قبل جلسة الانتخابات الرئاسية الأخيرة وبعدها، عمّم الثنائي الشيعي مصطلح التوافق، كسمة ضرورية ينبغي أن ترافق انتخاب الرئيس. وحدّدوا للتوافق مساراً واضحاً هو الحوار بين اللبنانيين، درءاً لِما سمّوه الإقصاء والتحدّي.
الحوار نقيضاً للنظام السياسي
وعليه فإنّ لبنان عالق الآن في فخّ أنّ انتخاب الرئيس هو وليد الحوار لا وليد تصويت النوّاب وتوازنات البرلمان التي عبّرت عنها الانتخابات الأخيرة، وهو برأيي تجاوز تامّ لكلّ قواعد عمل النظام السياسي اللبناني، وتحقير مُمَنهج للبقيّة الباقية من ملامح الديمقراطية اللبنانية. الحوار في الحالة هذه، أي الانتخابات الرئاسية، هو بالتعريف نقيض روح النظام السياسي اللبناني، على كلّ علّاته.
الحوارات الوطنية هي في العادة منصّات تهدف إلى بناء الإجماعات الوطنية بين الجماعات والمكوّنات حول مقاربة القضايا الشائكة في حين أنّ الانتخابات هي آليّة لتنظيم الاختلاف لا لتوليد الإجماع. كما أنّ للحوارات الوطنية دلالة بشأن عجز مؤسّسات النظام السياسي وآليّات الديمقراطية عن معالجة قضايا بالغة التعقيد والخطورة، وهو ما يعني أنّ اللجوء إليها محكوم بالاستثناء، في حين أنّ تحويل الحوار الوطني إلى بديل دائم لآليّات الديمقراطية، في الكبيرة والصغيرة، هو نعي تامّ وشامل للدستور والمؤسّسات ولشرعية وفاعلية النظام السياسي برمّته.
اللافت في دعوات البعض إلى حوار حول النظام، كحلّ لهذه المعضلة الثالثة، أنّنا لا نعرف تماماً ما الذي سنتحاور بشأنه
الحوار حول ثلاث قضايا
يرى البعض أنّ اللبنانيين يحتاجون إلى حوارات حول ثلاث قضايا رئيسية:
1- حوار وطني حول استراتيجية معالجة الانهيار الاقتصادي، والاتّفاق على خارطة طريق للإصلاح في مجالات قطاع الخدمات والخصخصة وترشيق القطاع العامّ وإعادة إعمار القطاع المصرفيّ وتوزيع الخسائر الناجمة عن تبخّر الودائع.
2- حوار وطني حول الاستراتيجية الدفاعية ما دام لبنان لم يوقّع بعد اتّفاق سلام مع إسرائيل.
3- حوار وطني حول استراتيجية العيش المشترك بين اللبنانيين، أي ترميم نظام الشراكة الوطنية عبر استكمال تطبيق اتفاق الطائف والمضيّ قدماً في شرعنة وقوننة الإصلاحات التي أقرّتها وثيقة الوفاق الوطني وتنظيف بعبدا من بقايا الأعراف الدستورية المستمدّة من رمادية نصوص دستورية بحسب مصمّم الأزياء الدستورية.
حقيقة الأمر أنّ الاستراتيجيات الثلاث مرتبطة بحوار وطنيّ ضروريّ لا بدّ منه حول سلاح ميليشيا الحزب. فلا الإصلاح الاقتصادي ممكن، ولا الاستراتيجية الدفاعية متاحة، ولا إمكانية التعايش السلمي مصونة، من دون التفاهم على مستقبل سلاح هذه الميليشيا في لبنان، والضوابط التي تحكم دوره في المرحلة الانتقالية بين الآن ونزعه بالكامل، وفق مقتضيات وثيقة الوفاق الوطني التي تحدّثت عن نزع سلاح الميليشيات، كما وفق مقتضيات القرارات الدولية، لا سيما القرارين 1559 و1701.
ليس في الأمر المطروح أعلاه تحاملٌ أو تغطيةٌ على مشاكل لبنان المعقّدة بمشكلة السلاح حصراً.
ماذا فعل الحزب؟
لنبدأ من الإصلاح الاقتصادي الداخلي. أتقنت ميليشيا الحزب توظيف الدولة ومؤسّساتها في خدمة حلفائها وفي توسعة رقعة التحالفات، في مقابل حماية هؤلاء للسلاح ووجوده والتعمية على أدواره الشاذّة. بالمختصر لا تستطيع الميليشيا أن تغامر مثلاً بالموافقة على إجراءات راديكالية لإصلاح قطاع الكهرباء، إن كانت النتيجة خسارة الدعم السياسي للسلاح من قبل الحالة العونيّة. ولا تستطيع الموافقة على إجراءات قاسية لترشيق القطاع العامّ إن كانت النتيجة حرمان “جحافل” من الشيعة من دخول الدولة والوظيفة العامّة بكلّ ما توفّره من مكتسبات مشروعة وغير مشروعة من الجامعة اللبنانية إلى القضاء إلى المصرف المركزي والوزارات والمديريّات والمصالح العامّة. إنّ مثل هذا الأمر يعني إضعاف الحليف الأبرز، حركة أمل، وحرمانها من مصادر نفوذها وشرعيّتها في الشارع الشيعيّ. أمّا بالمعنى الخارجي، فإنّ سلاح ميليشيا الحزب بما تسبّب به من عزلة لبنانية عن الأسواق العربية، يجعل من أيّ تفكير بشأن “إصلاح النموذج الاقتصادي” ضرباً من ضروب اللغو والتعمية. فلو افترضنا أنّ نظرية تعزيز الزراعة والصناعة على حساب السياحة والخدمات هي البوّابة السحريّة التي سيعبر منها اللبنانيون إلى نعيم الرفاه، فأين سيبيع اللبنانيون منتجاتهم الزراعية والصناعية في ظلّ الإقفال العربي في وجه لبنان؟ حتى لو زرعت على الشرفات والأسطح وفقاً لاقتراح المهندس الزراعي الأول في محور الممانعة…
أمّا الاستراتيجية الدفاعية فستظلّ عنوان حقّ يراد به باطل، من وجهة نظر قادة الميليشيا الذين جاهروا بأنّ السلاح والرواتب وأساسيّات العيش تأتي من إيران. فمن يسدّد الفواتير هو من يقرّر وجهة الاستخدام. بل ذهب زعيم ميليشيا الحزب إلى القول إنّه وربعه يأتمرون بما يظنّونه رغبات المرشد حتى قبل أن تأتيهم توجيهاته بشكل مباشر. إنّ مثل هذا المستوى الخطير من الارتباط بمرجعية خارجية أمر غير مسبوق في تاريخ لبنان. فحتى في ذروة ارتباط الحركة الوطنية بزعامة ياسر عرفات، ظلّ بين “الحلفاء” اللبنانيين من يعبّر علناً عن تمايزه عن قرارات محدّدة اتّخذها أو كان يفضّلها أبو عمّار.
أدّى شذوذ السلاح إلى معضلتين متكاملتين. انهيار الاقتصاد بفعل توظيف الاقتصاد لخدمة مصالح حلفاء السلاح، وانهيار الموقع العربي للبنان، بفعل تمكّن السلاح من اختصار لبنان والاستحواذ التامّ على توجّهه وسياسته وموقفه. وقد أفرزت هاتان المعضلتان معضلةً ثالثةً اسمها رفض الكثير من اللبنانيين التعايش مع السلاح وشروطه ونتائجه. وما لبثت أن أفسحت هذه المعضلة الثالثة المجال أمام دعوات الفدرالية النزقة أو التقسيم، لا سيّما في أوساط مسيحية، أو سلوك الاستسلام في الأوساط السنّيّة، بعد استراتيجية ربط النزاع والتعليق الدراماتيكي لزعيم الطائفة سعد الحريري مشاركة تيّاره في الحياة السياسية.
اللافت في دعوات البعض إلى حوار حول النظام، كحلّ لهذه المعضلة الثالثة، أنّنا لا نعرف تماماً ما الذي سنتحاور بشأنه. فميليشيا الحزب لا تمتلك اقتراحاً جدّيّاً متكاملاً حول ما تريده لنفسها أو لطائفتها من النظام السياسي وصلاحيّاته وتوازناته، ولا يوجد خطاب شيعي محدّد حول أعطال النظام أو مظالمه من وجهة نظر الشيعة.
فحتى شهوات الرئيس نبيه برّي للشراكة بالسلطة التنفيذية والاستحواذ في الوقت نفسه على سلطة البرلمان، تحت عنوان “المجلس سيّد نفسه”، هي شهوات غير موضوعية، يعرف برّي قبل غيره أن لا طريق إليها بغير الفرض والبلطجة.
إنّ كلّ ما عبّر عنه الثنائي الشيعي بجدّية بشأن النظام، أي كلّ ما استأهل التعطيل والعنف في سبيل تحقيقه، كالثلث المعطِّل، يرتبط بالسلاح وحماية السلاح، لا بأيّ شراكة مفترضة داخل العملية السياسية. إنّ الوظيفة الرئيسية للثلث المعطِّل هي القدرة على فرط الحكومة إذا ما جَرُؤَت على تكرار السلوك الوطني للرئيس فؤاد السنيورة حين رفض استقالة الوزراء الشيعة وأكمل باتجاه استيلاد المحكمة الخاصّة بلبنان، التي ما تزال هي أخطر ما واجهه الحزب منذ نشأته ولم يزل. الثلث المعطِّل، بهذا المعنى، امتداد للسلاح الذي لا يمكن اللجوء إليه عند كلّ تهديد وجودي تستشعره ميليشيا الحزب، ولا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد بأيّ توازنات مفترضة داخل النظام السياسي، الذي أثبتت الميليشيا أنّ بوسعها التحكّم به بصرف النظر عمّن يمتلك الأغلبية العددية.
إقرأ أيضاً: المسألة ليست جهاد أزعور
إذّاك فإنّ الحوار الوحيد الواقعي في لبنان، أي القادر على إنتاج حلول موضوعية أو التمهيد للطلاق المنطقي بين اللبنانيين، هو الحوار حول الحياد، أي أن يحيّد لبنان نفسه عن الصراعات وأن يتّفق المتصارعون الإقليميون على حياد لبنان مع ما يتضمّنه ذلك من ترسيم للحدود الأمنيّة مع إسرائيل على غرار ترسيم الحدود البحريّة، والبدء بترسيم الحدود البرّيّة في منطقة شبعا بالاستفادة من معطيين:
1- المناخ العربي الجديد تجاه نظام الأسد، الذي يتيح للعرب أن يمارسوا ضغوطاً في هذا المجال على دمشق.
2- الاتفاق الإبراهيميّ الذي يتيح للعرب توفير ضمانات للّبنانيين ولإسرائيل، بعد إحياء اتفاق الهدنة بين البلدين.
أيّ حوار خارج الحوار حول الحياد هو مضيعة للوقت وتمهيد لخيبات جديدة، تضعف تماسك العقد الاجتماعي والسياسي بين اللبنانيّين.
لمتابعة الكاتب على تويتر: NadimKoteich@