كم كان الفاتيكان بعيد النظر لبنانيّاً!

مدة القراءة 5 د


في آذار من عام 2022، قبل نحو نصف سنة من نهاية ولايته، تلقّى رئيس الجمهورية (وقتذاك) ميشال عون دعوة لزيارة الفاتيكان. ذهب إلى روما وسمع من كبار المسؤولين في الكرسي الرسولي كلاماً، كان أقرب إلى نصيحة، عن ضرورة أن يعمل على انتخاب رئيس للجمهورية في الشهرين اللذين يسبقان انتهاء ولايته في 31 تشرين الأوّل من ذلك العام. ترافق الكلام الفاتيكاني مع تحذير واضح، وإن كان مبطّناً، من أنّه إذا لم يُنتخب رئيس للجمهوريّة اللبنانيّة، قبل نهاية الولاية الرئاسيّة لعون، يُخشى أن يصبح هذا الموقع المخصّص للمسيحيين شاغراً… إلى أبد الآبدين.

الأكيد أنّ ميشال عون لم يأخذ بتلك النصيحة، وذلك بغضّ النظر عمّا إذا كانت لديه رغبة في انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة أم لا. كان همّه محصوراً في كيفية توريث صهره جبران باسيل الرئاسة. الأهمّ من ذلك كلّه، كان يعرف ما لا يعرفه الفاتيكان عن أنّ الحزب اتّخذ قراراً نهائياً بأنّه مَن يقرّر مَن هو رئيس الجمهوريّة في لبنان، وذلك بعد نجاحه في فرضه على الآخرين، بما في ذلك “القوات اللبنانيّة” في خريف عام 2016.

أبعد من موقف الفاتيكان ومحاولته باكراً تفادي الفراغ الرئاسي، الذي كان مطلوباً من ميشال عون الحؤول دونه، لم تعد الأزمة اللبنانية أزمة انتخاب رئيس لجمهورية فقدت مقوّمات وجودها

آخر رئيس مسيحي

بدا الفاتيكان، عبر نصيحته التي تنمّ عن نضج سياسي وبعد نظر، متخوّفاً من أن يكون ميشال عون آخر رئيس مسيحي للبنان. رئيس الجمهوريّة اللبنانية هو رئيس الدولة المسيحي الوحيد في المنطقة الممتدّة من إندونيسيا إلى موريتانيا. كشفت الأحداث أنّ مخاوف الكرسي الرسولي كانت في محلّها بعدما طرحت إيران معادلة في غاية البساطة تقوم على أنّ ثمن وجود رئيس مسيحيّ للبنان واضح كلّ الوضوح. الثمن أن تحدّد “الجمهوريّة الإسلاميّة” الاسم الذي تسمح له مواصفات معيّنة بأن يشغل هذا الموقع.

أبعد من موقف الفاتيكان ومحاولته باكراً تفادي الفراغ الرئاسي، الذي كان مطلوباً من ميشال عون الحؤول دونه، لم تعد الأزمة اللبنانية أزمة انتخاب رئيس لجمهورية فقدت مقوّمات وجودها. باتت الأزمة اللبنانية أزمة نظام من جهة، كما باتت جزءاً لا يتجزّأ من إعادة تركيب المنطقة من جهة أخرى. لم يعد في الإمكان عزل ما يجري في لبنان عمّا يجري في سوريا وحتّى في العراق حيث تجد “الجمهوريّة الإسلاميّة” نفسها في سباق مع الوقت من أجل فرض واقع على الأرض على غرار الأمر الواقع الذي يسعى اليمين الإسرائيلي إلى فرضه في الضفّة الغربيّة والقدس الشرقيّة.

على خلفيّة الفراغ الرئاسي في لبنان، هناك تطوّر كبير في غاية الأهمّية والخطورة تشهده سوريا حيث العمل على قدم وساق من أجل تكريس التغيير الديمغرافي. يؤكّد ذلك استعداد وزارة الداخلية السورية ودوائر النفوس والأحوال المدنية السورية لتطبيق خطوة تعديل مهمّة في قانون الأحوال الشخصية المدنية. تقوم هذه الخطوة على إلغاء الخانات الشخصية والعائلية للسوريين واعتبار أنّ سوريا كلّها خانة واحدة. في حال حصول ذلك، سيكون من السهل جدّاً محو أصول المواطنين السوريين ومحو المدينة أو المنطقة اللتين يعود أصلهم إليهما. سيساعد مثل هذا القانون، في حال إقراره، في تمييع الحقوق العقارية والأملاك العائلية وعودة اللاجئين إلى مناطقهم. يظلّ أخطر ما في الأمر أنّ مثل هذا القانون الذي يجري العمل على إصداره سيسهّل قيام “المجتمع الأكثر تجانساً” الذي تحدّث عنه بشّار الأسد. بكلام أوضح سيساعد في إذابة الأكثريّة السنّيّة التي تزعج الإيرانيين في سوريا.

ثمّة أحداث كبيرة في المنطقة، بما في ذلك الحدث العراقي حيث يغيب شيئاً فشيئاً مظهر وجود مؤسّسات ما للدولة لمصلحة الميليشيات المذهبيّة التي مرجعيّتها “الحرس الثوري” الإيراني

ورقة إيران منذ 2016

يبدو الهدف من العمل على إصدار القانون الجديد تمكين النظام و”الجمهوريّة الإسلاميّة” من تجنيس عشرات الآلاف من الإيرانيين واللبنانيين والأفغان والعراقيين والباكستانيين الشيعة الذين أتت بهم “الجمهوريّة الإسلاميّة” إلى سوريا من ضمن الميليشيات الشيعية المنتشرة على امتداد جغرافيا البلد.

ثمّة أحداث كبيرة في المنطقة، بما في ذلك الحدث العراقي حيث يغيب شيئاً فشيئاً مظهر وجود مؤسّسات ما للدولة لمصلحة الميليشيات المذهبيّة التي مرجعيّتها “الحرس الثوري” الإيراني.

تكمن مأساة لبنان، في جانب منها، في غياب فهم معظم السياسيّين فيه لأهمّية ما يدور في الإقليم من جهة، وعدم استيعابهم أنّ بلدهم صار هامشيّاً من جهة أخرى. كان التحذير الصادر عن الفاتيكان لدى استقبال ميشال عون في آذار 2022 تحذيراً في محلّه. ثمّة إدراك لدى البابا فرنسيس وكبار مساعديه لِما يبدو لبنان مقبلاً عليه في منطقة يتقدّم فيها المشروع التوسّعي الإيراني يومياً. يتقدّم هذا المشروع في سوريا والعراق بخطى ثابتة في وقت يَثبُت في لبنان يوميّاً أن البلد صار تحت السيطرة الكاملة للحزب.

مرّة أخرى، يتبيّن أنّ لبنان، الذي لم ينتخب رئيساً للجمهوريّة قبل نهاية ولاية ميشال عون، يعيش أزمة نظام، بل أزمة وجوديّة لا أكثر ولا أقلّ، في منطقة مقبلة على تغييرات ضخمة في ظلّ رفض النظام السوري عودة اللاجئين إلى أرضهم يوماً وفي ظلّ فشل، ليس بعده فشل على كلّ صعيد، للنظام الذي قام في العراق منذ أسقط الأميركيون نظام صدّام حسين في عام 2003.

إقرأ أيضاً: الفيدرالية: وحدَها تحمي السلاح

هل كانت نصيحة الفاتيكان فرصة فوّتها ميشال عون على لبنان؟ لم يكن الأمر كذلك، لا لشيء إلّا لأنّ انتخاب رئيس للجمهوريّة بات ورقة إيرانيّة منذ عام 2016 عندما قبِل شخص ماروني، كان في الماضي قائداً للجيش، الوصول إلى قصر بعبدا، مع صهره، بصفة كونه مرشّح الحزب!

كرّس ميشال عون مع صهره واقعاً لم يعد لبنان قادراً على الخروج منه بدعم الفاتيكان ونصائحه ومن دون هذا الدعم.

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…