يردّد السفير السعودي في بيروت باسم قيادته في الرياض أنّ الشأن الرئاسي موضوع لبناني صرف. يزيد أكثر من ذلك بالتأكيد أنّ أيّة تسوية من داخل أو خارج النظام الدستوري والسياسي هو أمر يتعلّق باللبنانيين حصراً.
الأمر عينه يكرّره السفير الإيراني في لبنان. سبقه إلى ذلك رئيسه في الدبلوماسية وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان خلال زيارته بيروت. في الأحوال كلّها ليس لأحد أن ينفي أو ينكر الأدوار الوازنة لكلّ من الدولتين معطوفة على حضور أوروبي عنوانه فرنسا، وآخر لافتَتُه الولايات المتحدة الأميركية.
عمليّاً، لا يمضي الاتفاق السعودي – الإيراني إلى الأمام بالسرعة المطلوبة، “إنّما يمشي كدبيب النمل على الأرض”، بحسب ما يقول مرجع سياسي لبناني موثوق.
جدار الرغبات
يقول الاثنان، السعودي والإيراني، إنّه متى وصل البحث إلى الشأن اللبناني فيمكن للطرفين المساعدة في إعادة تظهير أفكار لبنانية. وهذا ليس جديداً. على الدوام كان هناك ناخب وازن في الانتخابات وفي صياغة توازنات البلد على قاعدة الصيغة اللبنانية الأصلية التي لم نتجاوزها على الرغم من اختبار المحن المديد الذي خاضه اللبنانيون.
قوى الممانعة بعدما انتقلت من خانة الذي لا يهاب شيئاً، والذي يتوعّد ولسان حاله يقول: إمّا الإذعان وإمّا نهزمكم شرّ هزيمة، هذه القوى باتت متمسّكة بـ”تسوية” و”حوار” لا نعرف على أيّ أساس سياسي يقومان، وتلهج بذكرهما آناء الليل وأطراف النهار.
يقول الاثنان، السعودي والإيراني، إنّه متى وصل البحث إلى الشأن اللبناني فيمكن للطرفين المساعدة في إعادة تظهير أفكار لبنانية
صار مطلب هذه القوى يقف عند جدار الرغبات المتعدّدة. أغربها تلك التي تحدّثت عن انتخابات نيابية مبكرة. حسناً، لقد اقتنعت على شيء من الظنّ أنّ سلاحها ما عاد يخيف أحداً ما دامت مرارة العيش قد دخلت بيوتاً كثيرة.
مجدّداً، مطلب هذه القوى الآن استعجال التسوية انطلاقاً من تمنّيات خاصة بها. وفي الأثناء، لا تكفّ عن إبداء رغبة جامحة بشطب “الكلّ” في التسوية المرغوبة منها.
لا تخفي رغبة كهذه جدار الجهل الذي تقف أمامه قوى الممانعة. لا بل تصطدم به مراراً وتكراراً لأنّ الراغب الممتلئ جهالة بلبنان وبفرادة صيغته على أمراضها، لا يريد أن يصدّق بوجود غلبة شعبية ديمقراطية ما عادت قادرة على احتمال مغامراته التي جعلت البلد ساحة للموت المجّاني. ولا يريد أن يصدّق أنّه أصبح ثقيلاً جدّاً على العالم كلّه. وهذا سيأخذه إلى جدار الخيبة.
السؤال الضروريّ
لا تكفّ قوى “الممانعة” عن إعلان الانتصارات. هي منتصرة على طول الخطّ. مع ذلك يتجاهل الجميع سؤالاً مُلحّاً وضرورياً. إذا كانت القوى السيادية على علاقة بقوى عربية وأخرى أوروبية وغربية، فما الذي نقوله عن الحزب؟ هل ثمّة من يشكّ في تبعية هذا الحزب لإيران؟ وهل مَن تساوره أسئلة عن معنى علاقات هذا الحزب مع “أقنية الغرب” الأمنيّة؟
في هذا المقام قد يكون لبعض الأفكار ممرّاً إلى التسوية في ظلّ أزمة وطنية عارمة. لكنّ السؤال: أيّة تسوية؟ التسوية هي أن يملك اللبنانيون على مختلف نوازعهم وقواهم ما يفاوضون عليه. وشرط التسوية أن يكون الداخل اللبناني مُقرّراً في التنازلات التي يقدّمها الأطراف المعنيون بالتسوية. هذا سؤال ضروري ينبغي أن يوجَّه إلى الحزب: هل ثمّة أيّ اعتبار للبنان وخصوصيّته في سياسته منذ تأسيسه حتى اليوم؟
قوام التسوية
من نافل القول أنّ لبنان على مدى عقود طوال كان ملعباً حرّاً، لكنّ هذا لا ينفي أنّ اللبنانيين أمام فرصة تسوية داخلية أوّلاً وأخيراً. هذه التسوية قوامها تحريم وحظر الحوار بالنار والدم والسلاح وكواتم الصوت.
إذا لم ينجحوا الآن في عقد مثل هذه التسوية، فإنّ الجميع أمام احتمال مغامرة تجعل من البلد ساحة لا تنبعث منها غير روائح البارود والدم.
ما يتجنّبه اللبنانيون ويعرفونه حقّ المعرفة أنّ البلد وأهله لم يكونا يوماً ناخبَين أوحدَين. على الدوام كان هناك خارجٌ مقرِّرٌ ذو هويّات كثيرة
ما يتجنّبه اللبنانيون ويعرفونه حقّ المعرفة أنّ البلد وأهله لم يكونا يوماً ناخبَين أوحدَين. على الدوام كان هناك خارجٌ مقرِّرٌ ذو هويّات كثيرة. اليوم كلّ التقارير المبثوثة تتحدّث عن أنّ الناخب في لبنان مكوّناته: “توتال إنرجي”، الملفّ النووي الإيراني، إكسبو 2030.
صحيح أن ليس من الحكمة في شيء أن تُبنى على التقارير الصحافية مواقف في السياسة. لكنّ من التهوّر بمكان إغفال أنّ هذه التقارير إيجابية المحصّلة لناحية الإضاءة على ما يدور في مطابخ السياسة.
من طبيعة هذه التقارير التي يجب أخذها في الاعتبار لا أكثر، أنّها في العادة لا تقيم وزناً لأشخاص أو بلاد أو شخصيات معنوية، بقدر اهتمامها بالحصول على شيء من الوقائع يبقى ضرورياً لبناء تقدير عليه، لا الخلاصة منه، إلى وقائع قد تبدّلها مسارات التفاوض السياسي.
الأدب السياسيّ
يتطلّب الذهاب إلى مثل هذه التسوية من الثنائي ورهطه وقف التخوين وإخفاء نواجذه التي تحاول أن تنمّ عن “راحة” ليست موجودة في الوقائع ولا حتى في الخيال.
يوجب أساسُ الأدب السياسي الإقلاعَ عن السخرية من الخصوم أو الطعن في مواطنتهم، استناداً إلى أنّ الهيبة تتأتّى أوّلاً وأخيراً من السلاح وليس من السيرة.
إقرأ أيضاً: الخلاف الدائم في لبنان: ما هو دوره؟
في كلّ الأحوال، يجدر بمفوّهي “محور الممانعة” أن يتذكّروا أنّ الذين يتهكّمون عليهم هم على الأقلّ نصف الشعب اللبناني. ومن يستخفّ بهؤلاء يجدر به أن يصغي جيّداً إلى أثر تهكّمه على النسيج اللبناني عموماً.
في ظلّ هذا النوع من الشراكة “المتجبّرة” لن يُتاح أيّ مكان لأيّ حوار مهما كان ضرورياً. ينهار لبنان ولا تتحرّر فلسطين. ينهار العيش المشترك ولا ينشأ إلا الغيتوات. تغيب عروبة البلد الحضارية ولن يحضر أيّ بديل عنها.
كلّ الخوف هو من هذا الزمن المتفجّر بأحقاد التاريخ، وهو ما يُخشى معه أن يتبدّد التعدّد اللبناني وثراؤه الثقافي والسياسي. ذلك أنّ في لبنان من يعتقد أنّ الله “نصر طليعته في إيران”، على ما جاء في البيان التأسيسي للحزب.
لمتابعة الكاتب على تويتر: jezzini_ayman@