سعوديّة ما بعد النفط.. قوميّة حداثويّة عالميّة

مدة القراءة 8 د

في الثقافة الاجتماعية العربية تاريخياً، بعد انتهاء حقبة السلطنة العثمانية، ترتسم في مخيالات الكثيرين صورة جرى تداولها بكثرة في السنوات الفائتة على وسائل التواصل الاجتماعي لركّاب قطار الحجاز الذي يضمّ خطّ سيره الشام، إسطنبول، بيروت، عمّان ودولاً عربية أخرى. ترمز الصورة إلى حقبة كانت فيها الحدود مفتوحة، على الرغم من نفحات الهويّات الوطنية لدى مواطني أو سكان السلطنة. جرى العمل على نشر الصورة بدافع التحسّر على وحدةٍ ألغاها تقسيم وضع حدوداً رسمت وخلقت دولاً بعضها ذات بعد وطني وبعضها الآخر بفعل سايكس بيكو. في موازاة متابعة القطار لخطّ مساره، كانت القوميات تتصاعد عالمياً، مع بروز نزعات إلى إنشاء دول وطنية. في تلك الفترة أيضاً، وعلى مسافة حوالى عشرين سنة، وقع حدثان أساسيان لا بدّ من استذكارهما هنا لقراءة الواقع الراهن ومحاولة استشراف المستقبل. كان الحدث الأوّل عام 1902 وعُرف بميثاق الدرعية، وهو الاتفاق الذي قاد إلى تأسيس الدولة السعودية الثالثة. بعده بسنوات وخلال الحرب العالمية الثانية وعلى مشارف نهايتها، قام شابّ سعودي ثائر لقوميّته العربية، مع ثلّة من أقرانه، بالعمل على تفجير سكّة قطار الحجاز، الذي كان عثمانياً بطبيعة الحال. هذا المشهد الوارد في مسلسل دراميّ سعودي حمل عنوان “سفر برلك” يحاكي حقبة الحرب العالمية الأولى والصراع العربي التركي، وتحديداً مع جمعية الاتّحاد والترقّي التي ارتكبت الكثير من الفظائع التي أسهمت في تعزيز اللحمة العربية والدفاع عن فكرة قيام الدول الوطنية.

عصب الصراع القومي العربي
يتكفّل كلّ من المشهدين بردّ أحدهما على الآخر، ولا حاجة إلى الدخول في سرد تأريخي مفصّل هنا لتلك الحقبة، إلا أنّ الأساس يبقى في الاستناد إلى الرمزية وما تحمله من تجارب، وما تقود إليه من مرامٍ وطموحات. شكّلت الجزيرة العربية في تلك الفترة عصب الصراع القومي العربي إلى جانب بلاد الشام. لماذا هذا الكلام الآن؟ بكلّ بساطة، تتطلّب الإحاطة بكلّ التحوّلات الثورية التي تعيشها المملكة العربية السعودية إلقاء نظرة تاريخية على محطات أساسية ومفصلية لها رمزيّتها ويؤسَّس ويُبنى عليها. إنّ الدور الذي تقوده السعودية، وسعي وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان إلى جعلها قوّة عالمية، بعد تكريس دورها جسراً وصلة وصل بين الشرق والغرب، جعلا المملكة القطار الذي يعبر حدود الدول ويوسّع آفاق الخليج، استناداً إلى فكرتين مطروحتين، أولاهما السعي إلى توحيد العملة الخليجية، وثانيتهما السعي إلى توقيع اتفاقيات تمنح المقيمين في تلك الدول حقّ دخول دول مجلس التعاون بدون الحاجة إلى تأشيرات. وهذا بحدّ ذاته عنصر حداثوي ربّما يستجيب لِما أعلنه محمود درويش سابقاً في شعره حين دعا إلى إسقاط جواز السفر عنه.

يرتبط الحمام وجدانياً بالعرب، وهو يشير إلى السلام. وقد حضر الحمام في أشعار وروايات ومرويّات شعبية يمكن استذكار ثلاث منها

منظومة عدم الانحياز..
تخطو السعودية على طريق ما بعد النفط، بالتركيز على مشاريع الاستثمار، السياحة، التكامل الإقليمي، بالإضافة إلى اعتماد سياسة تصفير المشاكل، وربّما تأسيس منظمة سياسية جديدة شبيهة بمنظمة دول عدم الانحياز. وهو ما يتركّز في الرؤية الاستراتيجية السعودية. وبذلك تثبّت الرياض موقعها العالمي، وهو ما ينطلق من رؤية بن سلمان التي تريد تحويل المنطقة إلى أوروبا الجديدة، بما تعنيه من وقف الحروب الطائفية والمذهبية والتأسيس لما يشبه ويستفاليا جديدة تفتتح عصر الحداثة، وهذا ما تشهده السعودية في الذهاب إلى ما بعد عصر النفط، إلى حداثوية يمكن لأصحاب الفكر القومي أن يلتحقوا بها، ويمكن للغرب أن يكون شريكها، والشرق بلا شكّ يحتاج إليها للعبور والمرور والاستفادة. وهكذا يصل المشروع إلى حدود وضع المملكة على مسرح عالمي.
لا ترتكز مقوّمات “أوروبا” الحديثة على العوامل السياسية، بل على اعتبارها مصنعاً للأفكار أنتج عصراً للأنوار، وهو ما يتّضح أنّه مشمول بالرؤية السعودية، من خلال إيلاء الجوانب الثقافية والإعلامية والدرامية الاهتمام اللازم. من هنا كان لا بدّ من استعارة مشهد مسلسل “سفر برلك”، مع ما قد يتبعه من مشاريع تضيء على تاريخ حافل لكنّه خفيّ، وما يؤسّس له من حالة ثقافية عربية تتّسم بصفات ومحطات سعودية. هناك تركيز واضح على هذا المجال الذي لا بدّ له من خلق فضاءات وفتح آفاق لاستيلاد الكثير من الأفكار على طريق “الحداثة” أو التنوير.
يرتبط الحمام وجدانياً بالعرب، وهو يشير إلى السلام. وقد حضر الحمام في أشعار وروايات ومرويّات شعبية يمكن استذكار ثلاث منها. في قصيدة محمود درويش “يطير الحمام يحطّ الحمام”، وللأهميّة هنا لا بدّ من استعارة بيت من القصيدة: “وأشبه نفسي، حين أعلّق نفسي على عنق لا يعانق غير الغمام”. من أهمّ ما يحتاج إليه العرب، ولا سيّما الشباب العربي، أن يكون مشابهاً لنفسه، معانقاً للغمام في مشاريعه وطموحاته، وهو ما يجسّده بن سلمان في رؤياه، وفي ثورة أحدثها تجعل من الرياض مثلاً ومدينة لا تنام. وللحمام علاقة بالحبّ، وأجمل من صوّرها طلال حيدر حين قال: “بس تفرحي بيطير من صدري الحمام، بس تزعلي على مصر باخدلك الشام”. للحمام معانيه، وفي لحظة الحزن أو الضعف يحتاج المرء إلى اتّساع أفقه، ردّاً على حدود مغلقة أو ممنوعة. وهذه الحدود تكسرها السعودية بعزيمة الذهاب إلى إعادة استجماع قوى عربية تتيح للعرب أن يجتمعوا وأن يتّحدوا، ليس وفق سياقات ماضوية، بل على قاعدة إنسانية، وآليّات تكافلية بين الدول مع الحفاظ على كياناتها ومؤسّساتها.

حمام بريدة عاد للطيران، رجوعاً إلى الرياض، والدرعية تحديداً، ويتّسع مدى التاريخ على أبواب 500 سنة وأكثر، وتحافظ المنطقة على كيانها

حمام بريدة عاد للطيران
كان ثالث استحضارات الحمام في الرواية السعودية “الحمام لا يطير في بريدة”. وبريدة هي إحدى المدن في محافظة القصيم، وتتناول الرواية الكمّ الكبير من العراقيل والقيود والصعوبات الاجتماعية التي لا تتيح للحمام أن يعيش بحرّية وسلام. في الرواية مشهد لشابّ عشريني ابتُعث للدراسة في بريطانيا، وحينما كان جالساً على مقعد في قطار استذكر ما حصل له في الرياض حينما قبضت عليه هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مقهى ستاربكس في خلوة مع فتاة، ثمّ اقتيد إلى السجن. في الصورة تعود رمزية القطار، وصورة الأوصال المقطّعة، التي يمكن إسقاطها بالاستناد إلى الرؤية السعودية الحديثة، ليس من خلال فتح الحدود على دول عربية فقط، بل ونحو العالم أيضاً. وهو ما تحاكيه اتفاقيات الرياض مع باريس بعد زيارة وليّ العهد السعودي، وما سبقها من زيارات واتفاقيات مع دول في الغرب والشرق، وكأنّ المشهد قابل لأن يعود.
أمّا حمام بريدة فعاد للطيران، رجوعاً إلى الرياض، والدرعية تحديداً، ويتّسع مدى التاريخ على أبواب 500 سنة وأكثر، وتحافظ المنطقة على كيانها، وتربط جسور بين البجيري وحيّ الطريف. يحتوي المعلم على حميمية عمرانية، متّسقة مع مقاهٍ ومطاعم، جعلت منها ضاحية ثقافية لها أثرها في كلّ ما يُستحضر سياسياً منذ نشوء الدولة إلى ما بعد الثورة من فوق التي يقودها بن سلمان. في البجيري يطير الحمام، يحلّق بعيداً، فيتناسى بطل بريدة ما كان سابقاً، في تأسيس على “أثر الفراشة”.
انتقل أثر الفراشة من الثورة الإسلامية في إيران إلى ما يشبهه في المملكة وعُرف بحادثة اقتحام جهيمان العتيبي للحرم المكّي، فكانت تلك لحظة تأسيسية للدخول في مسار صراعات طويل للحفاظ على الدولة، والالتقاء مع بعض ما فرضته وقائع الثورة الإسلامية من حاجة إلى بعض التشدّد والانغلاق. يأتي أثر الفراشة حاليّاً بمفعول عكسي، إذ أنتج الانفتاح السعودي والاتجاه إلى عصر الحداثة وصولاً إلى الاهتمام بكرة القدم، وكان لذلك أثره في إيران. وظهر الأثر الأكبر في انفتاح المرأة والسماح لها بحرّية التنقّل والقيادة، فانعكست الرمزية في إيران وازداد تأثيرها مع مهسا أميني من خلال الصراع على الحجاب وإزالته على طريق التحرّر والقطع مع حالة التشدّد التي فرضتها الولاية. هذا الأثر العكسي قاد إلى اتفاق وترتيب للأوراق، وسيكون له ما يتبعه من آثار مستقبلية. كلّ ما تسعى السعودية إلى تحقيقه له أثره لدى عموم الشباب العربي.

إقرأ أيضاً: لبنان “المُتخلّف” 4 سنوات… عن تقويم المنطقة

تسمح كلّ هذه المقوّمات للسعودية بأن تكون دولة كبيرة في المقاييس الإقليمية، بالاستناد إلى مرتكزات لصناعة مؤسّسات واقتصاد فعليّ ومتنوّع يواكب السرعة الفائقة للتحوّل الإنتاجي على صعد المعرفة أو الاقتصادات غير المرئية وليس وفق الجانب الاقتصادي التقليدي. هناك فريق علمي اقتصادي استراتيجي يحيط بالقيادة السعودية يقدّم رؤى غير تقليدية، ويسعى إلى التفكير في مستقبل البيئة والمناخ، وجعل السعودية على حلبة التنافسات الاقتصادية الكبرى، ربطاً بتهيئة أجيال متعلّمة من خلال مناهج تعليم تختلف عن التعليم التقليدي الذي كان قائماً. والأهمّ هو تجاوز كلّ الصراعات القومية والدينية أو الطائفية، ووقف الحروب على الصناعات ومواردها، مقابل الذهاب إلى التكامل مع كلّ هذه القوى، للدخول في قفزات القرن الواحد والعشرين التي تتجاوز بأشواط ما تحقّق في القرن العشرين. يقول مصدر سعودي مسؤول إنّ هذا كلّه يندرج ضمن خطّة ورؤية استراتيجيّتين للمرحلة المقبلة قد تمتدّان ثلاثين سنة، ويتمّ تخصيص مئات المليارات من الدولارات لهما، وتطالان مستويات متعدّدة من التطوير، ويرتكز الاستثمار وفقاً لهما على عنصر الشباب الذي يوالي رؤية بن سلمان ويشكّل قاعدة اجتماعية كبرى حيوية وفتيّة.

مواضيع ذات صلة

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…

السّوداني يراسل إيران عبر السعودية

 لم يتأخّر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ومعه قادة القوى السياسية في قراءة الرسائل المترتّبة على المتغيّرات التي حصلت على الساحة السورية وهروب رئيس…