إسرائيل: أزمة هوية ومصير..

مدة القراءة 4 د

في كلّ مرّة تُدعى اللجنة القضائية في الكنيست (البرلمان) الإسرائيلي للاجتماع، يحرص رئيس اللجنة سيمحا روتمان على ترديد فقرة من سفر النبي أشعيا تقول: “سوف ننقذ صهيون بالحكمة”.
ولكنّ الحكمة ضائعة بين القوى المؤيّدة لرئيس الحكومة بنيامين نتانياهو ومعارضيه. الفريقان متّفقان على أمرين متناقضين: الأمر الأوّل هو حماية الديمقراطية في إسرائيل والتمسّك بأركانها. أمّا الأمر الثاني فهو توسيع الاستيطان في الضفة الغربية والنقب، وفرض سقف منخفض فوق رؤوس فلسطينيّي 1948 (الذين بقوا في إسرائيل وحصلوا على جنسيّتها). من ذلك مثلاً أنّ التعديلات القضائية موضوع البحث الآن تقول:
1- إنّ من حقّ المتّهم أو حتى المدان بالاختلاس أن يمارس العمل السياسي في الكنيست والحكومة. ومن حقّ المتّهم أو حتى المدان بارتكاب جريمة ضدّ الإرهابيين الفلسطينيين أن يتبوّأ مناصب عليا في الدولة.
2- إنّ من حقّ قوى الأمن والجيش اقتحام بيت أيّ “متّهم” من عرب إسرائيل بارتكاب جريمة أمنية أو بالمشاركة فيها من دون حاجة إلى مذكّرة اعتقال أو تفتيش.
3- إنّ المتعاطفين مع غزّة أو الضفّة الغربية، أو مع الإرهاب الفلسطيني حسب نصّ المشروع، من عرب إسرائيل ليس لهم حقّ الترشّح لعضوية الكنيست أو تبوّؤ مواقع في إدارات الدولة. ومن هؤلاء أعضاء حالياً في الكنيست يجب أن يُطردوا منه لأنّ تأييدهم “للفلسطينيين” خيانة وطنية.
4- من حقّ الحكومة أن تسحب الجنسية الإسرائيلية من كلّ فلسطيني سبق له أن حصل عليها ويجاهر بتأييده للفلسطينيين أو تعاطفه معهم.
5- القانون الذي سبق أن وافق عليه الكنيست ويعتبر إسرائيل دولة يهودية، يعني أن لا مكان لغير اليهود في مؤسّسات الدولة، وخاصة في المؤسسات السياسية (الحكومة والكنيست) والإدارية.
من الواضح أنّ هذه التعديلات المقترحة لا تلوي ذراع الجهاز القضائي الذي يمارس سلطة مراجعة قرارات وإجراءات الحكومة فقط، بل وتفرض واقعاً سياسياً جديداً يستجيب لمنطق القوى الصهيونية المتطرّفة المتحالفة مع نتانياهو. وهو التحالف الذي من دونه ما كان وصل إلى رئاسة الحكومة.

يزيد الأمر تعقيداً الاتّهامات القضائية لنتانياهو بالاختلاس والرشوة، الأمر الذي يضعه في صراع وجهاً لوجه مع المؤسسة القضائية التي كان هو نفسه من أشدّ المتحمّسين للدفاع عنها قبل صدور هذه الاتهامات

دولة غير دستورية
على الرغم من قيام إسرائيل بالقوة العسكرية وبقوة الدعم الدولي في عام 1948، فلا تزال دولة غير دستورية، بمعنى أنّها لم تعتمد حتى الآن أيّ نص دستوري تحتكم إليه مؤسّساتها السياسية. وربّما يعود السبب في ذلك إلى أنّ الدستور يُفترض أن ينصّ على حدود الدولة. غير أنّ إسرائيل تعتبر حدودها الحالية حدوداً مؤقّتة (أي غير دستورية)، وأنّ الحدود “الدينية” الرسمية هي من النيل إلى الفرات. ولأنّها أعلنت نفسها دولة دينية لليهود حصراً، فلا تستطيع أن تحدّد لنفسها حدوداً لا تعكس هذا الالتزام الديني.
من أجل ذلك لا يوجد في إسرائيل مجلس دستوري للنظر في دستورية القوانين، كما هو الأمر في سائر الدول الديمقراطية الأخرى. ويتولّى مجلس القضاء هذه المسؤولية كأمر واقع، فبات في حالة مواجهة دائمة مع الحكومة والكنيست (البرلمان) من جهة، ومع المبادئ الديمقراطية المنفتحة على حقوق الآخر واحترام كرامته من جهة ثانية، ومع العنصرية الدينية المنغلقة على الذات الرافضة للآخر من جهة ثالثة.
يعني ذلك عمليّاً أنّ التهم الموجّهة إلى عسكريين وسياسيين إسرائيليين بارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، لا يمكن أن تكون موضع مراجعة أمام المحاكم الإسرائيلية. وترجمة ذلك أنّ المرجع الوحيد الذي يبقى صالحاً للنظر في مثل هذه القضايا هي المحكمة الدولية (في لاهاي). وهو ما يحرج السلطة الإسرائيلية ويضطرّها إلى طلب الحماية من المرجعيات الدولية النافذة، وفي مقدَّمها الولايات المتحدة. ولقد حاولت السلطة الفلسطينية مراراً التوجّه نحو محكمة العدل الدولية بشكاوى ضدّ ارتكابات إسرائيل المناقضة للقانون الدولي، لكنّ التدخّلات الدولية حالت دون ذلك باستمرار. إلا أنّ الانقسامات الداخلية كشفت واقع الارتكابات الإسرائيلية من دون تدخّل المحكمة الدولية.

إقرأ أيضاً: بين إسرائيل وفلسطين: صراعات.. لا صراع واحد

من أجل ذلك اضطرّ الرئيس الإسرائيلي إسحق هرتسوف إلى أن يعترف في 12 شباط الماضي أنّ “إسرائيل على حافة انهيار دستوري واجتماعي”، ودعا إلى تهدئة الأمور. غير أنّ حكومة نتانياهو رفضت ذلك تحت ضغط القوى الدينية العنصرية المتشدّدة.
يزيد الأمر تعقيداً الاتّهامات القضائية لنتانياهو بالاختلاس والرشوة، الأمر الذي يضعه في صراع وجهاً لوجه مع المؤسسة القضائية التي كان هو نفسه من أشدّ المتحمّسين للدفاع عنها قبل صدور هذه الاتهامات.
لذلك لا تواجه إسرائيل أزمة سياسية – قضائية فقط، بل تواجه أزمة هويّة ومصير.

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…