موت غرناطة والسينما.. في بغداد

مدة القراءة 4 د

قبل أن يتمّ قتله قريباً من غرناطة عام 1936، كان فيديريكو غارثيا لوركا قد كتب مرثيّات كثيرة للمدينة التي شهدت تلويحة العربي الأخير.
يقول:
“ما الذي غاب عن أسوارك يا غرناطة؟
اختفى العطر القويّ لسلالتك الرائعة
التي، مخلّفة لفيض من ضباب، رحلت عنك
أو ربّما أنّ حزنك هو حزن خلقي
وما زلت منذ وجدت مشغولة البال، مسربلة أبراجك بالزمن الذي راح؟”.
كانت غرناطة لوركا بعيدة. غير أنّنا كنّا وسط أبخرة تيهنا نجلس على مصاطب خشبية في حديقة الأمّة في صيف يشبه ذلك الصيف الذي قُتل فيه لوركا ونردّد “غرناطتي غرناطة”، وكنّا نقصد الذهاب إلى السينما التي تحمل اسم المدينة التي ما تزال تضمّ قصر الحمراء. لن يكون عبد الله الصغير في انتظارنا. كان هناك مَن يهبنا لحظات رخاء وترف استثنائية ستكون دائماً أشبه بمقطع من فيلم خيالي. المبنى الذي كنّا نتأمّله بذهول كلّما وقفنا أمامه كان يحلّق بنا حين ندخله بعيداً عن الواقع قبل أن يبدأ العرض السينمائي. كانت رومي شنايدر تنزل على السلّم بثوب طويل أبيض. كم تمنّينا أن يطول ذلك السلّم. ألا يحرّك الشعر الزمن في مكان خفيّ كما لو كان هواء يلعب بعشبة؟

دار السلام.. غرناطة.. سينما ريو
يُقال إنّ اسمها كان سينما دار السلام حين أُسّست عام 1941، ثمّ تحوّل مطلع الستّينيات إلى سينما ريو، غير أنّنا عرفناها باسم “غرناطة”، وهو الاسم الذي أُطلق عليها عام 1971. لم نكن نعرف ذلك. كانت غرناطة سبعينيّة مثلنا. حين رأينا زوربا هناك صرنا نرقص في حديقة الأمّة مثله. غير أنّ رقصة زوربا كانت قد خرّبت علاقتنا بالشرطة. دفعتنا فكرة أن يكون الشعر العراقي سبعينيّاً إلى أن نشعر بالغرور المفعم بالمراهقة. جرّنا انتصارنا غير مرّة إلى مراكز الشرطة بتهمة الإخلال بالأمن العامّ لأنّنا كنّا نرقص على طريقة زوربا في الشارع.

كانت غرناطة لوركا بعيدة. غير أنّنا كنّا وسط أبخرة تيهنا نجلس على مصاطب خشبية في حديقة الأمّة في صيف يشبه ذلك الصيف الذي قُتل فيه لوركا ونردّد “غرناطتي غرناطة”

أوقعتنا غرناطة في المحظور. وكم مرّة تساءلنا: “لمَ كان الفيلم قصيراً؟” على الرغم من أنّ وقت العرض تجاوز ساعتين. كنّا نفكّر في عرض يستمرّ العمر كلّه. من مارلين جوبير إلى القبر. كان الذهاب إلى غرناطة مناسبة لنسيان الواقع. قبلها كنّا نذهب إلى قاعة كولبنكيان المجاورة لها. هناك نرى لوحات جواد سليم وفائق حسن وحافظ الدروبي وشاكر حسن آل سعيد ومحمود صبري. كم كان نوري الراوي بشعره الأسود المتموّج بعيداً عن العناق. فيما كان يكلّمني بالهاتف قبل أن يموت عام 2014 تذكّرت تلك اللحظة التي شعرت فيها أنّ من الصعب إلقاء التحيّة عليه بسبب الهالة التي تحيط به.
كنت هناك دائماً لأنّ غرناطة كانت هناك. لم يكن الحنين يجرّنا إلى ماضٍ لم نعِشه. كان هناك جمال وحشيّ في انتظارنا. فالقاعة التي كُسيت بأثاث إيطالي بالغ الأناقة كانت تعرض أحدث الأفلام الفرنسية. كانت شوارع باريس تظهر بين فيلم وآخر. وكنّا نمنّي النفس بتتبّع أثر أرتور رامبو وقد التحق بكومونة باريس أو وهو يبحث في المقاهي عن صديقه فرلين. أمّا أنا فقد كنت أبحث عن مقهى فلور، هناك حيث يجلس جان بول سارتر وسيمون دو بوفوار وجياكومتي. كانت سينما غرناطة جزءاً من حكايتنا الثقافية. هو الجزء الذي لم يروِه أحد.

إقرأ أيضاً: خارج الخرائط: فلسطين “هُنا”… في القلب

لم أكن أشعر بالحاجة إلى روايته لولا أنّني رأيت صورة لمبنى سينما غرناطة وقد التهمته الرثاثة. صرخت حينها “غرناطتي غرناطة”. هناك عشنا وحلمنا وكتبنا وحلّقنا وسبحنا في مياه المحيطات البعيدة ورقصنا من أجل زوربا. أما تزال رومي شنايدر تنزل بثوبها الأبيض السلّم؟
سنبحث عن أحلامنا بين ثنيات ثوبها. سيرفع هواء رقصة زوربا أذرعنا لنضمّ أشباحنا. يفصلني عن آخر فيلم رأيته في غرناطة زمن طويل، كلّما حاولت اختراقه تخونني عيناي المبتلّتان بالدموع. ذلك لأنّ أبطال ذلك الفيلم هم أهلي الذين غادروا من غير تلويحة وداع. تركوا غرناطة مرّة أخرى للصمت. تُرى كم غرناطة يحتاج المرء إلى مغادرتها لكي يتأكّد من موته الذي ينذر بموت مدينة كان اسمها بغداد؟

 

*كاتب عراقي

مواضيع ذات صلة

90 عاماً من فيروز: صوت تاريخنا… ولحن الجغرافيا

اليوم نكمل تسعين سنةً من العمر، من الإبداع، من الوطن، من الوجود، من فيروز. اليوم نحتفل بفيروز، بأنفسنا، بلبنان، وبالأغنية. اليوم يكمل لبنان تسعين سنةً…

سيرتي كنازحة: حين اكتشفتُ أنّني أنا “الآخر”

هنا سيرة سريعة ليوميّات واحدة من أفراد أسرة “أساس”، وهي تبحث عن مسكنٍ لها، بعد النزوح والتهجير، وعن مساكن لعائلتها التي تناتشتها مناطق لبنان الكثيرة…

الياس خوري: 12 تحيّة لبنانية وعربية (1/2)

العبثيّة، ثيمة تكرّرت في روايات الياس خوري بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر. عبثيّة إمّا نحن نخوضها لتحرير الأرض والثورة على الجلّاد غير آبهين بحياتنا…

فيلم سودانيّ على لائحة الأوسكار… يحطّ في طرابلس

يأتي عرض فيلم “وداعاً جوليا” للمخرج السوداني محمد كردفاني الفائز بعشرات الجوائز في العالم، في مهرجان طرابلس للأفلام المنعقد بين 19 و25 أيلول الجاري في…