الطريق إلى الصين ليس بالضرورة حريراً

مدة القراءة 5 د


في أوج الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية والشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي انقسمت الدول العربية إلى قسمين: دول تحالفت مع الولايات المتحدة والغرب استفادت من الحماية الأمنيّة الأميركية وفُتحت لها أبواب الغرب تسليحاً وتعليماً،  ودول اتّبعت النظام الستاليني والأحزاب الشمولية ولاقت مصير النظام الشيوعي مع انهيار الاتحاد السوفيتي.

عالم متعدّد الأقطاب
كثر الحديث أخيراً عن عالم متعدّد الأقطاب وإمكانية لعب أدوار على الساحة الدوليّة تستفيد من التناقضات والصراعات الكبرى من أجل تحقيق مكاسب إقليمية. إلا أنّ  تعدّد الأقطاب يتطلّب قراءة جيّدة لتجنّب الخوض في رهانات خاطئة وسوء تقدير. الدول الصغيرة إقليمياً يمكن أن تكون ساحة أو تُكلّف بأدوار مرحلية، لكن هذا لا يعني أنّها بالضرورة أصبحت  تمتلك  قراراً أو نفوذاً لا يتناسب مع أحجامها الطبيعية إنّما يتناسب مع قدراتها الدبلوماسية والأمنيّة. إنّ لعبة تعدّد الأقطاب هي حصراً للدول الكبرى اقتصادياً وعسكرياً.
هناك مبالغة في تقويم تأثير الدور الصيني في المنطقة لأنّه منافس للحقبة الأميركية التي حكمت المنطقة سياسياً وعسكرياً في العقود الماضية.
لقد فضّلت الأنظمة العربيّة الشموليّة الاتحاد السوفيتي لأنّه لم يكن يسعى إلى ترويج المفاهيم الديمقراطية والمشاركة السياسية، فشعرت هذه الأنظمة بالراحة السياسية والاستقرار، لكنّها دفعت ثمناً كبيراً على المدى البعيد بعد انهيار المنظومة الشيوعية. واليوم يتراءى لبعض الدول العربية بأنّ التقارب مع الصين قد يعطيها استقراراً سياسياً لأنّها لا تشترط إصلاحات سياسية ولا تتدخّل في الشؤون الداخلية وليست اعتبارات حقوق الإنسان على أجندة سياستها الخارجية. فالصين تقارب الدول بما هي أسواق لمنتجاتها، وتسعى دائماً إلى تأمين مشاريع بنى تحتية لشركاتها.  

من المتوقع أن تستمر العلاقات الصينية العربية وتحديداً الخليجية في التطوّر والتعمّق. الصين تعد شريكاً اقتصادياً مهماً للدول الخليجية، حيث تستورد الصين كميات كبيرة من النفط والغاز الطبيعي من المنطقة

العلاقات الصينيّة العربيّة إلى الأمام
من المتوقّع أن تستمرّ العلاقات الصينية العربية، وتحديداً الخليجية، في التطوّر والتعمّق. تُعدّ الصين شريكاً اقتصادياً مهمّاً للدول الخليجية، إذ تستورد الصين كميّات كبيرة من النفط والغاز الطبيعي من المنطقة. وقد تشهد العلاقات الصينية الخليجية توسّعاً في المجالات الاستثمارية والتجارية، بما في ذلك البنية التحتية والطاقة المتجدّدة والتكنولوجيا.
ولكن من الضروري أن تتنبّه الدول التي تفضّل التعامل مع الصين إلى أنّ التنافس الأميركي مع الصين سيكون سمة المرحلة الكبرى، وأنّ احتواء الصين هو أمر يتعلّق بالأمن القومي الأميركي لأنّه يهدّد زعامة الولايات المتحدة الأميركية، وهو ما يعني أنّ الولايات المتحدة لن تتساهل مع أيّ صفقة أو اتفاقية  تهدّد المصالح الأميركية في المنطقة. لقد شهدت الصين نموّاً اقتصادياً هائلاً على مدى العقود الأخيرة، إذ أصبحت ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة، لكنّ هذا النفوذ لم يترجَم على الساحة الدولية مساعدات للدول النامية والفقيرة.
وتتنافس الصين والولايات المتحدة في مجالات عدّة مثل التجارة الدولية والاستثمار والتكنولوجيا والابتكار. والصين تُعتبر منافساً قوياً في الصناعات التصنيعية وتجارة السلع، وتسعى إلى تطوير تكنولوجيّاتها الخاصة وزيادة قوّتها التكنولوجيّة. في الوقت نفسه، تحاول الولايات المتحدة الحفاظ على موقعها حيث هي المركز الرئيسي للابتكار والتكنولوجيا والشركات العالمية.
يترتّب على هذا التنافس العديد من التحدّيات والتأثيرات الاقتصادية والسياسية، ويمتدّ تأثيرها إلى العديد من القطاعات والدول في العالم.

تواجه العلاقات الأميركية الصينية عدّة تحدّيات أمنيّة وجيوسياسية تشمل التنافس في منطقة بحر الصين الجنوبي، وقضية تايوان، والتجسّس التجاري والأمن السيبرانيّ. وفي كلّ هذه القضايا يبقى دور الدول العربية محدوداً لأنّها أسواق استهلاكية لكلا الطرفين وحسب. 
وعلى الرغم من رغبة الصين في لعب دور دبلوماسي في حلّ النزاعات الدولية، خصوصاً بعد رعايتها للاتفاق السعودي الإيراني، يبقى هذا الدور  محدوداً لعدّة أسباب، منها عدم تزامن المبادرات الصينية مع حوافز ومساعدات اقتصادية لأطراف النزاع، وافتقار الصين  إلى علاقات تاريخية مع أطراف النزاع في منطقة الشرق الأوسط. وتظهر محدودية النفوذ الصيني على مستوى القوّة الناعمة، فالمجتمعات العربية على الرغم من معارضتها للسياسات الغربية والأميركية، وخصوصاً في ما يخصّ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، تبقى غربيّة الهوى ثقافياً. والدليل على ذلك عدد الطلاب العرب الذين يتابعون تحصيلهم العلمي في الولايات المتحدة والدول الغربية. 

إقرأ أيضاً: هزيمة بوتين ورقة بايدن الرئاسيّة الرابحة

هناك جدل في الولايات المتحدة في ما يخصّ المواجهة مع الصين يتمحور حول كون المنطقة العربية ساحة صراع أم وظيفتها التشويش والإلهاء عن المعركة الكبرى وحسب. في كلتا الحالتين سيكون دور الدول العربية في أفضل الحالات مواكباً للتطوّرات وليس فاعلاً. ولكن يمكن حصد مكتسبات إذا ما اختارت هذه الدول الخيارات العقلانية والمنطقية بعيداً عن الانفعالات والارتجالية حتى تتجنّب دفع أثمان الخيارات الخاطئة كما حصل بعد الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة التي تلتها.

 

*خبير في الشؤون الأميركية والدولية.

لمتابعة الكاتب على تويتر: mouafac@

مواضيع ذات صلة

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…

على باب الاستقلال الثّالث

في كلّ عام من تشرين الثاني يستعيد اللبنانيون حكايا لا أسانيد لها عن الاستقلال الذي نالوه من فرنسا. فيما اجتماعهم الوطني والأهليّ لا يزال يرتكس…