منذ إعلان الاتفاق السعودي ـ الإيراني برعاية صينية، انبعثت أسئلة كثيرة في مراكز الأبحاث السياسية والجيوبوليتيكية عن الأفق الدبلوماسي والأمني لما حصل باعتباره مفارقة دبلوماسية صينية قد تنسحب على الأمن، إضافة إلى كونه يمثّل تنافساً محموماً مع أميركا. وإذ يمكن لواشنطن أن تقارب الاتفاق من وجهتين: سلبية عبر القلق من تنامي نفوذ بكين، وإيجابية عبر الحدّ من التوتّرات وصولاً إلى إنهاء الحرب باليمن وضمان تدفّق موارد الطاقة بعيداً عن المخاطر، لكنّ الأمر مختلف بالنسبة لروسيا لاعتبار أنّها قبل الحرب على أوكرانيا كانت قادرة على التواصل مع كلّ أطراف الشرق الأوسط والخليج العربي.
أظهرت رعاية بكين للاتفاق أنّ الدبلوماسية في الشرق الأوسط حيّة وبصحّة جيّدة ولا تمرّ دائماً عبر واشنطن، وفي ظلّ قلق إسرائيلي. لكنّ السؤال المُستمرّ هو: هل ينجو التقارب السعودي الإيراني من رؤية إيران الاستراتيجيّة التي لم تتغيّر؟
في هذا التقرير يدلي خبراء من المجلس الأطلسي بآرائهم في هذا الإعلان وأهمّيته لأنّه يتعلّق بواحدة من أكثر المنافسات أهمية في الشرق الأوسط بالنسبة للمنطقة والعالم الأوسع.
لا تصدّقوا وعود الصين
تصبح المصالح الأميركية في الخليج أكثر أماناً إذا كانت الدول المحيطة به تعمل بنشاط على تهدئة التوتّرات المتبادلة. كان هذا هو الحال عندما ساعدت الاتفاقية الأمنية لعام 2001 بين المملكة العربية السعودية وإيران على منع الصراع بين الطرفين. لكنّ هذه المرّة تأتي الصفقة مع تحذيرين يثير كلّ منهما أسئلة استراتيجية مهمّة لدى الولايات المتحدة:
– أوّلاً: الصين هي التي جمعت الطرفين معاً، بعد سنوات عديدة من إعلانها أنّها أرادت ببساطة إقامة علاقات اقتصادية في الشرق الأوسط ولم تكن تسعى إلى ممارسة أيّ نفوذ سياسي، ولقد ظهر أنّ هذه التصريحات خاطئة.
في الواقع، على مدى العقدين الماضيين، زادت الصين من نفوذها السياسي بالمنطقة، واليوم تعد بأنّها تريد فقط النفوذ الدبلوماسي وليس الوجود العسكري الإقليمي. كان يجب على العالم ألّا يصدّق وعود الأمس، وبالتأكيد لا ينبغي له أن يصدّق وعود اليوم.
المعلومات التي تفيد بأنّ السعودية اقترحت شروطاً في واشنطن لتطبيع العلاقات مع إسرائيل هي أمر يجب أن يكون محور مخاوف الدبلوماسية الأميركية الآن
– ثانياً، يأتي هذا الإعلان في وقت تنسّق فيه الولايات المتحدة وإسرائيل عن كثب الردود المحتملة على برنامج إيران النووي المستمرّ، إضافة إلى التدريبات العسكرية المشتركة. سترى الحكومة الإسرائيلية أنّ هذه المبادرة هدفها الحدّ من تهديد العمل العسكري ضدّ إيران. لن يكون مفاجئاً أن يكون الإعلان التالي هو استئناف المناقشات بين الولايات المتحدة وإيران بشأن خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA)، مرّة أخرى تحت رعاية الصين.
*ويليام ف. ويشسلر المدير الأول لمركز رفيق الحريري وبرامج الشرق الأوسط في المجلس الأطلسي.
ضمانة لأمن الرياض وطهران
يعكس قرار استئناف العلاقات بين إيران والسعودية رغبة المملكة في خفض درجة التوتّر مع إيران، بما يقلّل من مخاطر طهران وأذرعتها على المملكة. فالتركيز الاستراتيجي الأساسي والوحيد للرياض هو تنويع اقتصاد البلاد وعدم تعطيل عمليات التنقيب وتوفير مكان آمن للاستثمار الأجنبي.
يأتي هذا التقارب في وقت تتفاقم فيه الحالة مع إيران بالنسبة للولايات المتحدة وإسرائيل، وذلك أنّ تخصيب طهران لليورانيوم بما يقارب نسبة 90% من النقاء المطلوب لإنتاج الأسلحة، هو مصدر قلق كبير للسياسيين الإسرائيليين والأميركيين.
قد يكون من المرجّح أن تواصل الرياض تعاونها الأمني والاستخباري مع القدس، لكن من المرجّح أن تراهن طهران على أنّ نظراءها السعوديين سيكونون أقلّ ميلاً للسماح بعمل عسكري إسرائيلي و/أو أميركي ضدّ إيران.
الجزء الأكثر إثارة للاهتمام في هذا التطوّر هو الدور الذي لعبته بكين. وليس خطأً اعتبار أنّ الشرق الأوسط الذي تهيمن عليه الصين من شأنه أن يقوّض بشكل أساسي التجارة والطاقة والأمن القومي للولايات المتحدة.
*جوناثان بانيكوف مدير مبادرة سكوكروفت الأمنية للشرق الأوسط في برامج الشرق الأوسط.
ليست نهاية حقبة أو بداية أخرى
لا ينبغي لواشنطن أن تبالغ في ردّ فعلها ولا أن تستخفّ بدور الصين في استئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران. ومن غير المرجّح أن يؤدّي استئناف العلاقات هذا إلى تغيير كبير في الوضع الأمني في الخليج. ولأسباب جيوسياسية أكثر منها دينية، ستنظر دائماً طهران والرياض إحداهما إلى الأخرى بعين حذرة. لذا لا تحتاج واشنطن أن ترى إعلان اليوم نهاية حقبة أو بداية عصر.
المعلومات التي تفيد بأنّ السعودية اقترحت شروطاً في واشنطن لتطبيع العلاقات مع إسرائيل هي أمر يجب أن يكون محور مخاوف الدبلوماسية الأميركية الآن. ربّما لا يمكن لواشنطن تلبية شروط الرياض، لكنّ انخراط الصين في إعادة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران يُظهر أنّ الدبلوماسية في الشرق الأوسط حيّة وبصحّة جيّدة ولا تمرّ دائماً عبر واشنطن.
*توماس س. واريك هو زميل في مركز سكوكروفت للاستراتيجيات والدفاع الأمامي التابع لمبادرة سكوكروفت الأمنيّة للشرق الأوسط في المجلس الأطلسي.
استئناف العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران برعاية الصين يثير إمكانية أن تلعب الأخيرة دوراً أكثر فاعلية من الولايات المتحدة في حلّ الخلافات بين الخصوم في الشرق الأوسط
هيمنة إيران الإقليميّة
يمكن لواشنطن أن ترى نصف الكأس الممتلئ ونصفها الآخر الفارغ في إعلان استئناف العلاقات الدبلوماسية بين إيران والسعودية بوساطة الصين:
– النصف الممتلىء: الحدّ من التوتّرات الإيرانية السعودية، وهو هدف أيّدته الولايات المتحدة لأنّه يساعد في إنهاء الحرب في اليمن، وخفض التوتّر بالعراق.
– النصف الفارغ: رؤية نفوذ الصين يزداد من خلال إظهار قدرتها على الاستفادة من علاقاتها البنّاءة مع طرفَي صراعات الشرق الأوسط.
لكنّ الصينيين والسعوديين يخاطرون بشكل كبير برهانهم على نوايا إيران الحسنة. فهل ينجو التقارب السعودي الإيراني من رؤية إيران الاستراتيجيّة التي لم تتغيّر؟ وما هي الأدوات التي يمكن أن تقدّمها الصين إلى طاولة المفاوضات عندما تنتهك طهران شروط الاتفاق وروحه؟
سيذكّر هذا الرياض بأنّ بكين، على الرغم من كلّ نفوذها الاقتصادي والدبلوماسي الآن، ليست شريكاً موثوقاً به لضمان أمن المملكة. لكنّ لجوء المملكة إلى بكين هدفه الحصول على المزيد من الأسلحة والضمانات الأمنية والتقنيات النووية المدنية من الولايات المتحدة مقابل اتفاقية تطبيع مع إسرائيل.
*السفير دانيال ب. شابيرو زميل متميّز في المجلس الأطلسي وسفير أميركي سابق في إسرائيل من 2011 إلى 2017.
أوّل غزوة صينيّة للشرق الأوسط
لطالما كان هناك افتراض بأنّ وجود الصين على جانبَي الخليج غير مقبول على المدى الطويل، وأنّ عليها أن تختار جانباً. بكين تستخدم الجزرة التي تركّز على الاقتصاد والتنمية، في حين أنّ الولايات المتحدة هي التي تستخدم العصا فقط.
هذه هي أول غزوة رئيسية للصين في الدبلوماسية الإقليمية. ومع ذلك، فهي مهمّة لأنّها كذلك. تشير بكين منذ كانون الثاني على الأقلّ إلى أنّها مستعدّة للترويج لرؤية للشرق الأوسط غير متمركزة حول الولايات المتحدة.
*جوناثان فولتون، أستاذ مساعد للعلوم السياسية في جامعة زايد في أبو ظبي وخبير في السياسة الصينية تجاه الشرق الأوسط.
روسيا الخاسر الأكبر
استئناف العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران برعاية الصين يثير إمكانية أن تلعب الأخيرة دوراً أكثر فاعلية من الولايات المتحدة في حلّ الخلافات بين الخصوم في الشرق الأوسط.
وقد يكون أحد التأثيرات المباشرة لدور الصين في تطبيع العلاقات السعودية الإيرانية هو تعقيد الآمال الأميركية في عقد “اتفاق أبراهام” آخر يعمل على تطبيع العلاقات السعودية الإسرائيلية. ومع ذلك، قد تستفيد إسرائيل إذا كانت السعودية الآن في وضع أفضل للعمل وسيطاً بين طهران والقدس. وسواء حدث ذلك أم لا، فإنّ الخاسر الأكبر في كلّ هذا قد يكون في الواقع روسيا التي أعلنت نفسها بديلاً لواشنطن ووسيطاً فعّالاً في الشرق الأوسط.
* الدكتور مارك ن. كاتز هو زميل أقدم غير مقيم في برنامج الشرق الأوسط التابع للمجلس الأطلسي وأستاذ للحوكمة والسياسة في كلية شار للسياسة بجامعة جورج ميسون.
من الواضح أنّ المبادرة الصينية تتناسب تماماً مع الخطاب الذي تحاول بكين تطويره انطلاقاً من كونها قوّة مسؤولة وإيجابية وسلمية تسعى جاهدة إلى حلول بنّاءة وتتمكّن بشكل متزايد من دفع الأمور إلى الأمام
الخليج يبحث عن الأمن
تطبيع العلاقات بين إيران والسعودية هو نتيجة أخرى لبحث الخليج عن الأمن في منطقة ما بعد الولايات المتحدة. انهارت العلاقات في عام 2016 بعد سلسلة من الأزمات المتتالية في أعقاب مفاوضات خطة العمل الشاملة المشتركة. وهي مفاوضات عارضها السعوديون وحلفاء إقليميون آخرون بشدّة، معتقدين أنّها ستؤدّي إلى تقليص الولايات المتحدة لتوازنها الإقليمي مع إيران، فيما ميزان القوى الإقليمي يكون مستقرّاً عندما تكون واشنطن حليفاً نشطاً.
انبثقت اتفاقيات أبراهام عن بحث مشابه عن الأمن والتصوّر أنّ الولايات المتحدة تنفصل عن المنطقة. سعت دول الخليج السنّية الأكثر انكشافاً إلى استبدال بعض قوة الردع الأميركي التي اعتمدوا عليها بقوّة الردع الإسرائيلي، والحفاظ على التزام الولايات المتحدة كقائدة ثانوية لعملية السلام.
*أندريو بيك هو زميل غير مقيم في برنامج الشرق الأوسط التابع للمجلس الأطلسي.
إقرأ أيضاً: أميركا – الخليج: ما هي الخطوة التالية؟
الصين تسعى للتأثير في الحرب بأوكرانيا
من الواضح أنّ هذه المبادرة الصينية تتناسب تماماً مع الخطاب الذي تحاول بكين تطويره انطلاقاً من كونها قوّة مسؤولة وإيجابية وسلمية تسعى جاهدة إلى حلول بنّاءة وتتمكّن بشكل متزايد من دفع الأمور إلى الأمام. بطريقة ما، يمكن اعتبار الوساطة الصينية خطوة مكمّلة لـ “خطة السلام”، أو بشكل أكثر دقّة “ورقة موقف” بكين بشأن الحرب في أوكرانيا.
في هذا السياق، يظهر سؤالان: أوّلاً، هل هناك متابعة للصيغة الصينية – السعودية – الإيرانية؟ وهل يمثّل هذا “الانقلاب الدبلوماسي” الصيني بدايةً لانخراط سياسي أعمق لبكين في المنطقة؟ ثانياً، هل يمكن أن تصبح الوساطة الصينية الناجحة الأولى نموذجاً لدبلوماسية صينية أكثر حزماً ليس فقط في الشرق الأوسط ولكن على المسرح العالمي؟
*السفير ميشيل دوكلوس سفير فرنسي سابق في سوريا من 2006 إلى 2009 وزميل أقدم غير مقيم في مركز رفيق الحريري للشرق الأوسط.
لقراءة النص الأصلي: إضغط هنا