في مديح “السلاح”… حين كان رافعة الاقتصاد

مدة القراءة 6 د

ما فعله الحزب بإطلاق صواريخ باسم فلسطين كان إعلاناً لانتصاره على الدولة. خصوصاً في هذه اللحظة الانتقالية، حيث يطرح على لبنان سؤال الانهيار الكامل للدولة، والخيار بين إعادة بنائها، وبين تسويتها بالأرض.
الصواريخ التي سقطت “على جثّة” لا يريد أحد أن يواريها في الثرى ويتقبّل العزاء عنها: “جثة لبنان”. الجميع يغطّيها كي لا تنبعث رائحتها الكريهة. وما فعلته الصواريخ هو إهالة التراب عليها.
أطراف كثيرة مسؤولة بنسبة متفاوتة عمّا آلت إليه الأوضاع الاقتصادية في لبنان، لكن يبقى للحزب النصيب الأعلى بسبب من إصلائه العالم كلّه حرباً مفتوحة. تجاهل أنّ القومية العربية سقطت على أعتاب الدولار. الأممية السوفيتية لحقتها عام 1991 للسبب عينه. حتى إيران عدّلت سياستها وبعضاً من أيديولوجيتها لمعرفتها بقوّة الجنرال جورج واشنطن. وحده الحزب يريد محاربة العالم بلبنان ومنه.

بعد اغتيال الرئيس الحريري ومع “النصر الإلهي” عام 2006 بدأ الانفصال بين الدولار والمقاومة، وكان الطلاق النهائي مع تنقّل الحزب من سوريا إلى اليمن، ثمّ عودته إلى تبنّي “حرب الوجود” ضدّ الجميع، خالي الوفاض من كلّ شيء إلا من سيل شعارات “العزّة والكرامة”

المقاومة أم الاقتصاد؟

الحزب في تغليبه الحروب على السياسة والدولة والاقتصاد صار يعني عند اللبنانيين: الجوع، الفقر، التردّي في التعليم، الرثاثة في الصحّة، والقلق على العيش ومنه.
هذا لا يعني بحال من الأحوال أنّ لبنان كان ريادياً بين دول العالم في الاقتصاد خلال حقبات الناصرية، ثمّ صعود اليسار برفقة الوجود الفلسطيني المسلّح. الصحيح أنّه كان دائماً على خطّ الأزمات. لكن الأكيد أنّ لبنان، في أزمنة السلاح الفلسطيني واليساري، كان أهله “مكتفين”. واقتصاده، وإن كان اقتصاد حرب أهلية، إلا أنّه كان “ربّيحاً” بالمعنى المالي وحتّى السياسي.
1- في زمن الصعود الناصري بلبنان توفّرت للبلد ضمانة اسمها الرئيس فؤاد شهاب مع عقلانية ناصرية نادرة حيّدت لبنان عن سياسة الوحدة والتوحيد. كانت آنذاك مصر قد رضخت لواشنطن وشرعتا في “دبلوماسية القمح”. لذلك تمكّن لبنان من المحافظة على حدّ أدنى بين النمو المتسارع للّغة القومية، وبين لغة المواجهة مع أميركا وإسرائيل، فكان أن بقي الدولار سائلاً في الاقتصاد.
2- في الحقبة الفلسطينية كان تدفّق المال على البلد غزيراً، بفعل من تحوُّل لبنان إلى مصرف المنطقة، إثر موجة التأميم. واكب ذلك ما أنفقته “منظمة التحرير” على حلفائها، مقابل ما أنفقته لوبيات وجهات دولية على خصومها.
3- في الثمانينات حافظت المصارف على متانتها، وحافظ اللبنانيون على قدراتهم الشرائية، وظلّ تدفّق المال العربي وغير العربي غزيراً. حتى خلال الاجتياح الإسرائيلي، لم يكن هناك أزمة غذاء أو سيولة في لبنان.

العلاقة مع “العالم” والغرب

في ظلّ ما شهدته هذه الحقبة من ويلات كان عند “الثورة الفلسطينية” فضيلة واحدة هجست بها على الدوام، ألا وهي اعتراف الولايات المتحدة بها. “حركة فتح” ساعدت في إجلاء الرعايا الأميركيين الذين أرادوا الخروج بعد انفجار عام 1975، وحمت من أراد البقاء منهم.
آنذاك، كانت العلاقة جيّدة جداً بين الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات والإدارة الأميركية في عهد الرئيس جيمي كارتر الذي أظهر حماسة منقطعة النظير لبيان تصدره “منظمة التحرير” عن رفض العنف. لكنّ الأخيرة تمنّعت، ثمّ فعلت ذلك لاحقاً وانخرطت في المجتمع الدولي وأنتجت سلطة ولو كانت معوّقة جزئياً. وضعية كهذه حافظت على شيء من الاقتصاد وعلى النزر القليل ممّا بقي من الدولة.
ـ أمّا مع حقبة صعود الحزب ثمّ تسيّده على النظام السياسي دولةً وأهلاً وجماعات، فقد خضع لبنان لأطوار من التقلّبات: بعضها كان يبعث على القلق، وبعضها الآخر وضع البلد في عين العاصفة. الطور الأوّل كان في ثنائية “الاقتصاد لكم والسياسة لي”. كانت هذه المعادلة نذير الشؤم الأوّل الذي تمّ استشعاره بمقولة وليد جنبلاط وسؤاله: “هل تريدون لبنان هانوي أم هونغ كونغ؟”.

ما فعله الحزب بإطلاق صواريخ باسم فلسطين كان إعلاناً لانتصاره على الدولة. خصوصاً في هذه اللحظة الانتقالية، حيث يطرح على لبنان سؤال الانهيار الكامل للدولة، والخيار بين إعادة بنائها، وبين تسويتها بالأرض

الرئيس الحريري مضى قدماً في سياسته، من دون التنبّه إلى استحالة الفصل بين السياسة والاقتصاد. كانت قناعته بأنّ ضمانة استقرار لبنان هي في جعله هونغ كونغ سوريا، كما كانت هونغ كونغ للصين. هكذا أمكن التعايش بين الدولار وسياسة الحرب التي كان يشنّها الحزب بإدارة سورية، قبل أن تنتقل الإدارة المباشرة إلى طهران.

بعد اغتيال الرئيس الحريري ومع “النصر الإلهي” عام 2006 بدأ الانفصال بين الدولار والمقاومة، وكان الطلاق النهائي مع تنقّل الحزب من سوريا إلى اليمن، ثمّ عودته إلى تبنّي “حرب الوجود” ضدّ الجميع، خالي الوفاض من كلّ شيء إلا من سيل شعارات “العزّة والكرامة”.

الدولة… والتنمية

شرط الدولة التنمية بقدر ما أنّ الاستثمارات شرط قوّتها واستقرارها. من دون الاستثمارات والاقتصاد الصلب: الدولة لن تقوم في ظلّ تصدّر “القضايا الحارّة”. ولمن لا يقتنع عليه بالقياسات: لبنان قبل عام 1975 ولبنان اليوم. سوريا قبل موجة الانقلابات منذ عام 1956 وسوريا اليوم. مصر زمن الملَكية وقبل قومية جمال عبد الناصر التوحيدية وما صارت إليه لاحقاً. إيران قبل عام 1979 وإيران مع الخميني وصولاً إلى الخامنئي.
بروباغندا الحزب ـ حماس – الجهاد رأيناها في انتصار إيران على الغرب. أبصرها اللبنانيون عن كثب في “النصر الإلهي” والانتقال إلى عصر “ولّى زمن الهزائم” . قبلها كانت مع عبد الناصر “البطل” الذي يخسر الأرض وأنور السادات “الخائن” الذي يسترجعها من الاحتلال. بينهما كان “بطل الحرب والسلم” حافظ الأسد الذي رعى خسارة الجولان وهو وزير دفاع، ولم يُفلح في خوض حرب ولا سلم. كلّ هذا أفضى إلى نهايات مقيتة ومجهدة.

إقرأ أيضاً: صواريخ الحزب – حماس “تنكّل” بجثة لبنان..

المشكلة في اقتراح الحزب لـ”سلاحه” منذ بدء الأزمة اللبنانية باغتيال الحريري، ثم في حرب تموز 2006، هو اقتراح “جوع” للبلاد وأهلها، وليس اقتراح “ازدهار”. ولما حاول الأمين العام للحزب، بعد ترسيم الحدود البحرية، الردّ على مقولة “الصواريخ لا تطعم خبزاً”، بإعلانه في “خطاب الترسيم” أنّ “الصواريخ تطعم خبزاً”، جاء الردّ من “العالم” كلّه، أن لا نفط ولا غاز… قبل “الحلّ السياسي” في لبنان.
إنّه سلاح قرينه الجوع والانهيار، في حين كان سلاح الفلسطينيين ثم أسلحة المتحاربين في السبعينات والثمانينات، مقرونة بالمال والكفاية.

مواضيع ذات صلة

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…

الأكراد في الشّرق الأوسط: “المايسترو” بهشلي برعاية إردوغان (1/2)

قال “أبو القومية التركية” المفكّر ضياء غوك ألب في عام 1920 إنّ التركي الذي لا يحبّ الأكراد ليس تركيّاً، وإنّ الكردي الذي لا يحبّ الأتراك…