يجوز لسليمان فرنجية أن يستبشر بحرارة كلمات قائد المنطقة الغربية في المملكة العربية السعودية اللواء أحمد الدبيس وهو يرحّب بعشرات الإيرانيين الذين تولّت المملكة إجلاءهم من السودان. يمكن الافتراض أنّ ميكروفون إحدى الصحف السعودية لم يكن هناك صدفة ليسجّل قوله: “أنتم جيراننا وأصدقاؤنا وأحبابنا”.
يقوم مشروع إيصال فرنجية إلى رئاسة الجمهورية على بنيان من الفرضيّات يكمن في أساسه الانفراج في العلاقات السعودية الإيرانية، لكن تحتاج هذه الفرضيات إلى كثير من التدقيق.
ثلاث فرضيات
أولى الفرضيّات أنّ الانفراج في العلاقات السعودية الإيرانية ثابت ونهائي وغير قابل للانتكاس في المدى القريب، وثانيتها أنّ الملف اللبناني مدرَج في أجندة التفاهمات المحقّقة أو التي تنتظر دورها، وثالثتها أنّ فرنجية يحمل في شخصه وسيرته الذاتية ما يسمح له بأن يكون رجل مرحلة التفاهم السعودي الإيراني في لبنان، وآخِرتها أنّ عودة العلاقات بين السعودية وسوريا يمكن أن توفّر أرضية لعودة الـ “سين- سين” في الساحة اللبنانية.
لا تفتقر الفرضية الأولى إلى الشواهد لمن أراد أن يقتنع بها. فالانفراج لم يأتِ فجأة، بل بعد جولات من المباحثات في العراق وسلطنة عُمان، كانت كافية لاختبار النوايا وبناء الثقة. وأتت الوساطة الصينية لتقدّم ضامناً دولياً جديداً لا يليق به ما هو أقلّ من النجاح الكامل في إطلالته الأولى بهذا المستوى من العمل الدبلوماسي في ملفّات الشرق الأوسط المعقّدة.
يقوم مشروع إيصال فرنجية إلى رئاسة الجمهورية على بنيان من الفرضيّات يكمن في أساسه الانفراج في العلاقات السعودية الإيرانية، لكن تحتاج هذه الفرضيات إلى كثير من التدقيق
لكنّ إثبات الفرضيات التالية أصعب. فمنذ أن بدأ الانفتاح بين طهران والرياض لم يكن ثمّة اتفاق على مبدأ “الحزمة الواحدة”. بل إنّ إيران نفسها كانت تصرّ على حصر الجولات الأولى من المباحثات في العراق، في عهد رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي، وفي ملفّ العلاقات الثنائية وملفّ البحرين، وحاولت في مرحلة ما أن تضمّ الملفّين اليمني واللبناني في حزمة أخرى تلزّمها إلى “الحزب”، إلا أنّ الرفض السعودي كان قاطعاً.
ما جرى حتى الآن أنّ مسار التقارب بدأ بالفعل بالاتفاق على إعادة فتح المقرّات الدبلوماسية اعتباراً من العاشر من أيار الجاري. وبدا أنّ اليمن هو المحطة التالية، بخطوات أوّلية بدأت بتبادل نحو ألف أسير من الطرفين (من بينهم 104 أسرى أفرجت عنهم السعودية من طرف واحد خارج الصفقة)، وزيارة الوفدين السعودي والعُماني لصنعاء لستّة أيام. وكان الظاهر أنّ مسار الأمور يتّجه إلى وقف شامل لإطلاق النار، ضمن اتفاق يشمل زيادة الرحلات في مطار صنعاء وتخفيف الإجراءات عن ميناء الحُديدة ودفع الرواتب وتوحيد البنك المركزي والعملة، وفتح طريق تَعْز. لكنّ حركة الحوثيين في الميدان تثير الكثير من الشكوك. فعلى أسماع المبعوث الأممي هانس غروندبرغ خلال زيارته الأخيرة لصنعاء، عاد رئيس المجلس السياسي للحوثيين مهدي المشاط للحديث عن الاستعداد للحرب كالاستعداد للسلام، وعاد التصعيد العسكري على جبهة مأرب، وفي حيس إلى الجنوب من الحُديدة.
ربط لبنان باليمن
هناك في بيروت من عاد للترويج للربط بين الملفّين اليمني واللبناني، ومن الواضح أنّ مصدر هذا الكلام هو الحزب الذي انخرط في حرب اليمن، تسليحاً وتدريباً وقتالاً. ومفهوم الكلام أنّ “الضمانات” التي “ستحصل” عليها السعودية في اليمن يمكن أن تقابلها تسهيلات سعودية في لبنان، ليس فقط من قبيل موافقة الرياض على انتخاب مرشّح “حزب الله” للرئاسة، بل وإغداق المساعدات لتسهيل مهمّته. وهذا يحيل إلى الفرضية الثالثة: هل يحمل شخص فرنجيّة المزايا المطلوبة لرجل التوافق الإقليمي في لبنان؟
كلّ ما في الأمر أنّ فرنجية يقدّم التطمينات للسعودية، فيما يتبرّع الفرنسي بأن يكون الوسيط الضامن للتعهّدات التي يقدّمها على شكل أجوبة على أسئلة محدّدة حول هذه الاستراتيجية
يجهد فرنجية لتسويق نفسه على هذا النحو. فهو يقول للداخل والخارج إنّ علاقته بالحزب وبشّار الأسد يمكن أن تكون “أصلاً” قابلاً للتوظيف في بناء التوافقات. لكنّ ملخّص برنامج فرنجية الرئاسي هو أن يكون جائزة “حزب الله” التي لا تستفزّ السعوديين. وهذا هو ملخّص كلّ ما يقوله في جولاته الانتخابية ولقاءاته الإعلامية. لم يزعم الرجل مرّة أنّه مستعدّ للخروج عن “خطّ” الحزب الاستراتيجي، والأهمّ أن ليس بوسعه الادّعاء أنّه يشارك في صنع القرار داخل ذلك الخطّ. كلّ ما في الأمر أنّه أبدى مرونةً وانفتاحاً في طريقة ممارسة خياراته، ولم يبدِ أيّة مرونة في الخيارات بذاتها. ما عدا التأكّيد على طاولة حوار جديدة حول الاستراتيجية الدفاعية مع وعد من الحزب بتسهيل مسار المفاوضات.
كلّ ما في الأمر أنّ فرنجية يقدّم التطمينات للسعودية، فيما يتبرّع الفرنسي بأن يكون الوسيط الضامن للتعهّدات التي يقدّمها على شكل أجوبة على أسئلة محدّدة حول هذه الاستراتيجية، ويدعمها باختيار رئيس حكومة أقرب إلى السعوديين.
غير أنّ المشكلة لا تكمن في نوايا فرنجية أو ما يتمنّاه، بل في التجارب البائسة مع “الحزب” والنظام السوري في لعبة “الضمانات”، من اتفاق الدوحة في 2008، إلى تفاهم الـ “سين- سين” بعد انتخابات 2009، إلى التسوية الرئاسية التي أتت بميشال عون رئيساً في 2016. بماذا تختلف ضمانات فرنجية عن تلك التي قدّمها “الوزير الملك” عدنان السيّد حسين في حكومة الوحدة الوطنية بعد انتخابات 2009؟ كانت تلك الضمانات واضحة منه وممّن اختاره بعدم الاستقالة، بل كانت تشمل تفاصيل التفاصيل في ممارسته على طاولة مجلس الوزراء. لكن تبيّن في نهاية المطاف أنّه لا يملك من الأمر شيئاً حين يُتّخذ القرار في حارة حريك.
آخِر الفرضيّات الإشكالية أنّ العلاقة بين الرياض ودمشق تفتح أفقاً لتسوية في لبنان. وهذه أضعف الفرضيات، لأسباب كثيرة ليس أقلّها أنّ النظام السوري في 2023 ليس هو ذاك الذي كان في 2009، فهو اليوم بالكاد يرتّب أوضاعه الداخلية ويقاوم سطوة إيران و”حزب الله” على القرار الأمني في دمشق. أضف إلى ذلك أنّ سجلّ سوريا في تقديم التعهّدات بائس أكثر من سجلّ “الحزب”.
إقرأ أيضاً: سليمان فرنجيّة رئيساً.. “عضّة كوساية”
عناوين انفتاح الرياض على دمشق واضحة من بيان وزارة الخارجية السعودية بعد اجتماع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي والأردن ومصر والعراق في جدّة منتصف الشهر الفائت، وربّما يكون أهمّها “أن يكون هناك دور قيادي عربي في الجهود الرامية لإنهاء الأزمة، ووضع الآليّات اللازمة لهذا الدور”. ثمّ أتى اجتماع عمّان يوم الإثنين الذي ضمّ وزراء خارجية السعودية والأردن والعراق ومصر وسوريا ليحدّد بشكل أكثر وضوحاً ما هو مطلوب من دمشق، على صعيد الحلّ السياسي وعودة اللاجئين ووقف تجارة المخدّرات.
من الواقعي أن يكون لبنان حاضراً في ملفّ العلاقات السعودية- السورية من باب وقف التجارة القذرة، لكن ليس من باب إحياء الدور السوري في صناعة الرؤساء بعدما أصبح رميماً.