لماذا تميل شعوبنا إلى الصين وروسيا؟

مدة القراءة 5 د

كارهو أميركا من العرب، ونسبتهم تتجاوز تسعين في المئة إن لم تكن أعلى، يسعدون بفكرة أنّ نفوذ أميركا في العالم آخذ بالتآكل. وهذا يقود تلقائياً إلى تعاطف شعبي مع البديل، وهو النفوذ الصيني- الروسي. وبتأثير ذلك، تداول كثيرون الأقوال التي نُسبت إلى الدبلوماسي الأميركي الطاعن في السنّ والتجربة هنري كيسنجر، ونُشرت في صحيفة “صنداي تايمز”، وجاء فيها أنّه يرى تغيّراً جوهرياً في الشرق الأوسط سيحوّله من مكان نفوذ أميركي يكاد يكون مغلقاً إلى منطقة متعدّدة الأقطاب.
أفصح كيسنجر عن هذا الرأي بعدما نجح الجهد الصيني في إنجاز المصالحة السعودية – الإيرانية، وهو ما لفت الانتباه إلى أنّ النفوذ الأميركي آخذ بالتآكل فعلاً ليس فقط في ما يتّصل بالسعودية وإيران، وإنّما أيضاً في مجالات أخرى أثبتت فيها الدبلوماسية الأميركية ضعفاً ملحوظاً في التأثير على مجريات الأحداث بعدما كانت لعقود ضابط الإيقاع لحركتها، والمستفيد الوحيد من خلاصاتها.

إذا ما نظرنا إلى الحالة الإسرائيلية في الوضع الأميركي فإنّنا نجد أنّها تمثّل أشدّ عوامل استنزاف النفوذ الأميركي وحتى صدقيّة سياساته

النفوذ الأميركي إذا ما نُظر إلى ما يتوافر لديه من قواعد عسكرية، وعناصر قوّة أخرى، ماليّة واقتصادية، يظلّ حتى الآن هو الأكبر والأكثر انتشاراً في الشرق الأوسط، ويُضاف إلى ذلك إسرائيل التي تمثّل بإجمالها القاعدة الأكثر أهمّية في الاستراتيجيات الأميركية.
إذا كانت إسرائيل تُعرَّف بأنّها الولاية الأميركية الواقعة في الشرق الأوسط، فهي في حقيقة الأمر أكثر من ذلك.
غير أنّ المعضلة الدائمة لفائض القوّة الأميركية في الشرق الأوسط هي انعدام التوازن في المواقف إزاء القضايا التي تشعل المنطقة، وخصوصاً على مستوى الحلفاء العرب، وإلى جانبهم تركيا الأطلسية.

فقدان ثقة الحلفاء بأميركا

قام حلفاء أميركا من العرب وباقي الإقليم، بفعل عدم الثقة بها، بما لم تحسب أميركا حسابه جيّداً، وهو توسيع مساحات استقلالية سياساتهم على نحو أربك الإدارات الأميركية. فلا السعودية القطب الإقليمي والدولي تتصرّف وفق إملاءات أميركية، ولا تركيا القطب الأطلسي ترهن وزنها المتزايد في تبعية تلقائية، بل إنّها تستخدم نفوذها في الناتو لمصلحة حساباتها وسياساتها الخاصة.
إذا ما نظرنا إلى الحالة الإسرائيلية في الوضع الأميركي فإنّنا نجد أنّها تمثّل أشدّ عوامل استنزاف النفوذ الأميركي وحتى صدقيّة سياساته. والملاحظ أنّه بميزان المصالح تحرص الإدارات المتعاقبة جميعاً على ترجيح الكفّة الإسرائيلية، وجعلها صاحبة اليد العليا في المنطقة. وإذا كان لأميركا من نفوذ تقليدي أو تلقائي في أماكن عديدة من الشرق الأوسط والعالم، إلا أنّ هذا النفوذ يتوقّف عند حدود إسرائيل التي تعمل على هواها من دون إقامة أدنى وزن للتدخّلات الأميركية.
لنأخذ مثلاً الاختلاف الكبير بين المواقف الرئيسية الأميركية المعلنة بشأن القضية الفلسطينية والسياسات الإسرائيلية المتعارضة تماماً مع هذه المواقف.
العنوان الرئيسي الأميركي لحلّ القضية الفلسطينية هو حلّ الدولتين. وهذا ما حوّلته إسرائيل إلى مستحيل أقرّ به الرئيس جو بايدن حين أعلن في عقر دار الفلسطينيين أنّ من حقّهم الحصول على دولة، إلا أنّ هذا الأمر لن يتحقّق في المدى البعيد ولا الأبعد. وهذا هو ما حوّل مصطلح “حلّ الدولتين” إلى عملة ملغاة يتداولها الأميركيون لعدم قدرتهم على الحديث عن بديل أفضل وأفعل، حتى خلال اندلاع موجات العنف التي سعت أميركا إلى تهدئتها من خلال حضور أقطاب الإدارة جميعاً إلى المنطقة.

إذا كان بعض العرب راهن يوماً على الإفادة من القوّة الأميركية المتفوّقة لحساب أمنهم وحلّ قضاياهم، فإنّ هذا الرهان بدّدته أميركا ذاتها، حين استخدمت قوّتها لغير صالح العرب

فشل “العقبة” و”شرم الشيخ”

لقد رعت أميركا لقاءات العقبة وشرم الشيخ، فكانت النتيجة أنّ التصعيد تضاعف، ومساحة النيران اتّسعت. وفي حالة كهذه لا تملك الإدارة الأميركية تفسيراً لذلك، لأنّها لا تملك حتى توجيه انتقاد واضح للحكومة الإسرائيلية بتحميلها مسؤولية التصعيد، أكان في حرق “حوارة” أو الدوس على أجساد المصلّين في الأقصى بأقدام الشرطة. وليس لأميركا من قول في كلّ هذا سوى دعوة الجاني والمجنيّ عليه إلى الكفّ عن الإجراءات الأحاديّة الجانب.

أهمّ مقوّمات النفوذ الفعّال هو الصدقية والتوازن:
– فالأوّل تهدره إسرائيل التي تبدّد الأرصدة الأميركية قدر ما تشاء وكيفما تشاء.
– أمّا التوازن فتفتقده أميركا من خلال استثناء إسرائيل من المحاسبة على ما تقوم به حتى لو كان مختلفاً عمّا تتّخذه الإدارة الأميركية من مواقف معلنة.
لدى الشعوب العربية مقياساً ثابتاً في التقويم، وهو الموقف من القضية الفلسطينية وباقي قضايا المنطقة. وحين ألقت أميركا بكلّ ثقلها وراء السياسات الإسرائيلية المتمادية في الاحتلال والاستيطان كرهها العرب، وحين تنبّأ كيسنجر بتحوُّل العالم والشرق الأوسط إلى “التعدّدية القطبية”.. تمنّى العرب أن يحدث ذلك.
فالصين وروسيا تعترفان وتدعمان الحقوق الفلسطينية والعربية، وذلك من دون إغلاق الباب أمام نشوء قطب عربي يكون شريكاً في صنع واقع جديد للمنطقة، لا يكون فيه العرب، كما فُرض عليهم أن يكونوا زمن النفوذ الأميركي المطلق، مستهلكين للمآسي وخيبات الأمل لا غير.

إقر أيضاً: هل تتعايش إسرائيل مع إيران نوويّة؟

أخيراً…

إذا كان بعض العرب راهن يوماً على الإفادة من القوّة الأميركية المتفوّقة لحساب أمنهم وحلّ قضاياهم، فإنّ هذا الرهان بدّدته أميركا ذاتها، حين استخدمت قوّتها لغير صالح العرب، وخصوصاً على مستوى صراعهم المزمن مع إسرائيل، وحين أدارت ظهرها لحلفائها إثر تعرّضهم للخطر، بل أكثر من ذلك تواطأت عليهم.

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…