أضاف انطلاق عشرات صواريخ الكاتيوشا من جنوب لبنان باتّجاه الأراضي الفلسطينية المحتلّة إلى المشهد اللبناني ما كان ينقصه من الارتباك والضياع، وأضاف نفي الحزب علاقته بالعملية مسحة مطلوبة من الغموض والإثارة. في المقابل سارع العدوّ الإسرائيلي بسرعة فائقة إلى تأكيد عدم مسؤولية الحزب وإلى مجاراته في توجيه الاتّهام إلى فصيل فلسطيني كما ورد في بيانه، ثمّ ما لبثت حركة حماس أن أعلنت عدم تبنّيها للعمليّة.
البحث عن لاعب جديد
في الخلاصة أخذنا العدوّ الإسرائيلي وحزب الله مجتمعَيْن إلى مرحلة من الإثارة في معرض البحث عن لاعب جديد يتمتّع بحرّية الحركة في قطاع جنوب الليطاني، ووُضعت بتصرّفه فجأة التسهيلات اللوجستية ليحتلّ واجهة الأحداث، ثمّ انطلقت جملة من التساؤلات التي قد لا تتوافر لها الإجابات الملائمة، إذ لا تقدّم رواية الثأر لما يجري في المسجد الأقصى أي عنصر من عناصر الإقناع.
لاذ الحزب بالصمت، ووُضع إسماعيل هنيّة رئيس حركة المقاومة الإسلامية في دائرة الضوء، بعدما حلّ ضيفاً مرحَّباً به على محور الممانعة ورموزه قبل يومين، مطالباً بإعادة إحياء غرفة العمليات المشتركة، فاستحقّ الدور المطلوب
بيان الحكومة اللبنانية التي أدان رئيسها نجيب ميقاتي إطلاق الصواريخ من جنوب لبنان، مؤكّداً “رفض بلاده المطلق أيّ تصعيد عسكري ينطلق من أرضه واستخدام الأراضي اللبنانية”، لم يعبّر هذه المرّة عن رأي الحكومة فقط، بل فُوِّض التكلّم “باسم القوى الفاعلة في الجنوب” التي أبلغته إدانتها العملية وشجبها لأيّ تصعيد، بما أعاد اللبنانيين إلى عام 1996 بعد عملية “عناقيد الغضب”، عندما أرسى الرئيس الشهيد رفيق الحريري “تفاهم نيسان” الذي حدّد للمرّة الأولى قواعد الاشتباك بين إسرائيل وحزب الله باعتراف دولي.
غرفة العمليّات المشتركة
لاذ الحزب بالصمت، ووُضع إسماعيل هنيّة رئيس حركة المقاومة الإسلامية في دائرة الضوء، بعدما حلّ ضيفاً مرحَّباً به على محور الممانعة ورموزه قبل يومين، مطالباً بإعادة إحياء غرفة العمليات المشتركة، فاستحقّ الدور المطلوب. وبالمقابل أكّد العدوّ الإسرائيلي بعد اجتماع لحكومته المصغّرة أنّ الردّ سيكون على معاقل حركة حماس في الداخل الفلسطيني وعلى لبنان، لكن “بما لا يجرّ الحزب إلى الحرب”، لافتاً إلى عدم إحراجه أمام اللبنانيين، ومضيفاً إلى قواعد الاشتباك مع الحزب نمطاً من اللياقات الميدانية غير المعهودة، وطبعاً من دون أن ينسى تحميل الحكومة اللبنانية، وهي الفريق الأشدّ ضعفاً والأقلّ تأثيراً في الجنوب، مسؤولية إطلاق الصواريخ.
اكتملت عناصر الاتّهام وتمّ تحديد هويّة الفاعل، فكان لا بدّ من الردّ بقصف محيط المخيّمات الفلسطينية في قضاء صور، وقصف محيط بلدة “القليلة” التي انطلقت منها عشرات الصواريخ إلى الداخل الفلسطيني المحتلّ، فيما ثابر حزب الله على صمته المطبِق. حدود الردّ الإسرائيلي رُسمت بدقّة، وقد أعلن العدوّ في نهايتها عودة الحياة إلى طبيعتها في قطاع غزّة، لكنّ ذلك لا يمنع أن تمتدّ في جولات مستقبلية إلى مخيّمات أخرى في منطقة البقاع حيث تتمركز فصائل فلسطينية في كنف حزب الله والنظام السوري تبِعاً للأهداف والرسائل في حينه. وبصرف النظر عن ضعف النتائج الميدانية المحقّقة ممّا جرى، يمكن القول إنّ إسرائيل حقّقت هدفيْن مهمّيْن: الأول هو استيعاب الأزمة الداخلية لديها، إذ سارعت المعارضة الإسرائيلية إلى الوقوف خلف الحكومة والجيش بُعَيْد الهجوم الصاروخي. أمّا الهدف الثاني فهو اكتساب الذريعة لردّ ميداني على حركة حماس في قطاع غزّة، وإشاحة النظر عن الارتكابات الإسرائيلية في المسجد الأقصى التي خصّص مجلس الأمن جلسة لمناقشتها بناءً على طلب من دولتَيْ الإمارات والصين.
حدود الردّ الإسرائيلي رُسمت بدقّة، وقد أعلن العدوّ في نهايتها عودة الحياة إلى طبيعتها في قطاع غزّة، لكنّ ذلك لا يمنع أن تمتدّ في جولات مستقبلية إلى مخيّمات أخرى في منطقة البقاع حيث تتمركز فصائل فلسطينية
إقرار حزب الله
المعطى الجديد الذي أُدخل إلى أجل غير مسمّى إلى الساحة اللبنانية، هو إقرار الحزب بوجود فصيل فلسطيني في جنوب لبنان يتمتّع بحرّية المناورة وبالقدرات اللوجستية، وقادر على توجيه رسائل إلى الداخل الإسرائيلي، من دون التنسيق معه وأخذ موافقته، في حين أنّ حزب الله ثابر على إعاقة عمل الجيش اللبناني وحرّية حركة قوات اليونيفيل حين استشعر ما يلامس حصرية قراره الأمني والعسكري في الجنوب. وفي هذا إشارة أكيدة إلى أنّ الهجوم الصاروخي إنّما تمّ بناءً على إشارة من طهران التي تملي على حزب الله، وإن شاءت توزيع الأدوار وتفويض الصلاحيات.
أمام كلّ ذلك ترتسم في الأفق تساؤلات موضوعية لا بدّ من طرحها على خلفيّة الاتّفاق السعودي الإيراني الذي يسير قُدُماً بين الدولتين، ولم يحلّ بَرداً وسلاماً على إسرائيل، وتطمح إيران إلى فصل مفاعيله عن نفوذها في كلّ من لبنان وسوريا، ودائماً في ظلّ تعثّر مسارات التوافق في لبنان وصعوبة الخروج من الولاءات الإقليمية.
إقرأ أيضاً: صواريخ “حماس” تحمي حكومة نتنياهو؟
فهل تذهب إيران إلى استخدام الورقة الفلسطينية من لبنان بتعزيز حرّية عمل الفصائل الفلسطينية تحت عنوان استمرار الصراع المشروع مع إسرائيل، بما لا يدينها بالاستمرار في دعم الميليشيات والأذرع المرتبطة بها، وبما يتيح لحزب الله التفرّغ لتعزيز حضوره السياسي في الداخل؟ وهل يحوّل الاستثمار الجديد جنوب لبنان، مع استمرار فشل الخروج من الأزمة الراهنة، إلى غزّة جديدة تحتاج إليها كلّ من طهران وتل أبيب؟
* مدير المنتدى الإقليميّ للاستشارات والدراسات