لا يمكن عزل التغيير الجذري الذي حصل في سوريا منذ احتكر حافظ الأسد السلطة في 16 تشرين الثاني 1970، عن المشهد الحالي في لبنان الذي صار مصيره في مهبّ الريح. ما فعله حافظ الأسد في سوريا واستكمله خليفته، ابتداء من عام 2000، في مجال عزل أهل السُّنّة من أبناء المدن السورية الكبرى، دمشق وحلب وحمص وحماة على وجه التحديد، عن موقع القرار، انعكس على لبنان بأن عطب التوازن فيه.
دور السُنّة في التوازن الوطني
هل ضُرب التوازن الداخلي اللبناني إلى الأبد في ظلّ الغياب الفعليّ لأيّ زعامة سنّيّة منذ اغتيال رفيق الحريري في عام 2005 من جهة، وغياب الاهتمامين العربي والدولي بالبلد ومستقبله من جهة أخرى؟
تصعب الإجابة عن مثل هذا السؤال. في المقابل، كلّ ما يمكن قوله أنّ لبنان لم يعد يعاني من فراغ على الصعيد المسيحي فحسب، بل يعاني خصوصاً من الفراغ السنّيّ المخيف أيضاً في حين لم يعد لدى وليد جنبلاط من همٍّ سوى المحافظة على قبيلته الصغيرة التي اسمها الدروز.
كان في استطاعة السُّنّة لعب دور مختلف على صعيد إيجاد توازن في البلد في ظلّ وجود سلاح “حزب الله” وتحكّمه بالقرار اللبناني، وهو ما ظهر واضحاً، مرّة أخرى وليست أخيرة، من خلال تأجيل انتخابات المجالس البلدية. فرض الثنائي الشيعي قرار التأجيل نظراً إلى أن لا مصلحة له في الوقت الحاضر في ظهور أيّ تجاذبات داخل الطائفة، خصوصاً في ظلّ الأزمة المعيشية التي تسبّب بها “حزب الله” بأجندته الإيرانيّة.
لا حاجة إلى تعداد أسماء الشخصيات اللبنانية التي استُهدفت، لكنّ اللافت كان ذلك الإصرار، لدى حافظ الأسد، على التخلّص من أيّ شخصيّة سنّيّة ذات وزن حقيقي
كان يمكن للأزمة المعيشية التي راح ضحيّتها جميع اللبنانيين أن تكشف وجود تململ شعبي شيعي لا حاجة إلى خروجه إلى العلن في الوقت الحاضر. الأكيد أنّ الثنائي الشيعي استفاد إلى أبعد حدود من حاجة “التيار العوني” إلى تفادي أيّ نوع من الانتخابات في ضوء تراجعه مسيحياً من جهة، وبداية ظهور وعي لمدى الضرر الذي ألحقه الثنائي ميشال عون – جبران باسيل بالبلد والمسيحيين على وجه الخصوص، من جهة أخرى.
استكمل ميشال عون بنفسيّته الحاقدة على كلّ نجاح أو شخص ناجح عملية تهجير ممنهجة للمسيحيين بدأها عندما أقام للمرّة الأولى في قصر بعبدا في خريف عام 1988 حتّى يوم 13 تشرين الأول 1990 عندما هرب إلى منزل السفير الفرنسي تاركاً جنوده وضبّاطه الأبطال في مواجهة جيش سوري لا يرحم المدنيين فكيف عندما يتعلّق الأمر بعسكريّين؟!
سُنّة لبنان والتحوّلات السورية
ليس الفراغ السنّيّ الذي يعاني منه لبنان حالياً، في غياب أيّ مشروع آخر، باستثناء مشروع “الحزب” الذي هو مشروع للواء في “الحرس الثوري” الإيراني، سوى تتويج للتحوُّلات التي كانت سوريا مسرحها منذ عام 1970 واحتكار حافظ الأسد للسلطة.
امتلك الأسد الأب، وكان يتمتّع بذكاء سياسي حادّ، عقلاً جهنّمياً. ركّز في كلّ وقت على تهميش الدور السنّيّ في سوريا معتمداً على سُنّة الريف. ليس صدفة استبعاده سُنّة المدن الكبرى لمصلحة سُنّة الريف. كان حكمت الشهابي من ضواحي حلب، فيما كان عبد الحليم خدّام من بانياس. أمّا مصطفى طلاس، وهو من ضواحي حمص، فلم يكن أكثر من زينة وأداة طيّعة في خدمة النظام الأقلّويّ القائم.
لا حاجة إلى تعداد أسماء الشخصيات اللبنانية التي استُهدفت، لكنّ اللافت كان ذلك الإصرار، لدى حافظ الأسد، على التخلّص من أيّ شخصيّة سنّيّة ذات وزن حقيقي. هناك من جرت تصفيته جسدياً مثل المفتي حسن خالد وغيره، وهناك من اغتيل سياسياً مثل الرئيس صائب سلام والرئيس تقيّ الدين الصلح. كان رفيق الحريري استثناء. كانت لدى الأسد الأب حاجة إلى رفيق الحريري في مرحلة كان يعيد فيها تأهيل نفسه في ضوء سقوط الاتحاد السوفيتي أواخر عام 1991. كان الأسد الأب في حاجة أيضاً إلى الدعم السعودي ورضا الملك فهد بن عبد العزيز ودعمه في مواجهة عاصفة ما بعد انتهاء الحرب الباردة التي تجدّدت في أيّامنا هذه.
كان يمكن للأزمة المعيشية التي راح ضحيّتها جميع اللبنانيين أن تكشف وجود تململ شعبي شيعي لا حاجة إلى خروجه إلى العلن في الوقت الحاضر
اتفاق بكين وبصيص الأمل
كانت هدنة في حرب النظام السوري على السُّنّة استفاد منها لبنان، بين 1992 و1998. انتهت الهدنة بوصول إميل لحّود إلى موقع رئيس الجمهوريّة. لم يكن لدى إميل لحّود سوى هدف واحد هو الانتقام من رفيق الحريري بدءاً باستخدام سليم الحصّ، بين آخرين، في تنفيذ هذه المهمّة التي تُوّجت بالحدث الذي وقع في الرابع عشر من شباط 2005. كان التخلّص من رفيق الحريري في سياق مسيرة بدأت سوريّة وتحوّلت إلى سوريّة – إيرانيّة، ثمّ إيرانيّة بحتة.
كيف يستعيد لبنان توازنه الداخلي في ظلّ الهيمنة الإيرانيّة على سوريا والنظام القائم فيها، وفي ظلّ هيمنة “حزب الله” على لبنان. تبدو استعادة مثل هذا التوازن مستحيلة في ظلّ الموازين القائمة التي تحاول “الجمهوريّة الإسلاميّة” من خلالها، على الرغم من توقيعها البيان المشترك مع السعوديّة والصين، تأكيد الفصل بين أمرين. أمر اليمن وأمر الملفّات الأخرى في المنطقة. يبدو لبنان وسوريا من بين هذه الملفّات الأخرى. ما بدأ في عهد حافظ الأسد الذي استمرّ ثلاثة عقود مستمرّ في عهد بشّار الأسد الذي لا يستطيع الخروج من الهيمنة الإيرانيّة بأيّ شكل، خصوصاً في ظلّ الضعف الروسي الذي تسبّب به غرق فلاديمير بوتين في الوحول الأوكرانيّة.
إقرأ أيضاً: الأكثريّة السنّيّة… لبّ الأزمة السوريّة
يبقى بصيص أمل وحيد بالنسبة إلى لبنان في حال انسحاب البيان السعودي – الصيني – الإيراني عليه وعلى سوريا. في انتظار ذلك، سيعاني البلد كثيراً من الفراغين السُّنّي والمسيحي والانكماش الدرزي… ومن وجود أجندة وحيدة هي أجندة الثنائي الشيعي. هذه الأجندة ليست سوى أجندة إيرانيّة أخذت بعداً جديداً ومختلفاً منذ اغتيال رفيق الحريري الذي كان وجوده في موقع الزعيم السنّيّ استثناء لبنانياً منذ احتكار حافظ الأسد السلطة في سوريا ابتداء من 16 تشرين الثاني 1970.
لمتابعة الكاتب على تويتر: khairallahkhai5@