قناة السويس والتحدّيات الإسرائيلية؟

مدة القراءة 10 د


لم تتوقّف إسرائيل منذ العدوان الثلاثي على مصر عن استهداف قناة السويس للنيل من قيمتها الاستراتيجية، إذ أنشأت في عام 1968 بالتعاون مع شاه إيران خطّ أنابيب إيلات – عسقلان للتعويض عن خسارة أنبوب كركوك – حيفا ولتصدير النفط الإيراني بعيداً عن قناة السويس، فضلاً عن التفكير الإسرائيلي الدائم في إنشاء قناة مياه تربط العقبة بالبحر المتوسط تكون بديلاً عن قناة السويس. تواجه قناة السويس اليوم تحدّيات جيوسياسية كبيرة تأتي من الرهانات التي يضعها بنيامين نتانياهو على المشاريع الاقتصادية العملاقة المرتبطة باتفاقيات أبراهام، مثل خط الأنابيب المقترح إنشاؤه من أبو ظبي إلى ميناء إيلات عبر الأراضي السعودية، والذي يطرح تحدّيات تنافسية كبيرة على قناة السويس. يشكّل هذا المشروع بنظر نتانياهو فرصة ثمينة للتوسّع في التطبيع بهدف تعزيز اندماج إسرائيل في اقتصاد المنطقة الذي تضعه إدارة بايدن في مقدّم أولويّاتها. ويشكّل أيضاً تحوُّلاً كبيراً في الخريطة الجديدة لنقل النفط والغاز، وهو ما يعطي إسرائيل بعداً جيواقتصادياً ونفوذاً جيوسياسياً غير مسبوق في المنطقة، ويؤهّلها لتصبح الجسر الذي يصل أوروبا بالمتوسّط. بالتأكيد فإنّ المناخ السياسي المتوتّر الذي خلقته سياسات حكومة نتانياهو والسياق السياسي الجديد الذي فتحه الاتفاق الإيراني السعودي قد لا يجعلان حاليّاً من هذه المشاريع أولويّة على جداول أعمال الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية المعنيّة بشكل مباشر بهذه المشاريع التي ستمرّ في أراضيها. لكنّ الزخم الذي تحاول إدارة بايدن إعطاءه للتطبيع واندماج إسرائيل بصورة أكبر في المنطقة بعدما بلغت صادراتها إلى البلدان العربية سنوياً أكثر من 7 مليارات دولار، يدفع إلى أن تتهيّأ مصر لسيناريو يضع هذا المشروع في الواجهة، الأمر الذي يثير أسئلة ذات طبيعة جيوسياسية تتعلّق بكيفيّة تعامل مصر مع هذا السيناريو، وقدرتها على بناء الخيارات التي تحفظ مكانتها الجيوستراتيجية. 

تواجه قناة السويس اليوم تحدّيات جيوسياسية كبيرة تأتي من الرهانات التي يضعها بنيامين نتانياهو على المشاريع الاقتصادية العملاقة المرتبطة باتفاقيات أبراهام

هل تفقد قناة السويس مكانتها؟ 
تُعتبر القنوات البحريّة والطرق البرّية من أهمّ عناصر التنافس الإقليمي والدولي، إذ تمتلك الدول التي تتحكّم بهذه القنوات والطرق مزايا تنافسية وجيوسياسية مهمّة. يقدّم الموقع الجغرافي لقناة السويس مكاسب استراتيجية واقتصادية كبيرة لهذه القناة التي تُعتبر أسرع ممرّ للنقل البحري بين أوروبا وآسيا وتسيطر على جزء مهمّ من حركة التجارة العالمية. وقد ظهرت أهمّيتها من حيث إنّها محور رئيسي وحيوي للتجارة العالمية أثناء جنوح سفينة “إيفرغيفن” في ربيع عام 2021، إذ ذكرت تقارير عالمية أنّ توقُّف العمل في القناة لمدّة أسبوع يؤدّي إلى إضعاف نموّ التجارة العالمية بمقدار 2% إلى 4%. تشكّل قناة السويس أحد أهمّ مصادر العملة الصعبة للحكومة المصرية، وتقدّر عائداتها السنويّة بحوالي 6 مليارات دولار. 
يعتبر مركز المعلومات ودعم اتّخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء المصري أنّ قناة السويس تواجه تحدّيات استراتيجية، من خلال ظهور مشروعات لإنشاء طرق جديدة وإعادة إحياء طرق قديمة، سواء بحريّة أو برّية في بحر الشمال أو طريق الحرير الجديد أو نيكارغوا. ويرى أنّ التهديدات التي تفرضها قناة بنما ورأس الرجاء الصالح من الممكن احتواؤها. وتشير دراسات متعدّدة تتناول أثر التطبيع الذي يجري مع إسرائيل منذ عام 2020، إلى أنّ التهديدات التي تواجهها قناة السويس من خلال المشاريع المطروحة بين إسرائيل ومنطقة الخليج لن تقف عند حدود القناة بل ستطال مكانة مصر الإقليمية والدولية. وتتعاظم التحدّيات التي تفرضها المشاريع العملاقة في اتفاقيات أبراهام نظراً للدور التكاملي الذي تلعبه هذه المشاريع مع الخطط التي رسمتها ونفّذت قسماً منها حكومات نتانياهو السابقة. تهدف هذه الخطط إلى ربط إيلات على البحر الأحمر بمدن عدّة على البحر المتوسط، ومن بينها تل أبيب وحيفا وبعض المدن العربية. وتهدف أيضاً إلى تطوير الموانىء الإسرائيلية وربطها، وإنشاء جسر برّي مع الداخل العربي الذي خطّط له نتانياهو كي يكون الطريق التجارية البديلة عن قناة السويس. يمثّل خطّ الأنابيب المقترح إنشاؤه من أبو ظبي إلى ميناء إيلات عبر الأراضي السعودية، تحدّيات جدّية لقناة السويس، وذلك لقدرة المحطات في عسقلان وإيلات على استيعاب الناقلات العملاقة الضخمة التي لا تستطيع قناة السويس استيعابها، والتي بإمكانها أن تنقل حوالي مليونَيْ برميل يومياً. ويقدّم هذا الخطّ ميزات تفاضلية تتعلّق بالكلفة ومدّة الشحن، وذلك على حساب القناة التي تراوح رسوم المرور فيها باتجاه واحد للناقلات الأصغر حجماً من الناقلات العملاقة بين 300 إلى 400 ألف دولار. ولا شكّ أنّ نتائج هذه التحدّيات لا تقف عند المستويات ذات الطابع الاقتصادي، بل تتعدّاها إلى المستوى الجيوسياسي، إذ بات أحد أوجه الصراع الحالي، بعد تداعيات الحرب في أوكرانيا، هو إعادة رسم خريطة للطاقة وفق ميزان قوى عالمي جديد تلعب فيه الدول المنتجة للنفط والغاز في الشرق الأوسط، ولا سيّما المملكة العربية السعودية، دوراً رئيسياً. ويبدو أنّ إسرائيل تتهيّأ قبل غزو أوكرانيا لدور في خريطة الطاقة الجديدة التي تعطي لخطّ إيلات-عسقلان قيمة استراتيجية عالية، وللخطّ المعاكس الذي أنشأته من عسقلان إلى إيلات، إذ تتحوّل عسقلان مركزاً لنقل نفط أذربيجان وكازاخستان وضخّه إلى ناقلات النفط في الخليج لتلبية حاجات سوق الصين، كوريا الجنوبية وبلدان أخرى في آسيا. يراهن المسؤولون الإسرائيليون على أن يجذب الخطّ الذي يصل الخليج بخطّ إيلات-عسقلان ما بين 12% إلى 17% من حجم نشاط الناقلات التي تستخدم قناة السويس، مستفيدين من التهديدات التي تمثّلها إيران والحوثيون للملاحة البحرية، من مضيق هرمز إلى بحر العرب وباب المندب. 

أبعاد الخطط الإسرائيليّة
إنّ من بين الخطط القائمة لاستكمال هذا المشهد الجديد في خطوط الطاقة وصْلَ خطّ الجبيل-ينبع السعودي على البحر الأحمر بخطّ أنابيب آخر من إيلات إلى عسقلان. وتبلغ القدرة الاستيعابية لخطّ الجبيل بعد توسعته 6.5 ملايين برميل يومياً، وبإمكانه نقل النفط السعودي إلى شواطىء المتوسط، حيث يُنقل إلى أوروبا وغيرها من الأسواق، من دون المرور بمضيق هرمز الذي يمارس فيه الحرس الثوري الإيراني تهديدات تطال أمن الملاحة البحرية وأمن الطاقة. ومن بين الخطط التي وضعها المركز الإسرائيلي لتكنولوجيا المستقبل خرائط جغرافية وطوبوغرافية لنقل النفط من الكويت إلى العقبة/ إيلات، وإعادة تشغيل خطّ التابلاين القديم الذي ينقل نفط العراق عبر سوريا إلى حيفا.

يعتبر مركز المعلومات ودعم اتّخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء المصري أنّ قناة السويس تواجه تحدّيات استراتيجية

لا يؤدّي هذا المخطّط إلى الإضرار بمكانة قناة السويس فقط، بل يقضي على دور خطّ أنابيب النفط “سوميد” الذي يمتدّ من العين السخنة على خليج السويس إلى ميناء سيدي كرير على ساحل البحر الأبيض المتوسط بالإسكندرية. ويقضي أيضاً على إمكانية التفكير في نقل نفط العراق إلى ميناء العقبة الأردني. وإذا كان مشروع ربط نفط الخليج بخطّ إيلات-عسقلان قد فرضته المصالح السعودية-الإماراتية التي تسعى إلى نقل صادراتها النفطية بعيداً عن تأثير إيران في الممرّات البحرية وتحسين العناصر التنافسية في الكلفة والوقت، ففي المقابل يجب النظر إليه أيضاً في سياق التحدّيات التي يطرحها على مستقبل الوضع العربي برمّته، إذ إنّ الرهانات الإسرائيلية المعقودة على التطبيع من دون أيّ ثمن سياسي، والإمساك بغالبية خطوط نقل النفط والغاز، تدفع إلى الجزم أنّ الرؤية الإسرائيلية هذه تهدف إلى تحقيق تغييرات عميقة في الجغرافيا السياسية للأعمال على مستوى المنطقة. ويمكن التأكيد أيضاً أنّ نتانياهو سيستثمر في ربط نفط الإمارات العربية المتحدة والسعودية بالموانئ الإسرائيلية، وذلك لتنفيذ خطّ سكك حديدية يمرّ بالحدود الأردنية وجنين شمالي الضفّة بهدف إقامة خطّ تجاري واستثماري من البحر المتوسط وصولاً إلى الداخل العربي. ويهدف هذا المشروع إلى أن تتحوّل إسرائيل الجسر البرّي المباشر الذي يربط بين أوروبا والمنطقة، فيما يعوّل نتانياهو على دور الصين في تحقيق هذا الإنجاز الذي يلاقي رؤية الرئيس الصيني المتمثّلة في “الحزام والطريق” الهادفة إلى إنشاء سوق اقتصادية تربط بين آسيا وأوروبا وإفريقيا تتجاوز خطوط الانقسامات الأيديولوجية والسياسية القائمة. من المؤكّد أنّ هذا التغيير في الجغرافيا السياسية لأهمّ النشاطات الاقتصادية سيؤثّر في مكانة قناة السويس ودورها المركزي في التجارة العالمية، وسيطرح تحدّيات متعدّدة على الدور الإقليمي لمصر، التي تواجه اليوم تحدّيات هائلة في السودان وليبيا وفي أمنها المائي، مقابل الفرص التي تساهم في تحويل إسرائيل إلى مشروع جيواقتصادي يعزّز اندماجها في النظام الإقليمي الجديد، ويضمن لها حصرية دور الواجهة وصلة الوصل بين أوروبا والداخل العربي. 

محمّد بن سلمان يمسك بمفاتيح المشاريع
كما جاء في تقارير مركز المعلومات ودعم اتّخاذ القرار، قامت مصر في السنوات الأخيرة بجهود كبيرة ركّزت على: 
1- الانضمام إلى مبادرة “الحزام والطريق” للاستفادة من وضع قناة السويس ضمن خطط الممرّ البحري للمبادرة. 
2- إنشاء مجرى ملاحيّ (تفريعة جديدة) وتعميق المجرى الملاحيّ. 
3- تنمية محور قناة السويس بالكامل وتأهيله للمستوى العالمي في ظلّ المنافسة الشرسة. 
4- الاستثمار في مشروعات البنية التحتية، بما في ذلك السكك الحديدية والموانئ وخطوط الأنابيب وشبكات المرافق والاتصالات. 

إقرأ أيضاً: “القناة الجافّة” في العراق: مشروع بألف سؤال!

بالتأكيد شكّلت كلّ هذه الإجراءات خطوات بالغة الأهمية للحفاظ على مكانة قناة السويس وحماية عناصرها التنافسية والتخفيف من خطر التهديدات المحتملة. ولكنّ الموقف الحاسم في رفع التهديدات التي تطال قناة السويس ومكانة مصر يبقى بيد وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان الذي يمسك بمفاتيح هذه المشاريع. وفي هذا الإطار، ينظر وليّ العهد باهتمام بالغ إلى مكانة مصر وموقعها في التوازنات الإقليمية وفي المشهد السياسي الاقتصادي الذي تستعدّ له منطقة الشرق الأوسط بعد الاتفاق الإيراني السعودي وفي ضوء الدفع الأميركي المتواصل نحو التطبيع. يدفع حرصُ وليّ العهد على التوازن الإقليمي القائم الذي تمثِّل فيه مصر وزناً مهمّاً، إلى الاعتقاد بأنّ الرياض لن تندفع إلى خيارات تضعف الجغرافيا السياسية لمصر الحليف الاستراتيجي لها، ولا سيّما أنّ القيادة الحالية لمصر تتعامل بواقعية مع انتقال الثقل الجيوسياسي في المنطقة إلى المملكة، التي تمسك بالعديد من المفاتيح والقرارات الاستراتيجية. ويبقى الرهان في الحفاظ على التوازنات في المنطقة معقوداً على العلاقات المصرية-السعودية والمصرية- الإماراتية التي تطوّرت بشكل بالغ في السنوات الأخيرة، إذ ساهمت السعودية والإمارات بتعزيز الاستثمارات في الاقتصاد المصري الذي يواجه تحدّيات بالغة التعقيد، وقد بلغ حجم الاستثمارات الإماراتية حوالي 28 مليار دولار، وتعتزم الإمارات بحسب وزير الاقتصاد فيها استثمار 20 مليار دولار في مصر خلال العشر سنوات المقبلة. 
أخيراً، لحظت اتفاقات أبراهام هذه المشاريع في مرحلة التوتّر الكبير مع الجمهورية الإسلامية، فهل يدفع الاتفاق الإيراني السعودي إلى تأجيل بتّها، أم يقوم الثلاثي السعودي الإماراتي المصري بالإعداد لاستراتيجية عربية شاملة تتعامل مع تحدّيات قطار التطبيع، أم يربط محمد بن سلمان تنفيذ هذه المشاريع بالتقدّم على مسار حلّ الدولتين؟ مهما كانت الخيارات فسيكون على مصر أن تستعدّ للسيناريوهات كافّة. 

 

*أستاذ الدراسات العليا في كليّة الحقوق والعلوم السياسية والإدارية بالجامعة اللبنانية. 

مواضيع ذات صلة

لبنان والسّيادة… ووقاحة “الشّعب والجيش والمقاومة”

جاء المبعوث الأميركي آموس هوكستين أخيراً. لا يزال يعمل من أجل وقف للنّار في لبنان. ليس ما يشير إلى أنّ طرفَي الحرب، أي إيران وإسرائيل،…

أرانب نتنياهو المتعدّدة لنسف التّسوية

إسرائيل تنتظر وصول المبعوث الرئاسي الأميركي آموس هوكستين، بعدما بات ليلته في بيروت لتذليل بعض العقد من طريق الاتّفاق مع لبنان والحزب، على وقع الانقسام…

كيف ستواجه تركيا “فريق ترامب الصّليبيّ”؟

عانت العلاقات التركية الأميركية خلال ولاية دونالد ترامب الأولى تحدّيات كبيرة، لكنّها تميّزت بحالة من البراغماتية والعملانيّة في التعامل مع الكثير من القضايا. هذا إلى…

حماس وأزمة المكان

كانت غزة قبل الانقلاب وبعده، وقبل الحرب مكاناً نموذجياً لحركة حماس. كان يكفي أي قائد من قادتها اتصال هاتفي مع المخابرات المصرية لتنسيق دخوله أو…