معجزة لبنانيّة في زمن اللامعجزات

مدة القراءة 5 د

في زمن اللامعجزات حصلت معجزة. الدليل أنّ لبنان ما يزال يتنفّس. يتنفّس بالكاد، لكنّه يتنفّس، على الرغم من كلّ ما مرّ به في السنوات الأخيرة وانتقاله من احتلال إلى آخر. لا مفرّ من الإقرار بأنّ تعرّض بلد مثل لبنان لِما تعرّض له منذ عام 1969، تاريخ توقيع اتفاق القاهرة المشؤوم، وبقاءه على قيد الحياة في سنة 2023، يدخلان في باب المعجزات. الأمر معجزة، خصوصاً أنّ الجهة التي تتحكّم بلبنان غير مهتمّة بمصيره ولا بمصير أهله.
في سنوات قليلة، خسر لبنان كلّ مقوّمات وجوده. صار بلداً يُحظر فيه التحقيق في جريمة في حجم تفجير مرفأ بيروت في الرابع من آب 2020. كان ميشال عون، رئيس الجمهوريّة في حينه، يريد تحقيقاً سريعاً يكشف الحقيقة. تبيّن أنّ المطلوب منه دفن التحقيق، ومعه لبنان، في ضوء رغبات “الحزب” الذي كان يستخدم نيترات الأمونيوم المودعة في أحد عنابر المرفأ لأغراض خاصّة به… في الداخل السوريّ.

التوريث الجنبلاطي فعل مقاومة؟
في منطقة، تفجّرت فيها، من الداخل، دول عدّة من الجائز التساؤل: هل يمكن إعادة تركيب لبنان؟ وفي ظلّ أيّ صيغة يمكن ذلك؟ السؤال، الذي لا جواب عنه، أكثر من منطقي في حال نظرنا إلى مصير دول عربيّة عدّة. من بين هذه الدول سوريا والعراق وليبيا واليمن والسودان.
هناك خمس دول عربيّة بات مصيرها في مهبّ الريح. يضاف لبنان إلى الدول الخمس، مع فارق أنّ أهله ما زالوا يقاومون السقوط النهائي تحت الاحتلال الإيراني. يصرّ الاحتلال الإيراني على التحكّم بكلّ شاردة وواردة في لبنان. في المقابل، يصرّ قسم لا بأس به من اللبنانيين على المقاومة. يؤكّد ذلك على سبيل المثال توريث الزعيم وليد جنبلاط لنجله تيمور رئاسة الحزب الاشتراكي، الذي هو جزء لا يتجزّأ من عُدّة الشغل لدى سيّد المختارة. التوريث، في هذه الظروف بالذات، فعل مقاومة ورفض لزوال الدور الدرزي في لبنان. إنّه فعل مقاومة بغضّ النظر عن الشعارات البالية التي يرفعها جنبلاط الأب بين حين وآخر. من بين هذه الشعارات ذلك الذي يهاجم فيه “اتفاق 17 أيّار” لعام 1983 الذي سيكون صعباً على لبنان الحصول على أفضل منه بعد أربعين سنة من توقيعه!

ما يزال لبنان يتنفّس على الرغم من وجود نسبة تزيد على ستّين في المئة من مواطنيه تحت خطّ الفقر. يقاوم كلّ لبناني يمتلك حدّاً أدنى من الوطنيّة على طريقته

ليس الدروز وحدهم الذين يقاومون في ظلّ الضياع السنّيّ والانقسامات المسيحيّة التي لا شفاء منها في المدى المنظور، خصوصاً في ظلّ وجود مسيحيين مرضى عقليّاً. ما زال هؤلاء يرفضون الاعتراف بأنّ الثنائي ميشال عون – جبران باسيل لم يكن يوماً سوى أداة استخدمها “الحزب” في عملية تدمير ممنهجة للمجتمع، وللمسيحيين تحديداً، ولِما بقي من مؤسّسات الدولة اللبنانيّة.

لبنان الورقة المؤجّلة
ما يزال لبنان يتنفّس على الرغم من وجود نسبة تزيد على ستّين في المئة من مواطنيه تحت خطّ الفقر. يقاوم كلّ لبناني يمتلك حدّاً أدنى من الوطنيّة على طريقته. الدروز يقاومون على طريقتهم. السُّنّة يقاومون بأكثريّتهم الساحقة على الرغم من غياب رأس للطائفة. كذلك يفعل المسيحيون، فيما توجد أقلّيّة شيعية ما زالت تؤكّد أنّ الحزب لم ينجح كلّيّاً بعد في تغيير طبيعة الطائفة والمجتمع الشيعي.
سيتوقّف الكثير على ما إذا كان الوضع الإقليمي سيتغيّر في المدى المنظور. ليس ما يشير إلى ذلك في ضوء نجاح “الجمهوريّة الإسلاميّة” في الفصل بين مسار العلاقة بينها وبين المملكة العربيّة السعوديّة من جهة، وسلوكها في العراق وسوريا ولبنان، واليمن، إلى حدّ ما، من جهة أخرى.
يظلّ لبنان بالنسبة إلى إيران ورقة مؤجّلة في انتظار الوقت المناسب لاستخدامها في صفقة مع “الشيطان الأكبر” ليس مستبعداً حصولها في المدى القريب بعد زوال عقبات كثيرة كانت تقف في وجهها. هل يمكن أن يستفيد لبنان من مثل هذه الصفقة التي تُطبخ على نار هادئة في سلطنة عُمان وغيرها؟ الجواب أنّ ذلك مستبعد إلى حدّ كبير، خصوصاً أنّ لبنان لم يعُد همّاً أميركيّاً منذ فترة طويلة.

ليس أمام اللبنانيين غير خيار الصمود على الرغم من أنّ الظروف الإقليميّة لا تعمل لمصلحتهم. يفترض بهم الصمود، لكن من دون أوهام من نوع وهم أنّ النظام السوري يمكن أن يقبل بعودة اللاجئين السوريين إلى أراضيهم التي هُجّروا منها. لا وجود لعودة اللاجئين، وهم في أكثريّتهم من السُّنّة، ما دام النظام الأقلّويّ قائماً وما دام الهمّ الأوّل لإيران وأدواتها تغيير طبيعة التركيبة الديمغرافية لسوريا. يتمثّل كلّ ما يريده النظام السوري في الوقت الحاضر في السعي إلى المتاجرة في قضيّة اللاجئين عن طريق الادّعاء أنّه في حاجة إلى مساعدات من أجل إعادة تأهيل المناطق التي هُجِّروا منها عن سابق تصورّ وتصميم ولأغراض أكثر من معروفة.
يقاوم اللبنانيون في ظروف في غاية الصعوبة والتعقيد. لا تعي أكثريّة اللبنانيين ماهيّة هذه الصعوبات ومدى تعقيدها. لكن لا خيار آخر أمام هذه الأكثريّة سوى المقاومة. رفضُ مرشّح “الحزب” لرئاسة الجمهوريّة فعلُ مقاومة، تماماً مثل عودة آلاف اللبنانيين لتمضية جزء من الصيف في لبنان. لن يُنعش هؤلاء الاقتصاد ولن يُعيدوا الحياة إلى النظام المصرفيّ الذي مات وشبع موتاً. لكنّ مجيئهم يظلّ أفضل من لا شيء في بلد يتّجه نحو مزيد من الفراغ على كلّ صعيد في غياب أيّ رغبة أوروبيّة أو أميركيّة أو عربيّة في القيام بأيّ مبادرة تستهدف إنقاذ ما يمكن إنقاذه.

إقرأ أيضاً: أيّ شكل سيتّخذه انتصار ثقافة الموت على لبنان؟

أما يزال ممكناً الكلام عن معجزة لبنانيّة؟ نعم، ما يزال ذلك ممكناً على الرغم من أنّ العجز عن انتخاب رئيس للجمهوريّة يشير إلى أن لا حدود للانهيار اللبناني وللمدى الذي يمكن أن يصل إليه هذا الانهيار…

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: khairallahkhai5@

مواضيع ذات صلة

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…

على باب الاستقلال الثّالث

في كلّ عام من تشرين الثاني يستعيد اللبنانيون حكايا لا أسانيد لها عن الاستقلال الذي نالوه من فرنسا. فيما اجتماعهم الوطني والأهليّ لا يزال يرتكس…