ما زالت حادثة إطلاق الصواريخ من الجنوب اللبناني باتّجاه الأراضي المحتلّة تتوالى فصولاً على الرغم من ضحالة العناوين التي رُفعت في حينه لتبرير ما حصل. الحادثة لم تأتِ من فراغ وليست وليدة اللحظة، بل يستمرّ البناء عليها بما يضعها في واجهة المشهد الذي تُستكمل عناصره بتدخّل أميركي لتقويم الموقف الجديد، وردود فعل وتهديدات إسرائيلية تُصاغ على وقائع وتطوّرات الوجود العسكري المنظّم لحركة حماس الذي لم يعُدْ ضيفاً على لبنان، بل أصبح فجأةً من أهل الدار.
وصول رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنيّة إلى بيروت قبل حادثة إطلاق الصواريخ، واستقباله من قِبل الرئيس نبيه برّي، ولقاؤه الأمين العام للحزب وقائد فيْلق القدس إسماعيل قاآني في السفارة الإيرانية، كما نشر موقع “أساس”، استُتبعت بإضافتيْن أميركية وإسرائيلية، لتقدِّم بمجملها تسويقاً مدروساً لحركة حماس كلاعب جديد سيتصدّر المشهد اللبناني قريباً وإلى أجل غير مسمّى:
– الإضافة الأولى: قدّمها أحد المسؤولين الأميركيين لإحدى محطات التلفزة العربية، جاءت بمنزلة الرسم البياني لتوزيع المهامّ بين الحرس الثوري والحزب وحركة حماس. يقول المسؤول الأميركي إنّ الحرس الثوري الإيراني قام بنقل المئات من حركة حماس إلى لبنان عبْر مطار رفيق الحريري الدولي، وإنّ الحزب يتولّى تدريبهم في منطقة البقاع ليتمّ بعد ذلك نقلهم إلى مخيّمات اللاجئين الفلسطينيين في جنوب لبنان. ويتابع المسؤول الأميركي أنّ الحزب يزوّد حركة حماس بصواريخ طويلة المدى بهدف فتح جبهة جديدة شمال إسرائيل من دون أن يتورّط الحزب فيها بشكل مباشر.
ما زالت حادثة إطلاق الصواريخ من الجنوب اللبناني باتّجاه الأراضي المحتلّة تتوالى فصولاً على الرغم من ضحالة العناوين التي رُفعت في حينه لتبرير ما حصل
– الإضافة الثانية: تختصر قواعد الاشتباك بين المكوّنات الثلاثة أو ربّما تشكّل مضبطة سلوك فيما بينها. لقد رأت شعبة الاستخبارات العسكرية في الجيش الإسرائيلي أنَّ القادة في إيران والحزب وحماس ليسوا معنيّين بمواجهة مع إسرائيل، وهم يعبّرون عن هذا الموقف بشتّى الطرق والرسائل. لكنَّ احتمالات اندلاع حرب في المنطقة “لا يريدها أحد” قد تزايدت خلال الأشهر الماضية بسبب تراجع الاهتمام الأميركي بما يحدث في الشرق الأوسط والخلافات بين تل أبيب والإدارة الأميركية، وباتت أكبر فرص الانجرار إليها بسبب مغريات الأزمة الإسرائيلية الداخلية.
حماس حاجة لأميركا وإسرائيل وإيران
تمثّل حركة حماس بإطلالتها الجديدة حاجة أميركية وإسرائيلية وإيرانية في الوقت عينه:
– إسرائيل ككيان غاصب بحاجة إلى تهديد دائم للإبقاء على تماسكها الداخلي، وعدم تعريض بنيتها المجتمعية الهشّة لمخاطر التفكّك، والاحتفاظ بوظيفتها كقاعدة عسكرية أميركية متقدّمة في المنطقة.
– وحماس بالنسبة لواشنطن هي مبرّر يُضاف إلى مبرّرات العسكرة الأميركية التي تتعزّز بشكل غير مسبوق في المنطقة، تحت عنوان مكافحة الإرهاب والحفاظ على الاستقرار.
– وإيران تحتجها كميدان استثمار في التقاطعات الأميركية الإسرائيلية وأداة تأثير في الداخل الفلسطيني وعبْره في العالم العربي، وتحتاج إليها طهران لإخراج الحزب من المواجهة حيث يتوجّب ذلك.
لا بدّ هنا من تسجيل الغياب الكلّيّ للدولة اللبنانية (ربّما كلمة دولة لم تعد ملائمة لتوصيف واقع الحال) أو للعشائر السياسية، سواء في السلطة أو المعارضة، عمّا يجري. حتى إنّ توجيه السؤال للأجهزة الأمنية أو تعميم ما يمكن من إفادات الأجهزة الأمنية الواردة إلى الحكومة عبر القنوات الرسمية (بموجب المادة 65 من الدستور والمادة 20 من قانون الدفاع الوطني) لا يبدو ممكناً.
يأتي هذا الغياب في صلب الحوكمة الرديئة وتحلّل فكرة الدولة. فكيف لسلطة هاربة من استحقاق الانتخابات البلدية وما زالت تتنفّس الصعداء بعد ما جرى في الجنوب أن تمتلك شجاعة الإقدام على مقاربة هذا التهديد الحقيقي؟
البناء الأميركي والإسرائيلي، على ما يُنسب إلى حركة حماس، سيصبح مادّة حيّة ومتفاعلة، وربّما سيدفع تكرار حوادث مماثلة إلى مزيد من التهويل الأميركي والإسرائيلي وإلى تصدّر حركة حماس لمشهد المواجهة، بما يدفع مجدّداً إلى استحضار السؤال: “لمن ستُهدي حركة حماس انتصارها؟”، بحيث تصبح مسألة سلاحها وأنشطتها في لبنان شأناً إقليمياً تستحيل مقاربته في ظلّ العدوان.
إسرائيل ككيان غاصب بحاجة إلى تهديد دائم للإبقاء على تماسكها الداخلي، وعدم تعريض بنيتها المجتمعية الهشّة لمخاطر التفكّك، والاحتفاظ بوظيفتها كقاعدة عسكرية أميركية متقدّمة في المنطقة
أين الاستراتيجية الدفاعية؟
لطالما كان المخرج اللبناني أو التخريجة المستخدمة عند احتدام المطالبة بإيجاد حلّ لسلاح حزب الله هو المطالبة بوضع استراتيجية دفاعية للبنان. وقد أصبح ذلك مصطلحاً متعارفاً عليه للتسويف والمماطلة في سياق بحث مسألة الاعتداء على السيادة الوطنية وحصريّة السلاح بيد الدولة، وأصبح فيما بعد أحد شروط التصنيف لمرشّحي رئاسة الجمهورية. فأيّ استراتيجية دفاعية للبنان يمكن مناقشتها بعد التحديث (Updating) الذي تدخله كلّ من طهران وواشنطن إلى الساحة اللبنانية عبْر حركة حماس؟
هل تصبح حركة حماس 2023 نسخة من حزب الله ما بعد 2006؟
وهل يدخل سلاحها لائحة المحرّمات التي يتعذّر بحثها على غرار سلاح الحزب، على هدى عدوان إسرائيلي مرتقب؟
إقرأ أيضاً: هل قرّر الحزب وراثة عرفات والأسد معاً؟
وهل يحلّ إسماعيل هنيّة شريكاً لا بدّ من حضوره أو عائقاً لا يمكن تجاوزه لدى مناقشة الاستراتيجية الدفاعية الوطنية؟
أسئلة تبدو منطقية ومشروعة في ظلّ عودة سوريا إلى العالم العربي وحاجة دمشق إلى ذراع عسكرية في لبنان.
* مدير المنتدى الإقليميّ للاستشارات والدراسات