الفيدرالية: وحدَها تحمي السلاح

مدة القراءة 6 د


تروَّج الفيدرالية وتجد لها مجالاً واسعاً للسعي والنقاش لدى قوى أساسية وازنة من المجتمع السياسي المسيحي. واللافت أنّ الفكرة غير جاذبة لبقيّة مكوّنات البلد على الرغم من الإجماع على رفض جلّ الخيارات السياسية التي يأخذ الحزب البلد إليها.

تستلهم الفدرالية بتشاطرٍ حوافزها ممّا أقرّه اتفاق الطائف عام 1989 من وعد بتطبيق اللامركزية الإدارية، لكنّها تتناسل بخبث من الدعوات إلى التقسيم التي راجت مباشرة أو مواربة من قبل قوى سياسية مسيحية خلال الحرب الأهلية (1975-1990). وعلى هذا، لطالما كان “الحلّ التميّزي” من صلب الثقافة التي قامت عليها المارونية السياسية والتي أظهرت حضورها بأشكال نافرة من خلال التيار العوني وما تضخّم منه، وإن تمّ تهذيبها لضرورات الالتزام بـ”الطائف”.

تقول الفدرالية المطروحة في واجهتها “المؤدّبة” إنّها شكل متطوّر لإدارة البلاد، ونظام تطبّقه بلدان كبرى مثل الولايات المتحدة الأميركية وألمانيا والإمارات والنمسا وأستراليا وإثيوبيا وروسيا.. إلخ. وهي في مضمونها تتوسّل نظاماً سياسياً يُبعد المناطق المُفدرلة على قواعد ذات شبهة طائفية بعضها عن بعض، وبالتالي تعتبر أنّ للمسيحيين أسلوب تفكير وطريقة عيش ووجوداً وطموحاً تختلف عمّا لدى الآخرين. وإذا ما كانت تلك الحوافز تقوم على قواعد عقائدية ترى أنّ لها جذوراً ومراجع عتيقة، فإنّها تليق بحرّية اختيار أمكنة السكن ومواقع الأحياء التي يفضّلها الناس، لكن لا يليق، في الحالة اللبنانية الفسيفسائية الطائفية، أن تكون ترياقاً لبناء أو ترميم وطن.

تروَّج الفيدرالية وتجد لها مجالاً واسعاً للسعي والنقاش لدى قوى أساسية وازنة من المجتمع السياسي المسيحي. واللافت أنّ الفكرة غير جاذبة لبقيّة مكوّنات البلد على الرغم من الإجماع على رفض جلّ الخيارات السياسية التي يأخذ الحزب البلد إليها

فارس سعيد و”انقراض” العقائد

بينما قامت مطالب التقسيم السابقة تحت عنوان “لكم عروبتكم ولنا لبناننا” وسُفكت دماء غزيرة من أجل تعويمها، “يفرض” التعريف الذي اتّفق عليه اللبنانيون داخل نصّ الطائف على لبنان واللبنانيين الإقرار بعروبتهم والانتماء دستورياً إلى الفضاء العربي الكبير. وقد تصعب هنا ملاحظة أيّ فرق دستوري سيمليه النظام الفدرالي على مستقبل هذا القدر.

تخلّص مسيحيّو الطائف من مقدّس “الامتيازات” وباتوا، سواء منصاعين لوصاية دمشق في زمن تلك الوصاية أو معارضين لها متمرّدين عليها، منخرطين في إدارة البلد، بالشراكة، التي يطمحون إلى تحسين موازينها، مع الشركاء الآخرين في البلد. وسواء في لحظة 8 آذار أو لحظة 14 آذار 2005، كانت الخيارات السياسية خارقة للطوائف تسعى إلى فرض وجهة نظر سياسية معيّنة على البلد موحّداً. وإذا ما يجري التحوّل من الموحَّد إلى المُفدرل، فإنّ المفارقة أنّ فشل اللحظتين يسرّب لدى شريحة وازنة من المسيحيين النزوع نحو ردّ فعل قد يكشف استقالة مسيحية من الفكرة المؤسِّسة للبنان.

يبرز فارس سعَيْد مثالاً كواجهة مسيحية تعبّر لا شكّ عن وجدان مسيحي يذكِّر بنصوص بشأن الطائف والهويّة ووحدة البلد وكأنّه يعيد التبشير بعقائد البلد الآيلة للانقراض. ويبدو هذا النوع من الخطاب أقلّوياً هامشياً إذا ما قورن مع الخطاب السياسي المسيحي العامّ، بدءاً من بدعة القانون الانتخابي “الأرثوذكسي”، مروراً بقانون الانتخابات الفعليّ المعمول به حالياً والذي أنتج أكثر البرلمانات تشظّياً في تاريخ البلد، وانتهاء بجلبة لا تهدأ تقول بأنّ “الفيدرالية هي الحلّ”.

إذا ما كانت حوافز الفدراليين تقوم أساساً كحلّ للانفصال في الإدارة عن الإدارة المركزية لبقيّة أرجاء البلد الذي يهيمن عليه الحزب، فإنّ الأمر يعبّر عن يأس من إمكانية إيجاد حلّ ينهي هذه الهيمنة ويعترف بها قدراً نهائياً في البلد من جهة، ويعبّر عن تخلٍّ مسيحي تاريخي عن المسؤولية التاريخية في صيانة بلد “هو رسالة” وفق مقولة البابا يوحنّا بولس الثاني، وحتى التخلّي عن فكرة “الآخر” الذي تمسّك البطريرك الياس حويّك بأن يكون شرطاً تكوينياً لولادة “لبنان الكبير”، من جهة أخرى.

لا يتغيّر النظام السياسي لأيّ بلد إلا من خلال انتصار فريق على آخر يفرض وجهة نظره داخل الدستور. والأرجح أنّ الحزب يمتلك تلك القوة إذا ما ارتكب اللبنانيون خطيئة بحث تغيير النظام السياسي في ظلّ موازين القوى الحالية

فدرالية لـ”التسلية”

حتّى الآن لا تبدو فكرة الفدرالية جدّيّة، بل يبدو أنّ تناولها “يسلّي” البرامج السياسية، وأنّ الداعين إليها يلعبون أدواراً منشّطة للجدل البيزنطي. لم يثبت أنّ المشروع بات جزءاً مشغولاً من البرامج السياسية الرسمية للأحزاب المسيحية الكبرى، وإن كانت هذه الأحزاب تتأمّل ضجيجها من دون أن تقطع مع احتمالاتها. ولا تبدو جدّية لجهة فقدانها عوامل القوّة التي تجعل من احتمالها ذا مصداقية. ولا تبدو جدّية لأنّ البلد والمنطقة والعالم لا يملكون، في عزّ التأزّم الدولي وداخل مطحنة التحوّلات الكبرى، ترف رسم فدرالية في لبنان يراها مريدوها سويسريّة المثال.

في النقاش هروبٌ من مشكلة سلاح الحزب وفائض قوّته وتأثير سطوته على معنى البلد وطبيعته وهويّته، سواء كان موحّداً أو مفدرلاً. فأصحاب همّة الفدرالية لا يكلّفون النفس تفسير كيف ستكون حدود الفدرالية العتيدة عصيّة على هيمنة الحزب وسطوته وسلاحه، إلا إذا كانت تلك الفدرالية تقبل بحكّام فدراليات تعينهم قوّة الأمر الواقع وتقدّم لها “الطمأنينة” التي يتوسّلها الحزب و”عدم الطعن في الظهر” وفق ما يكرّر قادته. ثمّ إذا كانت الفدرالية لا تُعنى بشؤون النقد والدفاع والسياسة الخارجية، فكيف للانفصال المقنّع أن يحمي هويّة وأسلوب عيش مرتبط كلّ يوم بالعافية الماليّة والدفاع والسياسة الخارجية.

أقرأ أيضاً: الحوار الوطنيّ كذبة ما لم يكن حول الحياد

لا يتغيّر النظام السياسي لأيّ بلد إلا من خلال انتصار فريق على آخر يفرض وجهة نظره داخل الدستور. والأرجح أنّ الحزب يمتلك تلك القوة إذا ما ارتكب اللبنانيون خطيئة بحث تغيير النظام السياسي في ظلّ موازين القوى الحالية. وعليه لا مصلحة هنا للمبشّرين بالفدرالية وما يشبهها. بالمقابل لا يبدو أنّ احتمالاً من هذا القبيل يلقى توافقاً لبنانياً شاملاً أو مرجّحاً مع بقيّة المكوّنات اللبنانية حتى لو عزلنا جدلاً عامل الحزب وسلاحه. وفيما تدور جلبة الفدرالية وتجد لها من يصغي ويتأمّل، فإنّ الحزب يراقب بغبطة قرقعةً تُبعِد عنه الكأس المرّ بشأن مصير سلاح يخطف لبنان موحّداً ومفدرلاً.

مواضيع ذات صلة

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…

الأكراد في الشّرق الأوسط: “المايسترو” بهشلي برعاية إردوغان (1/2)

قال “أبو القومية التركية” المفكّر ضياء غوك ألب في عام 1920 إنّ التركي الذي لا يحبّ الأكراد ليس تركيّاً، وإنّ الكردي الذي لا يحبّ الأتراك…