في 25 آذار الفائت، أصدرت هيئة التحكيم التابعة لغرفة التجارة الدولية في باريس، قراراً أقرّ بعدم قانونية تصدير إقليم كردستان النفطَ بشكل مستقلّ عن الحكومة الإتحادية إلى تركيا. فأوقفت أنقرة استقبال النفط العراقي ونقله عبر أراضيها حتّى اليوم، ما تسبّب بخسائر مادية كبيرة لجميع الأطراف. وذلك بعدما كانت تصدّره وفق اتفاقية طويلة المدى وُقّعها الطرفان من دون موافقة بغداد في 2014. يومها، ومنذ 2012، كانت هناك تقارب بين أنقرة وإربيل نتيجة التوتّر بين بغداد وإربيل. وساهم في ذلك عامل النفوذ الإيراني في العراق والسياسة الأميركية المربكة هناك، ما فتح طريق النفط من شمال العراق إلى الخارج عبر الأراضي التركية.
ما أعاد خلط الأوراق دخول محكمة التحكيم الدولي في باريس على الخطّ بطلب من الحكومة العراقية. وقد ألزمت جميع الأطراف المحلية والإقليمية بالرجوع إلى بغداد والتفاهم معها في مسائل استخراج وتصدير النفط العراقي، وأقرّت بعدم مشروعيّة اتفاقية عام 2014، وأعلنت الحكومة الاتحادية في بغداد باعتبارها “صاحبة السلطة الوحيدة في التحكّم بموارد الطاقة العراقية من نفط وغاز”.
في 25 آذار الفائت، أصدرت هيئة التحكيم التابعة لغرفة التجارة الدولية في باريس، قراراً أقرّ بعدم قانونية تصدير إقليم كردستان النفطَ بشكل مستقلّ عن الحكومة الإتحادية إلى تركيا
لكن كيف ولماذا وصلت تعقيدات الأمور في العلاقات التركية العراقية إلى التقاضي أمام محكمة التحكيم الدولي في باريس؟
ومتى سيتمّ الخروج من ورطة ارتدادات ما جرى وتبعاته السياسية والإقتصادية؟
اليوم هناك حكومة عراقية جديدة تفاوض أنقرة، وهناك استعداد تركي للانفتاح والتعاون، وهناك متغيّرات سياسية أمنيّة اقتصادية كثيرة دخلت على الخطّ وبدّلت لعبة التوازنات والتحالفات بين الثلاثي في أنقرة وبغداد وإربيل.
وفي هذا السياق نجحت إربيل مؤخّراً في الانسحاب من التوتّر بين البلدين “مثل الشعرة من العجين” على الرغم من حصّتها في تفجير الخلافات والتسبّب بالذهاب إلى المحاكم و”المرمطة” السياسية والاقتصادية. فقد رمت الكرة في ملعب الطرفين بإعلانها الاتفاق مع الحكومة الاتحادية في بغداد على تسوية مشاكل الطاقة، وأعلنت أنّها بانتظار التفاهمات بين القيادات السياسية في البلدين والعودة إلى تصدير النفط العراقي عبر الأراضي التركية. لكنّ إربيل قد تخرج “من العرس بلا قرص” في حال نجاح المفاوضات التركية العراقية التي تشمل اتفاقيات تجارية واقتصادية ومائية وأمنيّة ذات طابع استراتيجي.
ما أهميّة قرار باريس القضائي؟
قيمة قرار محكمة باريس من الناحية السياسية أهمّ بكثير من الشقّ الماليّ والاقتصادي والقانوني لأكثر من سبب:
– لم يعطِ بغداد ما كانت تطالب الجانب التركي بدفعه، أي حوالي 30 مليار دولار تعويضات، لكنّه أقرّ لها بحوالي مليار و400 مليون دولار تدفعها تركيا بسبب ما لحق بالعراق من أضرار نتيجة نقل النفط إلى الخارج من دون موافقة الجانب العراقي.
– حكَم بحوالي 600 مليون دولار تعويضات تدفعها بغداد لتركيا بسبب الأضرار التي لحقت بخطّ نقل النفط داخل الأراضي العراقية نتيجة الأعمال الإرهابية التي استهدفته، لكنّه ثبّت نفوذ القيادة السياسية العراقية على مصادر الطاقة في البلاد وألزم إربيل بقبول ذلك والعودة إلى اتفاقيات عام 2005 التي رسمت خارطة التحاصص والتقاسم بين الطرفين.
– الأهمّ في هذا الإطار هو دفع إربيل إلى الإسراع في الحوار والتفاهم مع القيادة السياسية في بغداد من أجل إنهاء التوتّر الحاصل في ملفّ النفط والالتزام بموادّ الدستور العراقي التي تحدّد الجهة السياسية ذات الصلاحية والمشرفة على ملفّ الطاقة. وكذلك كان لافتاً إعلان أنقرة وإربيل أنّهما سيقبلان بقرار محكمة باريس الصادر في أواخر آذار الماضي، ما يعني استعدادهما لمراجعة الكثير من الخطوات والاتفاقيات المعقودة بينهما، وهو ما سيصبّ في مصلحة الحكومة الاتحادية.
اليوم هناك حكومة عراقية جديدة تفاوض أنقرة، وهناك استعداد تركي للانفتاح والتعاون، وهناك متغيّرات سياسية أمنيّة اقتصادية كثيرة دخلت على الخطّ وبدّلت لعبة التوازنات والتحالفات بين الثلاثي في أنقرة وبغداد وإربيل
ما هي مكاسب البغداد؟
أرادت بغداد إصابة أكثر من عصفور بحجر واحد وكان لها ما تريد:
– أنهت التفاهمات النفطية بين أنقرة وإربيل، وألزمت الجميع بقبولها جهةً وحيدةً مخوّلةً تنظيم استخراج ونقل وبيع منتجات العراق من الطاقة.
– دفعت أنقرة إلى العودة إليها والتفاهم معها في ملفّات الطاقة بين البلدين، خصوصاً في مشروع إشراك العراق في خطّ تاناب التركي الأذريّ لنقل الغاز العراقي عبر الأراضي التركية إلى أوروبا.
– جمّدت نشاطات إربيل باتّجاه الاستقلال الماليّ والسياسي والإداري من خلال إلزامها بالرجوع إليها إذا ما كانت تريد البقاء على قيد الحياة الاقتصادية والمالية في إطار المشروع الفدرالي المتّفق عليه عام 2005.
– حمّلتها مسؤولية إيصال الأمور إلى هذه الدرجة من التعقيد بسبب “محاولتها الانفصالية” عام 2017.
– أقنعت الجانب التركي أنّ لعبة التوازنات الإقليمية عام 2014 ربّما قرّبت بين أنقرة وإربيل، لكنّ لعبة التوازنات الجديدة عام 2023 هي التي ستقرّب بين أنقرة وبغداد على حساب العلاقات التركية مع إربيل.
– قد تصل حصّة شمال العراق النفطية إلى الثلث حسب التحاصص المتّفق عليه، لكنّ إدارة الملفّ هي بيد السلطة المركزية الاتحادية في بغداد وتمرّ عبرها ومن خلالها فقط.
– استغلال إربيل لفرص التوتّر بين أنقرة وبغداد وهيمنة مجموعات “داعش” لفترة على منابع الطاقة في العراق والغطاء الغربي المقدَّم لحكومة كردستان العراق لم تُنجِح محاولات هذه الأخيرة فرض نفسها على بنود الدستور العراقي والخروج عن الاتفاقيات المبرمة، على الرغم من كلّ الغموض في هذه النصوص وعدم إصدار القوانين والتشريعات الموضحة لها حتى الآن.
خططُ التقارب والتعاون بين أنقرة وإربيل في ملفّ النفط أغضبت بغدادَ ودفعتها إلى الدفاع عن حقوقها ومصالحها. فكان التحكيم الذي وقف إلى جانبها وأعطاها الكثير ممّا تريد
متى التطبيع الكامل بين بغداد وأربيل؟
دفع قرار محكمة باريس أنقرة وبغداد إلى تسريع الحوار والانفتاح وتبادل الزيارات للخروج من أجواء تأزّم العلاقات، والبحث عن فرص عقد صفقات ومقايضات ومشاريع تعاون اقتصادية وتجارية ومائية أهمّها قد يكون المشروع الاستراتيجي العراقي لبناء الخطّ التجاري الذي يجمع العديد من الدول والقارّات عبر الأراضي العراقية. لكنّ مسألة العودة إلى التطبيع الكامل تحتاج إلى بعض الوقت بسبب كثرة تداخل الملفّات وتشعّبها بين البلدين:
– أوّلاً: من الضروري حسم دعوى ثانية في ملفّ الطاقة رفعتها بغداد وتشمل الفترة الواقعة بين 2018 و2022 وتطالب من خلالها بتعويضات جديدة تتحمّلها تركيا بعد نقل نفط شمال العراق إلى الخارج عبر أراضيها من دون موافقتها.
– ثانياً: قد تكون بغداد استردّت ما هو لها ومن حقّها بعدما نجحت في إلزام أنقرة وإربيل بتنفيذ قرار محكمة التحكيم والتراجع عن العقود والاتفاقيات النفطية المعقودة بينهما، على حساب الاتفاقيات التركية العراقية الموقّعة عام 1973 والمعدّلة عام 2010 لناحية نقل وتصدير النفط العراقي عبر ميناء جيهان التركي. لكنّ الجانب التركي يريد حسم كلّ ملفّات الخلاف ووضعها في سلّة واحدة والتفاهم عليها في إطار تسويات جديدة تساهم في فتح صفحة جديدة من العلاقات بين البلدين.
نهاية “العناد” المتبادل
خططُ التقارب والتعاون بين أنقرة وإربيل في ملفّ النفط أغضبت بغدادَ ودفعتها إلى الدفاع عن حقوقها ومصالحها. فكان التحكيم الذي وقف إلى جانبها وأعطاها الكثير ممّا تريد. لكنّ القراءات البراغماتية والواقعية لِما يدور من حولهما هي فرصتهما الوحيدة للتخلّي عن عنادهما في الكثير من الملفّات والمواقف.
ناقشت زيارة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني لتركيا في آذار المنصرم، التي سبقت إعلان قرار التحكيم بين البلدين، تفاصيل البدائل والخيارات الممكنة في حلحلة ملفّ النفط العالق. لكنّ النقاشات تداخلت، إذ جمعت أكثر من ملفّ أمنيّ وسياسي وتجاري لا يمكن فصلها عن قضية الطاقة بين البلدين. والدليل على ذلك هو قرار أنقرة الأخير قبل ساعات الذي قضى بتمديد فترة رفض استقبال الطائرات الآتية من مطار السليمانية وعدم السماح للطائرات بالتوجّه إليه، بسبب أنّ السليمانية تغرّد خارج السرب ولا تلتزم بقرارات الحكومة المركزية، ما فتح الطريق أمام كوادر وقيادات حزب العمّال الكردستاني لتصول وتجول في منطقتها.
إقرأ أيضاً: السودان.. كم رصاصة في فناء منزلنا اليوم؟
ربحت بغداد معركتها السياسية مع أنقرة وإربيل وألزمتهما بقبول قرار محكمة التحكيم الدولي في باريس المتعلّق بعدم قانونية تصدير النفط العراقي إلى تركيا من دون موافقة الحكومة الاتحادية وضرورة الرجوع إلى شركة تسويق النفط العراقي “سومو”. لكنّ صادرات النفط تتعرّض لخسائر مالية فادحة بسبب تمسّك أنقرة بتجميد نقل النفط العراقي إلى مصفاة جيهان إلى أن تُحسم خلافاتها في الملفّ مع الجانب العراقي. كلا الطرفين لم يعد يهتمّ بالتعويضات بقدر ما يهمّه ما سيعقب هذه المرحلة من حوار سياسي اقتصادي جديد يرسم خارطة المستقبل في العلاقات التركية العراقية.