حبيب صادق: مات منفيّاً على “جزيرة” الثقافة

مدة القراءة 5 د


مات حبيب صادق على سريره. نجا ممّا دهم كثيرين من يساريّين ومثقّفين جنوبيّين، وشيعة عموماً، في ثمانينيات القرن الماضي. منهم من قُتِلَ في سريره، مثل حسين مروّة، ومنهم من اغتيل في وضح النهار مثل مهدي عامل، وليس انتهاءً بلقمان سليم قبل سنوات قليلة، على “أرض الجنوب”.

لكنّ حبيب مات منفيّاً. وهذا ما غفل عنه كلّ الذين كتبوا في رثائه.

فقد غدرت 14 آذار به وبـ”المنبر الديمقراطي”، الذي ضمّ مثقّفين شيعة ويساريّين، استظلّوا اسمه ليهربوا من التسميات المذهبية في 2004 و2005.

غدرته 14 آذار وتحالفت مع الحزب وحركة أمل في انتخابات 2005 النيابية، بوجه كلّ يساريّ وشيعيّ “مختلف”. فخرج من العمل السياسي، وقرّر أن يقضي بقيّة سنواته في “المجلس الثقافي للبنان الجنوبي”، “أميناً عامّاً” للثقافة العامليّة الجنوبية (والشيعيّة استطراداً وأوّلاً). وهو مجلس مخصّص لإقامة الندوات الثقافية والأمسيات الأدبية والموسيقية بشكل أسبوعي.

هناك كان “مقبولاً”. “خارج السياسة”. على أطرافها.

مات حبيب صادق منفيّاً على سرير الثقافة. لا يمكن أن نودّعه من دون أن نعيد إليه فضله الكبير، أنّه ترك باب الجنوب مفتوحاً على “الاختلاف”

عقوبة النفي الطوعيّ التي نفّذها جنّبته مواجهات كثيرة كان لبنان يتوجّه إليها. حيّد نفسه، وقرّر أن لا طائل من العمل السياسي. من جهة هناك الحزب وحركة أمل وأسلحتهم وحيويّتهم العسكرية التي تتعاظم، ومن جهة أخرى مجموعة طوائف ومذاهب وزعماء ورجال أعمال تأتي التسويات على رأس جداول أعمالهم، من دون تخطيط أو تنظيم.

هكذا هو حبيب صادق، مثل كثيرين من أهل جبل عامل والبقاع والضاحية. لا الجنّة تقبل بهم، ولا النار تريدهم.

الشيعيّ المفضَّل: منفيّاً.. أو ميتاً

لم تحترم 14 آذار حبيب صادق ومن يمثّلهم ويمثّلونه. أحبّت أحمد كامل الأسعد أكثر. الإقطاعي سليل الإقطاع الذي حاربه حبيب صادق… فأعطته الملايين والانتخابات ليلعب بزوّادة من الشتائم والمواجهات الفولكلورية، من دون أن يحمل “فكرة” واضحة أو مشروعاً معقولاً.

ولم يحترمه أهل الممانعة، فحرّضوا عليه واتّهموه بالخيانة، قبل أن يبتعد ويترك لهم الساحة. وها مثقّفوهم يترحّمون عليه. تماماً كما كان السيّد محمد حسين فضل الله كافراً بالنسبة إليهم، في الدين والعقيدة والفقه، ولحظة وضع رأسه الجميل ونام النومة الأخيرة، مشوا في جنازته وبكوا عليه و”انتحلوا” صفته.

هكذا هم الشيعة الذين يشبهون حبيب صادق، الذين فيهم شيء من اليسار، وشيء من الثقافة، وشيء من الاختلاف، وشيء من الرغبة في الاتّصال بالعرب والغرب… فهم كفّارٌ في مساقط رؤوسهم، و”منبوذون” في الجهة الأخرى.

تسعون عاماً قضى حبيب صادق معظمها في “العمل الثقافي” لا السياسي. مرّ خفيفاً على مجلس النوّاب، راكباً “المحدلة” الأولى في 1992، مع لائحة الرئيس نبيه برّي. لكن سرعان ما خرج منها بعد ستّة أشهر لاعتراضه على طريقة اتّخاذ القرار داخلها. فنجا بنفسه من التحوّل إلى أحد نواب برّي.

العمل “الثقافي” في المجلس الذي أداره بحرفة وشغف، في أحد شوارع بيروت، سمح له بالتقاعد المبكر. ولهذا استطاع أن يموت على سريره.

يبقى من إرثه الكثير ممّا كتب في كلّ مكان. لكنّ الأبقى هي قصيدته “أهل الجنوب”، التي تنتمي إلى المستقبل أكثر ممّا تنتمي إلى منتصف القرن الماضي، حين كتبها. وهي قصيدة بلا ادّعاءات “الانتصار” ولا مدائح “العزّة”. هي قصيدة عنوانها “أرض الجنوب” ولا تجد كلمة “الجنوب” بين كلماتها. أليس هذا هو الأدب الحقيقي؟ الذي يمكن تعميمه على كلّ بقعة حزينة ومظلومة في العالم؟ والجنوب مازال إحداها.

في سنواته التسعين، منذ ما قبل “ولادة لبنان”، إلى أيّامنا هذه، والنظام يلفظ أنفاسه الأخيرة، كان حبيب صادق “ضمير الجنوب” وميزان حرارته وحرّيّته… منذ قصيدة “أرض الجنوب” التي خلّدها مرسيل خليفة، والتي حفظها كلّ جنوبي، قبل أن يصير الغناء ممنوعاً في معظم الجنوب، ولم يعد مسموحاً غير الانتصار أو البكاء:

شدّي عليكِ الجرح وانتصبي/ عبر الدجى رمحاً من اللهبِ

يا ساحة الأنواء كَمْ عصفَت/ فيها خيول الهول والرعبِ

فالأرض فيها وجه مذبحةٍ/ والجوّ أمطار من الشهبِ

لم يبقَ غصنٌ غير منتهَبِ/ لم يبقَ وجهٌ غير مستلَبِ

أهلوك لا سورٌ من الكذبِ/ أهلوك لا قنّاصة الرتبِ

صدّوا الرياح السودَ يحفزهم/ جُرح التراب وأنّة العشبِ

شغّيلةٌ من أرض عاملةٍ / أكرم بهم من عاطر النسب

من صخرها قدّوا أعنّتهم / واسترشدوا بالكوكب الذهبي

لم يُغرِهم تاجٌ ومملكةٌ / لم يُثنِهم صعبٌ عن الطلبِ

ما همّهم إلا الرُّبى سَلِمَت / آياتُها من رجسِ مغتصبِ

أرضُ الهوى العذريّ ما ارتحلت / إلّا إليها رعشة الهُدُبِ

والأغنياتُ الخضرُ ما نَزِلَت / إلّا على ينبوعها العذبِ

لم يستفِق ذو جانحٍ طربٍ / إلّا بفيء نهارها الطربِ

أفديكِ بالأيّامِ لم تَشِبِ / أفديكِ بالأقمارِ لم تغبِ

أفدي صباك الشّهم مقتحماً / ليل الردى بالساعد الثربِ.

إقرأ أيضاً: حبيب صادق: في أيّ جنوب نودّعك؟

مات على سريره: ترفٌ قد لا يكون بمتناول من يتشبّهون به. من أحبّوا تجربته. من أطربتهم قصيدته، ومن يحبّون الغناء و”المجلس الثقافي” والموسيقى والتحرّر من البكائيات وكلّ “مجدٍ من رماد”.

مات حبيب صادق منفيّاً على سرير الثقافة. لا يمكن أن نودّعه من دون أن نعيد إليه فضله الكبير، أنّه ترك باب الجنوب مفتوحاً على “الاختلاف”، وأضاء لنا بتجربته أنّ قول “لا” ممكنٌ، لكن بحذر شديد. كأنّ إرثه أنّه في الجنوب، مسموحٌ، إذا استطعتَ إلى ذلكَ سبيلا، أن تكون “حبيب صادق”، لا أكثر.

لمتابعة الكاتب على تويتر: mdbarakat@

مواضيع ذات صلة

لبنان والسّيادة… ووقاحة “الشّعب والجيش والمقاومة”

جاء المبعوث الأميركي آموس هوكستين أخيراً. لا يزال يعمل من أجل وقف للنّار في لبنان. ليس ما يشير إلى أنّ طرفَي الحرب، أي إيران وإسرائيل،…

أرانب نتنياهو المتعدّدة لنسف التّسوية

إسرائيل تنتظر وصول المبعوث الرئاسي الأميركي آموس هوكستين، بعدما بات ليلته في بيروت لتذليل بعض العقد من طريق الاتّفاق مع لبنان والحزب، على وقع الانقسام…

كيف ستواجه تركيا “فريق ترامب الصّليبيّ”؟

عانت العلاقات التركية الأميركية خلال ولاية دونالد ترامب الأولى تحدّيات كبيرة، لكنّها تميّزت بحالة من البراغماتية والعملانيّة في التعامل مع الكثير من القضايا. هذا إلى…

حماس وأزمة المكان

كانت غزة قبل الانقلاب وبعده، وقبل الحرب مكاناً نموذجياً لحركة حماس. كان يكفي أي قائد من قادتها اتصال هاتفي مع المخابرات المصرية لتنسيق دخوله أو…