ثمّة مشكلة رأي عام حقيقية في لبنان، كشف عنها حجم الارتباك والتردّد والفشل الذي اتّسمت به ردود الفعل اللبنانية على إطلاق الصواريخ من لبنان باتّجاه إسرائيل، في واحدة من أكبر الحوادث منذ انتهاء كارثة تموز 2006. صحيح أنّ ميليشيا الحزب نأت بنفسها عن هذا الهجوم، الذي لم يسبقه اعتداء إسرائيلي على لبنان، وصحيح أنّ إسرائيل قبلت لأسبابها بتصديق النأي بالنفس، إلّا أنّه لا فاصل في السياسة بين ميليشيا الحزب وبين هذا التطوّر العسكري الخطير.
مواقف متردّدة أو ضعيفة
على المستوى الرسمي، لم يرقَ البيان الأوّل للحكومة اللبنانية إلى حدّ إدانة الهجمات الصاروخية، مكتفياً بإعلان التأكيد على التزام لبنان بالقرار 1701، ولم يتطوّر موقف الحكومة باتّجاه الإدانة إلّا بعد سيل التسريبات والمواقف الإسرائيلية التي أشارت بوضوح إلى أنّ ردّاً ما سيحصل على الهجمات. أمّا سياسياً فغاب تماماً حليف الحزب المسيحي الرئيس ممثّلاً برئيس التيار العوني جبران باسيل، على الرغم من تشدّقه الذي لا ينتهي بالسيادة والدور والكرامة الوطنية. وبرزت على الساحة السنّيّة أصوات أعادتنا إلى مناخات فتح لاند في السبعينيات من خلال حجم إشادتها بهمّة وعزم مطلقي الصواريخ!!
بالغ معظم من يشكّلون هذه النخبة في تبنّي خطاب ينتقد السياسة الخارجية الأميركية والتدخّل والإمبريالية، بنيّة النأي بأنفسهم عن تهمة الولاء لأميركا
تبنّي المقدّمات وإدانة النتائج
أمّا غالبية الذين استنكروا الهجمات الصاروخية، وهنا لبّ موضوعي اليوم، بدأوا تصريحاتهم بالإشادة بفلسطين وإدانة إسرائيل والتأكيد على مركزية القضية الفلسطينية وعدالتها وغيرها من الشعارات، قبل التطرّق إلى موضوع إطلاق الصواريخ من الأراضي اللبنانية. المشكلة الرئيسية في هذا النوع من الردود التي تخلط بين القضيّتين اللبنانية والفلسطينية بشكل مشوّش، ومفتعل في كثير من الأحيان، أنّها أوّلاً تعيق القدرة على تشكيل رأي عامّ وطني واضح وفعّال حول قضية السيادة اللبنانية، بصفتها قضية مستقلّة عن أيّ سياق آخر، وأنّها ثانياً تلعب دوراً غير مباشر في إعطاء شرعية للمقدّمات والأسباب التي ينتحلها الحزب لتبرير أفعاله بصفتها جزءاً من النضال الأوسع من أجل الحقوق الفلسطينية.
خوف من التخوين
كثيرون ممّن يعتمدون هذه الصيغة في الردّ، ويصل معظمهم إلى حدود تقديم الموضوع الفلسطيني على الموضوع اللبناني، يفعلون ذلك معتقدين أنّ هذا الأمر يجنّبهم تهم التخوين من قبل الحزب، وأنّه يعطي مواقفهم ضدّ إطلاق الصواريخ مصداقية “وطنية”، والأخطر أنّهم يعتقدون أنّ مثل هذه المقدّمات تفيد ولا تضرّ أو أنّها إن لم تسعف فإنّها بالتأكيد لا تضرّ، وهنا مكمن الخطورة.
بيد أنّ لعدم القدرة على التمييز بشكل واضح بين القضية الفلسطينية والقضية اللبنانية عواقب وخيمة على المشهد السياسي في البلاد. فمن خلال إلزام لبنان ضمناً بمسؤوليات أخلاقية وسياسية في الموضوع الفلسطيني، وقبله بسبب حجم التكاذب اللبناني. اللبناني في موضوع الفصل بين سلاح مقاومة وسلاح ميليشيا، استطاعت ميليشيا الحزب استغلال هذا الالتباس لتعزيز موقعها كلاعب أساسي على الساحتين المحلّية والإقليمية، وتقديم نفسها على أنّها القوّة الوحيدة القادرة على الدفاع عن لبنان والنهوض بالقضية الفلسطينية في آن واحد بشكل عملي في مقابل أصحاب الخطابات والتمنّيات والنوايا الحسنة.
ضرورة الفصل بين القضيّتين اللبنانيّة والفلسطينيّة
إنّ مواجهة سرديّة الحزب ونفوذه بشكل فعّال، تحتاج إلى أن يقيم الرأي العام اللبناني فصلاً واضحاً بين القضيّتين اللبنانية والفلسطينية، والتخلّص من عقدة الدونيّة التي تُترجَم بأنّ منتقدي المشروع المسلّح للحزب عليهم أوّلاً الحصول على براءة ذمّة وطنية من خلال المزايدة عليه في تبنّي المقدّمات التي يستخدمها هو، وكلّ ذلك تحت عنوان “الصوابية السياسية” أو اللياقة السياسية (political correctness).
مخاطر خطاب الصواب السياسيّ
فلسلوك الصواب السياسي في قضية مثل قضية السيادة اللبنانية مخاطر جمّة:
– أوّلاً، يمكن أن يؤدّي سلوك الصواب السياسي الانتهازي إلى إضعاف التركيز على المشكلات الحقيقية التي تحتاج إلى المعالجة، وهي هنا مسألة السلاح غير الشرعي اللبناني والفلسطيني. هذا ملفّ ملحّ لا يتماشى التفكير في الحلول بشأنه مع مقدّمات التفجّع على عدالة القضية الفلسطينية أو إعلانات الانحياز غير المبرّر لبنانياً إلى ما يسمّى المقدّسات والقضية والنضال.
– ثانياً، من خلال تبنّي مواقف تتّسم بالصواب السياسي تجاه القضية الفلسطينية، من دون امتلاك تصوّر جدّي لكيفية معالجة أو مساعدة هذه القضية، ومن دون تعريف واضح لحدود علاقتنا كلبنانيين بالقضية الفلسطينية، يقوّض السياسيون الانتهازيون شرعية القضايا الخاصة بهم، كمسألة معالجة السلاح غير الشرعي، ويفسحون المجال لأن تستغلّ مجموعات مثل الحزب و”حماس” هذا التوافق المزيّف حول “القضية” لتعزيز أجنداتها الخاصة.
فبدلاً من تعزيز نقاش مستنير وصادق، حول تاريخ ومستقبل لبنان في علاقته بالمسألة الفلسطينية، بعد كلّ الأثمان التي دفعها لبنان، يمكن أن يؤدّي سلوك الصواب السياسي إلى تفريغ الحوار العامّ وتحويله إلى مجرّد شعارات، وإضعاف الفهم الجماعي للتحدّيات الحقيقية والحلول الممكنة.
– ثالثاً، يمكن أن يسهم خطاب الصواب السياسي الانتهازي في زيادة حدّة الاستقطاب بين اللبنانيين، الذين يشعر بعضهم بأنّ وجهة نظرهم مصادَرة عبر شعارات الإجماع المزيّف، ويؤدّي بالتالي إلى زيادة التوتّرات وتعميق الانقسامات القائمة بين المجموعات اللبنانية والمساهمة في استيلاد مشهد سياسي واجتماعي لبناني أكثر تشتّتاً واختلالاً وظيفياً.
– رابعاً، إنّ لخطاب الصواب السياسي الانتهازي آثاراً دولية أيضاً على لبنان، إذ إنّه من خلال الظهور بمظهر التوافق مع ميليشيا الحزب بشأن المقدّمات التي يبني عليها مشروعه السياسي والعسكري، يضع السياسيون اللبنانيون بلدهم عن غير قصد في محور محدّد يستدرج ضدّه ردوداً سياسية وعسكرية، أو يستدرج إهمالاً للقوى السيادية بسبب عدم جدّيتها. إنّ لبنان أحوج ما يكون اليوم إلى التفلّت بأعلى مستوى ممكن من شبكة الصراعات الإقليمية المعقّدة، والتركيز على معالجة التحدّيات الداخلية، وأوّل ذلك التفلّتُ من أسر ما يسمّى القضية الفلسطينية.
على المستوى الرسمي، لم يرقَ البيان الأوّل للحكومة اللبنانية إلى حدّ إدانة الهجمات الصاروخية، مكتفياً بإعلان التأكيد على التزام لبنان بالقرار1701
علاوة على ذلك فإنّ للخفّة في استعارة خصوم ميليشيا الحزب لخطاب الميليشيا لضمان درء تهم التخوين عن أنفسهم انعكاسات سياسية عمليّة على حضورهم ومستقبلهم السياسي.
فعندما يتبنّى حزب سياسي ما يبدو خطاب خصومه بشأن قضيّة معيّنة، فإنّه يضفي مصداقية على موقفهم ويقرّ لهم بأن يحدّدوا الأولويّات والسرديّات السياسية وحدود ما هو مقبول وما هو مرفوض، وهو ما يمكن أن تكون له عواقب سلبية:
– أوّلاً: من خلال تبنّي خطاب ميليشيا الحزب، ينتهي الأمر بخصومها إلى المساومة على مبادئهم وقيمهم، ويعزّز مشاعر الارتباك وخيبة الأمل بين مؤيّديهم، ويقود إلى إضعاف التماسك الداخلي للجبهة المناهضة للميليشيا، ويقوّض قدرة هذه المجموعة السياسية على الدفاع بشكل فعّال عن مواقفها الأصلية.
– ثانياً: إنّ تبديد الخطوط الفاصلة بين وجهات النظر المتعارضة، الذي ينتج عن تبنّي فريق ما لخطاب خصومه، يجعل من الصعب على الجمهور التفريق بين الأحزاب والمواقف الخاصة بكلّ منها، وهو ما وصلت إليه الحالة الاستقلالية في صيغتها الأولى، في 14 آذار، بسبب حجم الذوبان بخطاب الحزب. وهذا أحد الأسباب العميقة خلف ولادة شعار “كلّن يعني كلّن”، الذي أفضى إليه إلغاء أيّ نقاش سياسي ذي مغزى ومصادرة السياسيين باسم التسوية لسبل تنمية رأي عامّ مستنير.
– ثالثاً: باستخدام لغة وخطاب ميليشيا الحزب من دون أيّ تمايز أو وجود تصوّر مختلف للمسألة الفلسطينية، يقوّي أصحاب هذه المواقف عن غير قصد سردية ميليشيا الحزب، ويصعّبون على أنفسهم إمكانية تحدّي أفكار الميليشيا ومقترحاتها في الموضوع الفلسطيني كما في مواضيع أخرى.
سبق أن سقطت نخب عربية كثيرة قبلاً في فخّ خطاب الصواب السياسي ومغريات الانتهازية الفكرية. لقد دفع خوف هذه النخب من الظهور بمظهر المؤيّدين للغزو الأميركي في العراق وأفغانستان بعد اعتداءات 11 أيلول 2001، إلى تبنّي خطاب بن لادن ومقدّماته، قبل أن يقفزوا بشكل بهلواني إلى إدانته تماماً كما يفعل في لبنان من يتبنّون مقدّمات خطاب الحزب عن القضية الفلسطينية ثمّ يقفزون إلى إدانة الصواريخ من دون نقاش حقيقي وجدّي حول السلاح الفلسطيني كأقلّ تقدير.
لقد بالغ معظم من يشكّلون هذه النخبة في تبنّي خطاب ينتقد السياسة الخارجية الأميركية والتدخّل والإمبريالية، بنيّة النأي بأنفسهم عن تهمة الولاء لأميركا، لتكون النتيجة أنّهم عزّزوا الرواية التي كان بن لادن يروِّج لها، وهي رواية صوّرت الولايات المتحدة على أنّها العدوّ الأساسي للعالم العربي والإسلامي. قدّم هؤلاء السياسيون منصّة لبن لادن للترويج لأيديولوجيته المتطرّفة وأعطوها الكثير من الحضور في الخطاب العامّ، وأسبغوا بالتالي الكثير من الشرعية على قضيّته، بشكل فاقم من صعوبة تحدّي روايته المتطرّفة.
إقرأ أيضاً: جنوب لبنان غزّة جديدة؟
باختصار، فإنّ استراتيجية شرائح كبيرة من النخبة العربية القائمة على الخوف من الظهور بمظهر مؤيّد لأميركا ، جعلت أصحابها في نهاية الأمر، يعملون في خدمة تكريس دعاية بن لادن المعادية لأميركا.
هذا تماماً ما يعاني منه الرأي العامّ اللبناني. ما نحتاج إليه هو خطاب متحرّر من أسر الدونية تجاه الحزب والبريق المزيّف لخطابه وقيمه حول فلسطين وحقوق الشعوب والمستضعَفين، والتفرّغ بدلاً من ذلك للتركيز على كلّ ما من شأنه خدمة القضية اللبنانية، بكلّ متفرّعاتها، أكان في بند السيادة أم في بند الإصلاح الاقتصادي أم في بند إعادة تأسيس شبكة الأمان الإقليمي والدولي للبنان عبر الشرعيّتين العربية والدولية. إنّ فداحة غياب خطاب سياسي شجاع وقادر على تقديم حجج واضحة ومتّسقة ومنطقية، لا تقلّ عن فداحة احتلال القرار الوطني اللبناني من قبل ميليشيا مسلّحة.
لبنان أوّلاً.. وثانياً.. وعاشراً.. مع تمنّياتي لفلسطين بكلّ خير.. بعيداً عن القضية اللبنانية
لمتابعة الكاتب على تويتر: NadimKoteich@