لماذا تحسّنت الليرة مع اقتراب رحيل سلامة؟

مدة القراءة 5 د


مشهدٌ سورياليٌّ أن يتحسّن سعر صرف الليرة وتنتعش الحركة الاقتصادية، فيما البلاد غارقة في فراغ رئاسي وحكومي يوشك أن يتمدّد إلى حاكميّة مصرف لبنان، ومواقع أخرى كثيرة حسّاسة.

فهل من تفسير لذلك؟

للتحسُّن أسباب موضوعية لا تتوقّف على موسم الاصطياف، بل لا بدّ من العودة إلى الوراء قليلاً لفهم خلفيّات ما يجري.

كان وراء الانهيار النقدي في 2019 و2020 مسلسل طويل من خروج الأموال من النظام المالي وإلى خارج البلاد، بدأ بنزوح أموال بيئة الحزب اعتباراً من عام 2015 بفعل العقوبات الخارجية، ثمّ أتت سلسلة الرتب والرواتب لترفع الاستهلاك والاستيراد إلى مستويات جنونية وصل معها العجز في الميزان التجاري إلى 17 مليار دولار في 2019، ثمّ أتت موجة تهريب أموال النافذين عامَيْ 2019 و2020.

مشهدٌ سورياليٌّ أن يتحسّن سعر صرف الليرة وتنتعش الحركة الاقتصادية، فيما البلاد غارقة في فراغ رئاسي وحكومي يوشك أن يتمدّد إلى حاكميّة مصرف لبنان، ومواقع أخرى كثيرة حسّاسة

ما هي الأسباب؟

اعتباراً من 2021، تكفّل انهيار الليرة وتعثّر الدولة بتقليص عجز ميزان المدفوعات من جانبين:

– أعفت الدولة نفسها من سداد مليارات الدولارات من استحقاقات الفوائد والديون الخارجية (اليوروبوندز).

– تقلّصت القدرة الشرائية لموظّفي الدولة والعاملين في القطاع الخاصّ بشكل كبير، فانخفض الاستيراد إلى 11.3 مليار دولار في 2020 و13.6 مليار دولار في 2021، فأدّى إلى تقلّص عجز الميزان التجاري إلى 7.8 مليارات دولار في 2020 و9.8 مليارات دولار في 2021.

كانت تحويلات اللبنانيين العاملين في الخارج وإيرادات السياحة كافية لتعويض عجز الميزان التجاري، لولا تهريب أموال النافذين من القطاع المصرفي في 2020. وهذا ما أوصل عجز ميزان المدفوعات في ذلك العام إلى 10.5 مليارات دولار.

لذلك ما إن توقّف تهريب الأموال حتى انخفض عجز ميزان المدفوعات إلى 3.2 مليارات دولار في 2021، ثمّ إلى أقلّ من مليارَي دولار في 2022. وكان يمكن أن ينخفض أكثر لولا عودة فاتورة الاستيراد للارتفاع بشيء من الجنون، متجاوزةً مجدّداً حاجز الـ19 مليار دولار العام الماضي، بسبب مسارعة التجّار إلى بناء المخزونات استباقاً لرفع الرسوم الجمركية.

في الأشهر الثلاثة الماضية تضافرت ثلاثة عوامل لتحوُّل ميزان المدفوعات من العجز إلى الفائض:

1- عودة حركة الاستيراد إلى شيء من العقلانية بعد زيادة الرسوم الجمركية.

2- تدفّق أموال المغتربين والسيّاح.

3- عودة بعض الأموال الهاربة وظهور أثرها في الاقتصاد، استهلاكاً واستثماراً، وهي تشمل تلك المهرّبة قبل 17 تشرين وبعده، وحتّى تلك التي خرجت من البنوك إلى جمعية القرض الحسن قبل 2019.

العامل الأخير شديد الأهميّة، وربّما يظهر أثره بشكل أكبر حينما يعتاد الناس نظام “الودائع القديمة” و”الودائع الجديدة”، أسوة بالإيجارات القديمة والإيجارات الجديدة، بغضّ النظر عن الفساد الأخلاقي لهذا النظام الذي يشكّل تعدّياً مباشراً على الملكيّة الخاصّة للمودعين.

على الرغم من اختلاط الصورة، يبدو أثر موسم الاصطياف على الليرة أوضح ممّا كان عليه العام الماضي، حتى بات البعض يتندّرون بأنّ الاقتصاد يكون أحسن حالاً في غياب الدولة

فائض ميزان المدفوعات

ظهرت نتيجة كلّ ذلك في التحسّن الملحوظ لميزان المدفوعات اعتباراً من شهر نيسان الفائت، إذ سجّل في هذا الشهر فائضاً بنحو 62 مليون دولار، وربّما يرتفع الرقم في أيّار وأشهر الصيف مع تدفّق السيّاح والمغتربين.

لا تعني هذه التطوّرات أنّ الصورة ورديّة، فالوضع لن يعود إلى طبيعته ما لم ترجع الدولة إلى أسواق رأس المال لتمويل إنفاقها. وهذا لا يتأتّى إلا بتسوية مع الدائنين والاتّفاق مع صندوق النقد الدولي. وإلّا فإنّ أيّ تصحيح للأجور في القطاع العامّ سيقود إلى موجة جديدة من التضخّم وتراجع الليرة.

ثمّة عامل إضافي يتّصل بالتغيير المرتقب في حاكمية مصرف لبنان. فقد كانت أساسيّات سعر الصرف مشوّهة في السنوات الماضية بفعل التدخّلات غير الشفّافة من مصرف لبنان في سوق القطع، سواء عبر منصّة صيرفة أو عبر العمليّات غير المعلنة بينه وبين شركات الصرافة، لشراء الدولارات بسعر السوق السوداء. وقد كانت تلك العمليّات مكلفة ومرهقة لميزانية البنك المركزي، ولمّا كان مصرف لبنان لا يكشف عن بياناته، فلا أحد يعرف كم كانت تلك التكلفة على وجه التحديد، لكن يمكن استخلاص حصيلتها من تراجع احتياطيات البنك المركزي إلى ما دون عشرة مليارات دولار، ولا أحد يعلم إلا الله، ثمّ رياض سلامة، كم يبلغ صافي احتياطيات النقد الأجنبي، لكنّه بالتأكيد سالب بعشرات مليارات الدولارات.

مع اقتراب ولاية سلامة من نهايتها، انحسرت التدخّلات غير التقليدية، وبات من الأسهل نسبيّاً فهم أساسيّاته. وعند الحديث عن العوامل الأساسية، يكون الحساب الجاري، أو ميزان المدفوعات الذي هو إطار أشمل، هما الحاكمان في تحديد ميزان العرض والطلب على الليرة، باعتبار أنّهما يجمعان الحصيلة الإجمالية لما يدخل إلى البلاد من عملة صعبة وما يخرج منها.

إقرأ أيضاً: مواجهة الإصلاح.. بالإهتمام بالرسوم وإهمال للضرائب

على الرغم من اختلاط الصورة، يبدو أثر موسم الاصطياف على الليرة أوضح ممّا كان عليه العام الماضي، حتى بات البعض يتندّرون بأنّ الاقتصاد يكون أحسن حالاً في غياب الدولة، ربّما لأنّ يد السوق الحرّة أكثر قدرة على إدارة شؤونها من دولة فاقدة للجدارة.

لمتابعة الكاتب على تويتر: OAlladan@

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…