السودان: صراع “عسكر البشير”!

مدة القراءة 6 د

لم يكن الصدام الأخير في السودان مفاجئاً، لا بل إنّ المفاجأة هي في تأخّر هذا الصراع في ظلّ إرهاصات توتّرٍ انتقل في الأشهر الأخيرة من التلميح إلى العلنية بين المؤسّسة العسكرية بقيادة عبد الفتاح البرهان من جهة وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (الملقّب بحميدتي) من جهة أخرى.

هندسة النظام السابق
على هذا تتجاوز الحرب بين الطرفين طموحات الرجلين في تزعّم البلد. ارتبط البرهان ودقلو بعلاقات حميمة شخصية حين تولّى البرهان مسؤوليات عسكرية في إقليم دارفور. ارتقى “حميدتي” لاحقاً من قيادة ميليشيات هناك تدعم الدولة في صراعها ضدّ فصائل المعارضة المسلّحة إلى قيادة “قوات الدعم”، وهو الاسم الجديد الذي بات رسمياً وشرعياً لهذه الميليشيات في ظلّ حكم عمر حسن البشير.
حتى في ذلك الحين في عام 2013، وكما يوضح اسم هذه القوات، كانت في النهاية قوّات “دعم”، أي فرعاً من أصل ورديفاً للقوى النظامية وذراعاً لها. غير أنّ ما ظهر للسودانيين والعالم منذ اندلاع “ثورة كانون الأوّل” 2018، مروراً بالإطاحة بالبشير في 11 نيسان 2019، هو أنّ “الدعم” بات شريكاً للجيش لا تابعاً له، وأنّ “حميدتي” صار ندّاً لقائد الجيش لا مرؤوساً له. وحتى قبل ظهور البرهان قائداً عامّاً ظهر دقلو كواجهة رئيسية في الإطاحة بالبشير ونظامه.

كان واضحاً أنّ قادة الجيش لا يعتبرون ولن يعتبروا “حميدتي” واحداً منهم. بالمقابل لن يقبل “حميدتي” أن يُذوِّب الدمج كينونته العسكرية والسياسية

إنّ القوى العسكرية النظامية الحالية في السودان هي القوى التي تمّت هندسة قيادتها في ظلّ النظام السابق. خرج البشير من صفوف القوّات المسلّحة حين قاد الانقلاب عام 1989 تحت مسمّى “ثورة الإنقاذ الوطني” على حكومة زعيم حزب الأمّة الصادق المهدي. تحرّك الرجل القويّ الجديد بالتواطؤ التامّ مع إسلاميّي السودان بزعامة الشيخ حسن الترابي. لكنّ حسابات السلطة فرّقت بين الرجلين وحوّلت الشراكة إلى خصومة. 
تولّى الجيش بقيادة البشير حماية “نظام الإنقاذ”، مستعيناً بالميليشيات في التصدّي للفصائل المسلّحة المعارضة. ومن رحم ميليشيات الجنجويد في دارفور خرجت قوات “حميدتي”. وما حصل أنّ “عسكر البشير”، داخل المؤسّسة العسكرية وخارجها، وبضغط شديد من الثورة في الشارع، انقلب على الرئيس وأطاح بحكمه وبات يسعى، بالاتفاق مع القوى المدنية أو الانقلاب عليها، إلى الحفاظ على السلطة وامتيازاتها ولو بشكل جديد.

بين المدنيّين والعسكر
انقسم المشهد السياسي بعد “ثورة كانون الأول” بين المدنيين والعسكر. غير أنّ حسابات الحكم وتعثّر المرحلة الانتقالية قاد إلى انقسام في صفوف القوى المدنية نفسها. بالمقابل فإنّ الاستحقاقات الداخلية المتلاحقة معطوفةً على تدخّل خارجي علنيّ وخلفيّ دفعت البلاد باتجاه التوقيع في 5 كانون الأول 2022 على “الاتّفاق الإطاريّ” بين القوى المدنية والعسكرية لتدشين مرحلة انتقالية جديدة في البلاد. 
استبشر الجيش خيراً بمطلب توحيد المؤسّسة العسكرية الذي يعني دمج قوات الردع السريع في الجيش. لكنّ الشيطان يكمن في التفاصيل، إذ كشفت “ورشة الإصلاحات العسكرية والأمنيّة” في آذار الماضي أنّ أمر الدمج لن يكون يسيراً. فالجيش يرى أنّ الأمر يستغرق عامين، فيما “الدعم” تطالب بأن يستغرق 10 سنوات، إضافة إلى مطالب أخرى، من بينها تطهير الجيش من “ضبّاط البشير” الإسلاميين.
كان واضحاً أنّ قادة الجيش لا يعتبرون ولن يعتبروا “حميدتي” واحداً منهم. بالمقابل لن يقبل “حميدتي” أن يُذوِّب الدمج كينونته العسكرية والسياسية. ولن تقبل المؤسّسة العسكرية، التي يبدو أنّها كانت وراء موقف البرهان المتشدّد، بأن تصبح “الذراع” أقوى من الجيش. وكان واضحاً من خلال تجربة شراكة البرهان قائداً ودقلو نائباً داخل “مجلس السيادة الانتقالي” أنّ للرجلين أجندات مختلفة وأنّ حراكهما خارج البلاد ليس متكاملاً، بل منقسم وفق انقسام الخرائط الدولية والإقليمية. 
إذا ما كان صراع الغرب مع نفوذ الصين وروسيا في إفريقيا واجهة لهذا الانقسام، فإنّ تقارير هذا الغرب التي تحدّثت عن وجود قاعدة لقوات “فاغنر” الروسية جنوب غرب دارفور، وهي منطقة نفوذ “حميدتي”، مثال على تضارب الحسابات المستورَدة من خارج الحدود داخل البلاد. لكنّ للتناقض في خيارات البرهان و”حميدتي” بعداً إقليمياً أيضاً يسهل استنتاجه قبل الصراع وبتأمّل كيفية مقاربة العواصم له حالياً.

انقسم المشهد السياسي بعد “ثورة كانون الأول” بين المدنيين والعسكر. غير أنّ حسابات الحكم وتعثّر المرحلة الانتقالية قاد إلى انقسام في صفوف القوى المدنية نفسها

لماذا فعلها حميدتي؟
وفق هذا التعقّد تُثار أسئلة بشأن المعطيات التي استند إليها “حميدتي” وأدّت إلى ظهور انتشار مقلق لقوّاته في الخرطوم ومدن أخرى قبل ساعات من انفجار المعارك. صحيح أنّ الرجل اتّهم البرهان بشنّ الحرب ووصفه بـ”المجرم”، لكنّ سرعة تحرّك “قوات الدعم” واستيلاءها على المطار والتلفزيون والإذاعة ومواقع وقواعد للجيش، لا سيما مطار مروي وقاعدته الجوّية، تفضح أنّ الأمر كان مخطّطاً أو استباقياً وليس ردّ فعل انفعاليّاً وحسب. ومن الأسئلة ما يدور حول ما يعوّل عليه الرجل حين أكّد أن لا تراجع قبل السيطرة على كلّ مواقع الجيش واعتقال البرهان ورفاقه.
إذا كان منطق الأمور، الذي لم يفُت قائد قوات الدعم السريع، يقول إنّه لا قدرة لقوات دقلو على الانقلاب على البرهان وهزيمة الجيش، فهل كان مطلوباً إحداث انفجار ما يتيح لاحقاً ترتيبات جديدة في الداخل ومطلوبة من الخارج؟ بالمقابل، إذا ما قيّض للجيش حسم المعركة لصالحه، فذلك لا يعني إقفال الملفّ، بل بالعكس تحويله إلى صراع مفتوح. سبق للسودان في تاريخه الحديث أن شهد صراعات بين الدولة ومعارضيها من دون أن تُلحق هزيمة بالفصائل المسلّحة، بل أدّت إلى انفصال الجنوب عن الشمال عام 2011 واللهاث الصعب وراء الاتفاق معها في دارفور وكردفان والنيل الأزرق وغيرها.
من التبسيط مقاربة الصراع من زاوية أنّه بين الجيش و”الميليشيا” فقط. يمثّل “حميدتي” وتشكيله العسكري منذ مرحلته “الجنجويديّة” عمقاً مناطقياً وقبلياً وعرقياً في دارفور يتجاوز حدود الإقليم الشهير غرب البلاد نحو داخل السودان كما داخل بلدان مجاورة. ولاحقاً بات الرجل يمثّل مصالح ورؤى وحتى أيديولوجية في طبيعة الحكم في البلاد تتّسق مع رؤى ومصالح تتجاوز حدود البلاد، إضافة إلى أنّ الرجل “ابن الدولة” ولم يكن يوماً عدوّاً معارضاً لها، وسيكون على البرهان والجيش أخذ كلّ ذلك بعين الاعتبار.

إقرأ أيضاً: الجوع والذهب.. السودان عند مفترق الطرق؟

يبقى أنّ “القوى المدنية” تتأمّل الصراع، وربّما تمنّي النفس بأن يوفّر الحدث شروطاً أفضل لها، ذلك أنّها قد تشعر بتفوّق أخلاقي مقارنة بما يمسّ سمعة استمرار “عسكر البشير” في حكم البلاد. هنا يظهر من جديد رئيس الوزراء المدني السابق عبد الله حمدوك الذي سبق للثنائي البرهان-حميدتي الانقلاب عليه في 25 تشرين الأول 2021. يدعو الرجل إلى التعقّل والعودة إلى السياسة والحوار، ويكاد يقول للمنقلبين عليه: “اللهمّ لا شماتة”.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: mohamadkawas@

مواضيع ذات صلة

لماذا أعلنت إسرائيل الحرب على البابا فرنسيس؟

أطلقت إسرائيل حملة إعلامية على نطاق عالمي ضدّ البابا فرنسيس. تقوم الحملة على اتّهام البابا باللاساميّة وبالخروج عن المبادئ التي أقرّها المجمع الفاتيكاني الثاني في…

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…