هو محور المسلسل، وقلب الحدث.

– مازن الناطور (أنيس الرومي/شخصيّة المتشاوف كالديك الرومي) في دور رجل الأعمال الذي يتولّى الأعمال القذرة للسلطة كان موفّقاً إلى حدّ كبير، وفي مواقف القوّة والضعف.

– ومثله ريم علي (زوجة الرئيس)، وسوسن أرشيد (سامية شقيقة الرئيس).

– وحتى الممثّلون الثانويون كانت لهم صولات وإن كانت قصيرة، مثل عصام المسكي الذي لعب دور المحقّق في دولة الغرب (لبنان) المقدّم نوار، فكان مشخِّصاً بإبداع للعلاقات المتوتّرة بين سوريا المحتلّة ولبنان الخاضع للاحتلال، وخالد أبو بكر الذي أدّى دور الضابط (جاسم) والذي قاد عملية الهجوم على قناة الشروق، ثمّ اعتقله المقدّم نوّار وتولّى التحقيق معه، ثمّ قام بعد تحريره من السجن بالانتقام من المقدّم نوّار بطريقة ساديّة.

إقرأ أيضاً: قلقٌ من اللاجئ السوريّ في لبنان… ولكن!

وكما فاجأ سامر رضوان المشاهدين بافتتاحية صادمة، الفضيحة المدوّية التي تطال نخبة المجتمع الفراتيّ، فقد فاجأهم بخاتمة ولا أقوى، وهو مشهد تسميم فرات لصهره نزار زين الدين، وبتقديم الطعام والشراب بنفسه له، على الرغم من دور العماد نزار (بعد ترقيته وتسليمه وزارة الدفاع)، ومن خدمته الجليلة له. انتهى المشهد بتحوّل فرات من العبوس المقيم إلى الابتسام فالقهقهة. وهو يقتبس بلا شكّ، مشهد الأسد وهو يضحك حين زار مدينة حلب إثر الزلزال المدمّر الأخير. الخاتمة هي الخلاصة التي أرادها سامر رضوان تماماً، في تشخيصه للدولة الفراتية ونفسية قائدها الذي لا يقبل شريكاً له. قد تبدو الدراما مغرقة في الواقع، لكنّ الواقع الحقيقي هو أغرب من الخيال وأسوأ منه بكثير.

لمتابعة الكاتب على تويتر: HishamAlaywan64@

مواضيع ذات صلة

وزير الخارجيّة المصريّ في بيروت: لا لكسر التّوازنات

كثير من الضوضاء يلفّ الزيارة غير الحتميّة للموفد الأميركي آموس هوكستين لبيروت، وسط تضارب في المواقف والتسريبات من الجانب الإسرائيلي حول الانتقال إلى المرحلة الثانية…

تعيينات ترامب: الولاء أوّلاً

يترقّب الأميركيون والعالم معرفة ماذا تعلّم الرئيس ترامب من ولايته الأولى التي كانت مليئة بالمفاجآت وحالات الطرد والانشقاقات، وكيف سيكون أسلوب إدارته للحكم في ولايته…

الميدان يَنسِف المفاوضات؟

لا شيء في الميدان على المقلبين الإسرائيلي واللبناني يوحي بأنّ اتّفاق وقف إطلاق النار يسلك طريقه إلى التنفيذ. اليوم ومن خارج “دوام عمل” العدوّ الإسرائيلي…

من يُنسّق مع باسيل بعد وفيق صفا؟

بات من السهولة رصد تراكم نقاط التباعد والفرقة بين التيّار الوطني الحرّ والحزب. حتّى محطة otv المحسوبة على التيّار أصبحت منصّة مفتوحة لأكثر خصوم الحزب شراسة الذين…