تمضي مفاعيل الاتّفاق السعودي الإيراني قُدُماً إثر عودة العلاقات الدبلوماسية بين طهران والرياض، وينعكس ذلك إيجاباً وبطريقة انسيابية على الملفّات اليمنية المتعلّقة بإطلاق سراح الأسرى وتمديد الهدنة بين الأطراف المتصارعة في جبهات القتال. ويوحي عدمُ إعلان أيّ من الطرفين عن عوائق تعترض تنفيذ الاتّفاق بأنّ المرحلة الثانية المتعلّقة بمباشرة الحوار السياسي والتهيئة للمرحلة الانتقالية ستجد طريقها نحو النجاح وفقاً للأجندة الموضوعة.
بالمقابل لا بدّ من ملاحظة تراجع الزخم على المسارات العربية المرتبطة بالاتّفاق والتي تراءى للمتابعين أنّ تداعياته عليها ستُكسبها قدراً من الحيويّة بما يرسم بسهولة مشهداً جديداً في المنطقة.
في هذا الإطار تمثّل كلّ من دمشق وبيروت اختباراً حرجاً لقدرة هذا الاتّفاق على تجاوز الحيّز الجغرافي المتعلّق بأمن الحدود اليمنية السعودية وأمن البنى التحتية الاقتصادية للمملكة، إلى وقف الحملات الإعلامية بين طهران والرياض وتأثيره في العواصم التي أعلنت طهران في أكثر من مناسبة سيطرتها عليها، وبالتالي اختبار التزام طهران بما ورد في الاتّفاق من تأكيدٍ لاحترام سيادة الدول وعدم التدخّل في شؤونها الداخلية. بالمقابل تمتلك سوريا العديد من مقوّمات الاهتمام مقارنةً بلبنان بما يجعل النجاح في إحداث تغيير في الساحة اللبنانية مرهوناً بالنجاح في التأثير في الساحة السورية.
لا بدّ من ملاحظة تراجع الزخم على المسارات العربية المرتبطة بالاتّفاق والتي تراءى للمتابعين أنّ تداعياته عليها ستُكسبها قدراً من الحيويّة بما يرسم بسهولة مشهداً جديداً في المنطقة
تفرض سوريا نفسها مدخلاً إلى أيّ تأثير في الساحة اللبنانية نظراً لعدّة عوامل: أوّلها خضوع القرار السياسي اللبناني المزمن لمؤثّرات وإملاءات دمشق، وثانيها التشرذم اللبناني الداخلي الذي كرّس سلطة الوصاية السورية ممرّاً ملزماً لعبور المجتمعَيْن العربي والدولي نحو لبنان، وآخرها دخول النفوذ الإيراني المنطقة وتحوّله شريكاً لدمشق في الهيمنة على لبنان في زمن الوصاية وحاجة لها بعد انسحاب جيشها وعجز نظامها عن السيطرة على الأراضي السورية بعد اندلاع النزاع المسلّح فيها.
يتلمّس أيّ طرف إقليمي أو دولي يقارب الأزمات اللبنانية المتلاحقة تبعيّة الفريق السياسي اللبناني الذي يقوده حزب الله لدمشق وطهران، وهذا ما يعكسه الموقف الفرنسي منذ “مؤتمر سيدر” الذي أدّى إلى وصول العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، وهذا ما أكّدته محاولات الرئيس ماكرون لتشكيل الحكومات بعد تفجير مرفأ بيروت، وما تؤكّده حاليّاً مواقفه المتمسّكة بمرشّح حزب الله لرئاسة الجمهورية والتي جعلت باريس جزءاً من محور دمشق طهران.
لقد لخّصت واقعَ الحال إجابةُ وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان لدى سؤاله عن تداعيات الاتّفاق بين الرياض وطهران على الأزمة اللبنانية بأنّ “اللبنانيين بحاجة إلى الاتّفاق فيما بينهم وليسوا بحاجة إلى الاتّفاق السعودي الإيراني”. ربّما اعتقد بن فرحان أنّ اللبنانيين توّاقون للانعتاق من الوصايات الخارجية لإنجاز تسوياتهم الوطنية، لكن ما تبيّن هو أنّ فريقاً منهم لا يملك الإرادة لاستثمار المناخات التي أشاعها الاتّفاق واستعادة حرّية قراره الوطني، بل ربّما أضاف الاتّفاق لدى هذا الفريق مزيداً من الإمعان في الالتصاق بالخارج، وربّما الرغبة في توفير مزيد من الأوراق لطهران في المعادلة التي أرساها الاتّفاق. هذا ما أكّدته الزيارات التي قام بها رئيس تيار المردة سليمان فرنجية لحارة حريك ودمشق لإطلاعهما على مجريات اللقاءات التي أجراها في باريس مطلع الشهر الحالي مع المستشار الرئاسي باتريك دوريل والرئيس إيمانويل ماكرون، وتناولت سلاح حزب الله والاستراتيجية الدفاعية، والعلاقة مع سوريا، والعلاقة بالمملكة العربية السعودية والوضع الداخلي اللبناني في ضوء النموذج التعطيلي الذي قدّمه الرئيس السابق ميشال عون.
أمام حالة الإنكار غير المألوف التي تجمع النظام السوري وحزب الله يبدو الخروج من الأزمة اللبنانية بعيداً، ويُسجّل للاتّفاق السعودي الإيراني نجاحه في فصل المسارَيْن اللبناني والسوري
في ضوء استمرار التعثّر اللبنانيّ كيف يمكن قراءة مقاربة المملكة للأزمة السوريّة؟
بعد توقيع الاتّفاق مع طهران اعتمدت المملكة العربية السعودية سياسة انفتاح على سوريا عبر دعوة وزير خارجيّتها فيصل المقداد إلى المملكة في 12 نيسان، وعبر الاجتماع التشاوري لوزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن والعراق في مدينة جدّة في 15 نيسان، واستتبعتهما بزيارة لوزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان لدمشق يوم الثلاثاء في 18 نيسان للقاء الرئيس السوري بشار الأسد.
لقد أكّدت البيانات الصادرة بعد اللقاءات الثلاثة أهميّة الدور القيادي العربي في التوصّل إلى حلّ سياسي يحافظ على وحدة سوريا، وأمنها، واستقرارها، وهويّتها العربية، وسلامة أراضيها، وأهميّة تعزيز الأمن ومكافحة الإرهاب بكلّ أشكاله وتنظيماته، وضرورة دعم مؤسّسات الدولة السورية لبسط سيطرتها على أراضيها وإنهاء وجود الميليشيات المسلّحة ووقف التدخّلات الخارجية في الشأن الداخلي السوري.
لم يبدِ النظام السوري أيّ تجاوب حيال المبادرة السعودية، ولا يبدو أنّه في موقع القدرة على اتّخاذ المبادرة. فالنظام السوري يعيش حالة إنكار للمتغيّرات التي حصلت إبّان حربه الداخلية وأرست ميزاناً جديداً للقوى في الإقليم بحيث أضحى من المستحيل أن تشكّل سوريا بوضعها الراهن جزءاً من أيّ معادلة إقليمية متّصلة بلبنان. وحزب الله أيضاً يعيش حالة إنكار لتوازن إقليمي يضعه في موقع العاجز عن إحداث أيّ تغيير بالقوّة في المعادلة الداخلية القائمة. لقد فرضت المعادلة الإقليمية الجديدة على كلّ من سوريا ولبنان مداراً إلزامياً حول مركز القوّة الجديد.
إقرأ أيضاً: … عن حياد لبنان و”تحييد” المقاومة
أمام حالة الإنكار غير المألوف التي تجمع النظام السوري وحزب الله يبدو الخروج من الأزمة اللبنانية بعيداً، ويُسجّل للاتّفاق السعودي الإيراني نجاحه في فصل المسارَيْن اللبناني والسوري.