التخلّف عن سداد الديون ليس السبب!

مدة القراءة 9 د


“مصرف لبنان هو المكان الذي تمّ فيه إهدار معظم الأموال، شئنا أم أبينا.. وتخلّف الحكومة اللبنانية عن سداد الديون ليس السبب في الأزمة اليوم”.
هذا الرأي أعلنه المدير العامّ التنفيذي لبنك البحر المتوسط ميشال العقّاد في مقال له خصّ به صحيفة “لوريان لوجور” الصادرة باللغة الفرنسية في عددها الصادر أمس.

كتب العقّاد في مقاله:
منذ بداية الأزمة، لم يتوقّف النقاش في دور تخلّف لبنان عن سداد ديونه في إشعال هذه الأزمة. الموضوع مثير بشكل خاص، إذ يكفي فقط أنّ حاملي سندات اليورو، وخاصة أولئك الذين راهنوا على عدم إمكانية التخلّف عن السداد فاشتروا الأوراق المالية (بسعر مخفّض) قبل فترة وجيزة من التخلّف عن السداد، فقدوا أموالهم، بينما كسب أولئك الذين راهنوا على العكس من ذلك، والأرجح من خلال مقايضات التخلّف عن السداد (Credit Default Swaps).
قد يثير هذا الأمر أسئلة أخرى ذات صلة، مثل وجود تضارب مصالح محتمل في صنع القرار الذي سبق هذا الخيار السياسي، إلا أنّه لا يجيب على النقاط الأساسية التي يستند إليها هذا السرد: هل كان يمكن فعلاً تجنّب التخلّف عن السداد؟ هل هو أصل انهيار النظام المصرفي؟ وماذا كان سيحدث لو لم يتخلّف لبنان عن السداد؟

تسلسل زمنيّ صارم
إنّ مراجعة بسيطة للتسلسل الزمني للأحداث كافية لتقديم جزء من الإجابة على هذه التساؤلات. منذ الأيام الأولى للاحتجاج على الطبقة السياسية والنظام السياسي، أغلقت المؤسّسات أبوابها (في 18 تشرين الأول 2019) لمواجهة ما سيكون بالفعل تهافتاً على سحب الودائع (أو “ذعراً مصرفيّاً”) حقيقيّاً. خلال أسبوعين من هذا الإغلاق، توقّفت المعاملات بشكل عامّ، مع استثناء لا مفرّ منه لبعض التحويلات الخارجية المشبوهة المحتملة. وعندما تمّ وضع قيود غير رسمية عند إعادة فتح المصارف، كانت هذه الأخيرة قد باتت بحكم الواقع في حالة تخلّف عن السداد، غير قادرة على الاستجابة لطلبات السحب من المودعين، وما تزال في هذه الحال حتى اليوم.

في نهاية تشرين الأول 2019، انهار النظام المصرفي بعدما بلغ إجمالي الاحتياطيات السائلة المتاحة على الفور في مصرف لبنان حوالي 28 مليار دولار

في نهاية تشرين الأول 2019، انهار النظام المصرفي بعدما بلغ إجمالي الاحتياطيات السائلة المتاحة على الفور في مصرف لبنان حوالي 28 مليار دولار. بعد الكثير من الجدل والمراوغة والتردّد، وبعد ما يقرب من 6 أشهر من الأزمة، قرّرت حكومة (حسّان) دياب ومصرف لبنان، بدعم من سياسيّين مؤثّرين، التخلّف عن سداد 1.2 مليار دولار من الديون السيادية، المستحقّة في 9 آذار 2020.
بحلول نهاية شهر تشرين الأول نفسه، انخفض إجمالي احتياطيات السيولة لمصرف لبنان إلى حوالي 22 مليار دولار (بانخفاض قدره 6 مليارات دولار في 6 أشهر).
إذاً التسلسل الزمنيّ صارم: الأزمة الماليّة هي التي أدّت إلى التخلّف عن السداد، وليس العكس. لذا إذا لم “يتسبّب” التخلّف عن السداد في الأزمة، فهل أدّى على الأقلّ إلى “تفاقمها إلى حدّ كبير”، كما يدّعي معظم المعارضين الآن؟

ثلاثة خيارات رئيسيّة
لتوضيح ذلك وفهمه، يجب أن نعود إلى الخيارات الرئيسية الثلاثة (بالإضافة إلى بعض المتغيّرات) التي تمّ تقديمها إلى الحكومة في ذلك الوقت:
– احترام الالتزام بالدفع بحلول موعد الاستحقاق.
– التفاوض على تأجيل السداد، أو تسوية جزئيّة مع تعليق مؤقّت، وهو المعروف أيضاً باسم التخلّف المنظّم  (défaut ordonné).
– إعلان التخلّف من جانب واحد أو التخلّف القاسي (défaut dur).
لكلّ من هذه الخيارات تداعيات تختلف ملاءمتها رهناً بالظروف.
إذا كان مبلغ سندات اليوروبوند المستحقّة عند الاستحقاق ضئيلاً بالنسبة للاحتياطيات المتاحة، أو إذا كان المَدين في وضع ماليّ مريح، فإنّ السداد عند الاستحقاق أمر طبيعي. خلاف ذلك، وما لم يتوقّع المَدين إصدار أوراق ماليّة جديدة لتغطية عجزه، فقد يضطرّ إلى التقصير في الوفاء بالتزاماته. في معظم الحالات، سيختار المَدين التخلّف عن السداد “المنظّم”، الذي سيدفع فيه جزءاً صغيراً من الدين (على سبيل المثال 50% من الفائدة)، مقابل التأجيل (على سبيل المثال لستّة أشهر)، وهو ما يسمح له بالتفاوض على شروط إعادة هيكلة الديون الجديدة مع الدائنين. أخيراً، ليس للتخلّف “القاسي” أيّ ميزة على هذا الخيار، باستثناء أنّه يتيح للمَدين كسب الوقت، لكن بثمن تسارع الانهيار وتشدّد المواجهة مع الدائنين.
هذا هو المسار الأخير الذي تمّ اختياره في لبنان. وبالنظر إلى وضعنا، وعلى الرغم من أنّ التخلّف “القاسي” كان بلا شكّ خياراً سيّئاً، إلّا أنّه لم يكن الأسوأ من ناحية، ومن ناحية أخرى كان من المحتمل أن يكون للتخلّف عن السداد “المنظّم” نفس التأثير في لبنان بسبب عدم قدرة الدولة على اتّخاذ قرارات أو إجراءات ذات مغزى على جميع المستويات.
في رأيي، كان سداد سندات اليوروبوند المستحقّة بالفعل أسوأ خيار مطروح على الطاولة. تمّ تصنيف لبنان على أنّه  B- (أي في الفئة الخردة أوjunk ) منذ عام 2017، وفقد المستثمرون الدوليون اهتمامهم بالسندات السيادية اللبنانية بعد آذار 2017. وفي عام 2019، خفّضت وكالة التصنيف فيتش تصنيف لبنان مرّة أخرى إلى درجة CCC في آب 2019، ثمّ إلى CC  في كانون الأول 2019، أي بالكاد على بعد خطوتين من “الدرجات الفرعية” من أسوأ تصنيف ممكن، وهو D، لـ “التخلّف عن السداد”، وهو ما وصل إليه لبنان أخيراً في آذار 2020.

لقد عجز لبنان عن جذب المستثمرين الأجانب إلى إصدارات سندات يورو جديدة منذ آذار 2017، أي قبل عامين من التخلّف عن السداد، لذا لم يتمكّن من تحصيل ديون جديدة أو امتلاك الأموال اللازمة لسداد السندات المستحقّة

بالتالي إذا كان هناك من يتوهّم إلى الآن أنّه كان يمكن في ذلك الوقت الاستدانة من جديد لتمويل سداد مستحقّات آذار 2021، فهو مخطئ بشكل خطير: كان من الصعب جدّاً أن يوافق أيّ مستثمر على الاستثمار في أداة مصنّفةCC ، ربّما باستثناء أن يكون الاستثمار مقابل عوائد غير مستدامة للدولة من النوع الذي يعرضه المهندسون الماليون المشهورون في مصرف لبنان، وأكثر من ذلك…
لذلك ولأنه كان من المستحيل زيادة الديون في الأسواق الدولية بعد آذار 2017، مع آجال استحقاقات قادمة أخرى يبلغ مجموعها 2.5 مليار دولار لعام 2020 وحده، فلماذا تُسدّد دفعة (أو دفعتان) ثمّ يتمّ التخلّف عن السداد لاحقاً، مع نفاد الاحتياطيات في هذه الأثناء؟ من الواضح أنه كان من الأفضل التخلّف عن السداد في أقرب وقت ممكن، ولو أنّ الذين راهنوا على عدم التخلّف عن السداد قد لا يشاركون هذا الرأي.
بالتأكيد كان يمكن توقّع أن تسعى الحكومة إلى التفاوض بشأن تأجيل وإعادة هيكلة الديون مع دائنيها، لكنّ هذا لم يكن سهلاً أبداً في مواجهة 23 سلسلة من سندات اليوروبوند، وبالتالي 23 مجموعة مختلفة من الدائنين قد تختلف أهدافهم اعتماداً على تاريخ استحقاق الأوراق المالية المحتفَظ بها، على سبيل المثال. وهذا يفسّر جزئياً اختيار الحلّ السهل المتمثّل في هذا السياق بالتخلّف عن السداد من جانب واحد. بل إنّ الطابع غير الفعّال والمتضارب للسلطات اللبنانية كان سيؤدّي بحكم الواقع إلى إبطال الميزة النسبية للتخلّف “المنظّم” عن السداد على التخلّف عن السداد “القاسي”. وهذا لسبب بسيط: كان الهدف الرئيسي من الخيار الأوّل هو الاتفاق على إبقاء الوضع الراهن المؤقّت حتى يتمّ العمل على إعادة الهيكلة. ولكن، بعد أكثر من ثلاث سنوات من التخلّف عن السداد وبعد 45 شهراً من بدء الأزمة، ماذا لدينا اليوم؟ لا يوجد قانون بشأن مراقبة رأس المال أو إعادة هيكلة البنوك، ولا برنامج لصندوق النقد الدولي، ولا إصلاحات، ولا تحسين في الحوكمة، بل ولدينا أسعار صرف متعدّدة، وبنك مركزي يدعم القطاع العامّ من دون مبالاة. حتى الإجراءات القليلة التي تمّ تبنّيها، وهي أبسط الإصلاحات مثل ميزانية 2023 وقانون سرّية البنوك، كانت اجراءات فارغة.

القليل من التأثير
من الصعب أن نرى كيف كان يمكن للوضع الراهن التفاوضيّ لمدّة ستّة أشهر أن يُحدث فرقاً في الوضع. فلو اختارت الدولة، على سبيل المثال، دفع قسطَيْ الاستحقاق الأوّلَين، لكان الوضع كما هو اليوم، مع توافر احتياطيات إجمالية أقلّ قد تكون أقرب إلى الصفر لو واصلنا الدفع حتى الآن. وفي حالة التخلّف عن السداد “المنظّم”، وهو الخيار الأفضل على الورق، لكان وضعنا سيظلّ كما هو، إن لم يكن أسوأ قليلاً، بسبب مدفوعات الفائدة الجزئية، إضافة إلى واقع مواجهة دائنين ساخطين لرؤيتهم أنّ توقّعاتهم لم تتحقّق.

إقرأ أيضاً: لماذا تحسّنت الليرة مع اقتراب رحيل سلامة؟

لقد عجز لبنان عن جذب المستثمرين الأجانب إلى إصدارات سندات يورو جديدة منذ آذار 2017، أي قبل عامين من التخلّف عن السداد، لذا لم يتمكّن من تحصيل ديون جديدة أو امتلاك الأموال اللازمة لسداد السندات المستحقّة. وبالنظر إلى عدم قدرتنا على إجراء أيّ إصلاح، لم نكن نتوقّع من صندوق النقد الدولي والمانحين الدوليين مساعدتنا، لا حينها ولا الآن. في هذا السياق، لم يكن الوفاء بالديون أو التخلّف عن السداد ليغيّرا شيئاً (باستثناء بضعة مليارات من الدولارات تمّ توفيرها منذ عام 2020 “بفضل” التخلّف عن السداد).
بالطبع، كانت معاناة الدائنين صعبة، سواء أصحاب العقود الطويلة الأجل، مثل البنوك اللبنانية، أو المستثمرون الأجانب الذين من المفترض أن يفهموا مخاطر الاستثمار في الأدوات “الخردة” (junk). لكن في الواقع، الخسائر المترتّبة على ذلك ستكون هي نفسها في ذلك الوقت واليوم.
بالنسبة للمصارف اللبنانية على الأقلّ، فإنّ الخسائر في سندات اليورو، على الرغم من كونها كبيرة نسبة الى رأس مالها، طغت عليها الخسائر في استثماراتها وشهادات إيداعها لدى مصرف لبنان. ذاك هو المكان الذي تمّ فيه إهدار معظم الأموال، شئنا أم أبينا. وهو أمر كان سيحدث على أيّ حال، بسبب كلّ الاحتياطيات التي فقدناها في الإعانات التي استفاد منها المهرّبون وحماتهم وجارنا العزيز في الشمال.. .

 

* ميشال العقّاد المدير العامّ التنفيذي لبنك البحر المتوسط.

 لقراءة النص الأصلي: إضغط هنا

مواضيع ذات صلة

فريدريك هوف: خطوات ترسم مستقبل سوريا

حّدد الدبلوماسي والمبعوث الأميركي السابق إلى سوريا السفير فريدريك هوف عدّة خطوات تستطيع تركيا، بمساعدة واشنطن، إقناع رئيس هيئة تحرير الشام، أبي محمد الجولاني، باتّخاذها…

الرواية الإسرائيلية لتوقيت تفجير “البيجرز”

هل كان يمكن لتفجير “البيجرز” لو حدث عام 2023 انهاء الحرب في وقت أبكر؟ سؤال طرحته صحيفة “جيروزاليم بوست” التي كشفت أنّه كان يمكن لتفجير البيجرو…

فريدمان لفريق ترامب: ما حدث في سوريا لن يبقى في سوريا

تشكّل سوريا، في رأي الكاتب والمحلّل السياسي الأميركي توماس فريدمان، نموذجاً مصغّراً لمنطقة الشرق الأوسط بأكمله، وحجر الزاوية فيها. وبالتالي ستكون لانهيارها تأثيرات في كلّ…

ألكسندر دوغين: إسقاط الأسد فخّ نصبه بايدن لترامب

يزعم ألكسندر دوغين الباحث السياسي وعالم الفلسفة الروسي، الموصوف بأنّه “عقل بوتين”، أنّ سوريا كانت الحلقة الأضعف في خطّة أوسع نطاقاً لتقويض روسيا، وأنّ “سقوط…