في تشرين الأول/أكتوبر 2021، جرى نقاش مستفيض مع الأمين العام للمؤتمر الدائم للفيدرالية ألفرد رياشي، في مقرّ التجمع الوطني في منطقة الصنائع ببيروت، عن طرح النظام الفيدرالي؛ نماذجه في العالم، محاسنه ومساوئه، والأهم عن إمكانية تطبيقه في بلد مرّ بحرب طائفية طويلة على مدى 15 سنة، ثم التأمت أجزاؤه بفضل اتفاق الطائف لعام 1989. كان الحضور متنوعاً، ومن بينهم ممن شارك في تلك الحرب. حاول رياشي بلباقته المعهودة، تبسيط الأمر، والتأكيد على سهولة الوصول إليه من دون عوائق ولا مشاكل. لكن أسئلة الحاضرين بدت وكأنه يسمعها لأول مرة، فامتد النقاش إلى ما بعد انفضاض الجلسة، من دون الحصول على إجابات مقنعة. أبرز تلك الأسئلة: إذا قام لبنان الفيدرالي فما هو مصير بيروت، هل تُقسّم، علماً أن رياشي عاش في منطقة رأس بيروت المعروفة بتنوّعها الديني والمذهبي؟ وما حدود البيروتين، هل هو الخط الأخضر (خط تماس الحرب الأخيرة)؟ هل تبقى بيروت واحدة ومفتوحة بوصفها عاصمة الفيدرالية؟ وأين خصوصية الغالبية السنية التي لن تحظى بالمغانم كغيرها من المقاطعات أو الكانتونات الطائفية، ولن تكون ذات قرار مستقل في تدبير شؤون المدينة، مع أن هذا هو هدف الفيدرالية أن تمنح كل مجموعة قرارها، بل ستحمل مغارم كونها العاصمة كما هو الحال اليوم؟ والسؤال الأخطر: هل يظنّ الفيدراليون الجدد أن تقاسم لبنان ولو تحت عنوان النظام الاتحادي، سيمرّ من دون تدمير العيش المشترك في الكانتونات نفسها، ومن دون حرب شبيهة بالحرب السابقة، إن لم تكن كالحرب القبرصية القصيرة بين اليونانيين والأتراك عام 1974، والتي أفضت إلى انفصال الجزء التركي كدولة أمر واقع، أو كحرب البوسنة والهرسك التي شهدت التطهير العرقي بين المسلمين والصرب والكروات بين عامي 1992 و1995، ووضعت أوزارها باتفاق دايتون الذي أنشأ نظاماً فيدرالياً شديد التعقيد مكوّناً من اتحاد البوسنة والهرسك وهو فيدرالية كراوتية-إسلامية، ومن جمهورية صربسكا Republika Srpska (صرب البوسنة)، وهو معرّض للانفراط في أي لحظة؟
شاعت مؤخراً فكرة الفيدرالية أو حتى التقسيم النهائي، في الأوساط الشعبية والسياسية المسيحية، فتبرز عند كل خلاف تافهاً أو جوهرياً
إن أيّ فيدرالية هي أقرب إلى النجاح إن قامت على جمع دول مستقلة ذاتياً بشكل رضائي، لا على تفتيت دولة مركزية قائمة. فالولايات المتحدة الأميركية، وهي من الأمثلة النموذجية على التظام الاتحادي الناجح، استقلت نواتها الأولى عن بريطانيا عام 1776، أي المستعمرات البريطانية السابقة الـ13، ثم توسعت تدريجياً بضمّ ولايات أخرى حتى أضحت أخيراً 50 ولاية، ولكل ولاية state قانونها المحلي. ومع ذلك، نشبت حرب شرسة بين الولايات الشمالية والجنوبية بين عامي 1861 و1865، لأن ولايات الجنوب كانت تريد الانفصال عن الاتحاد الفيدرالي في الشمال، وإقامة كونفدرالية تجمع الولايات الجنوبية برباط هشّ لا يمسّ سيادة كل ولاية واستقلاليتها. أما طرح الفيدرالية في دولة موحدة ومركزية مثل لبنان، فلن يعني سوى التقسيم أولاً، والتفاوض لاحقاً على إقامة اتحاد فيدرالي، مع ما يجرّ ذلك من اختلافات ونزاعات واشتباكات على كل شيء متداخل فيما بين المناطق المُراد تحويلها إلى إدارات مستقلة، أو على مظاهر العيش المشترك في الدولة المركزية البائدة، وهو ما يطرح مشكلة عويصة حتى في الكانتونات المفترضة والتي لن تكون صافية، ولن تخلو من أقليات دينية، إلا إذا سبق قيام الفيدرالية عمليات تطهير في كل جزء. وكيف ستجمع لاحقاً ما تفرّق بالدم؟
إحياء الفيدرالية ونسف التعايش
شاعت مؤخراً فكرة الفيدرالية أو حتى التقسيم النهائي، في الأوساط الشعبية والسياسية المسيحية، فتبرز عند كل خلاف تافهاً أو جوهرياً. فعندما نشبت معركة تأجيل تقديم الساعة قبيل شهر رمضان، أطلق “المايسترو” جبران باسيل إشارة البدء، مصنفاً اللبنانيين بين تقدميين ورجعيين، فعزف الباقون لحن الانفصال والتمايز، تحت شعار: “لكم لبنانكم ولنا لبناننا”. كانت الخطوة بلا معنى، لكن الردود من أرقى المراتب والمستويات، تحفل بالمعاني الخطيرة. ومؤخراً، أنذر ناطق باسم القوات اللبنانية أنه إن انتُخب سليمان فرنجية مرشح محور الممانعة رئيساً للجمهورية، فستكون العاقبة أنه “لهم جمهوريتهم ولنا جمهوريتنا”، بالمعنى السياسي بين ممانعين وسياديين، دون أن نتبين أو يدرك رجل الشارع ما المقصود بهذا التقاسم والانقسام، وكيف يتمظهر واقعاً؟ حتى أصبح النازحون السوريون، وقضيتهم معروفة الأسباب والتداعيات والعلاجات، مادة إثارة، ظاهرها وطني وباطنها طائفي، وفق معادلة: “خذوا النازحين إلى لبنانكم، وأريحونا منكم ومنهم”. والحال أن ما يمور تحت السطح ويظهر كمواقف متشنجة غير مسبوقة، ليس بنت الساعة، هو نتاج تراكمات، منها العفوي الاعتباطي ومنها المقصود المتعمد، وثمة من يستثمر في هذا المجال، دون وعي بالكوارث الآتية لو استمررنا على هذا المنوال.
في البدء، اكتفت الأحزاب المسيحية بالمطالبة باللامركزية الموسعة إدارياً (ومالياً)، وهو البديل الدستوري الذي طرحه اتفاق الطائف، حتى في عزّ التسوية الرئاسية التي انعقدت أركانها عام 2016، عندما كانت أجواء الوئام والوفاق تظلّل العلاقات المسيحية الإسلامية. وترافق ذلك مع الإصرار على صحة التمثيل الطائفي في البرلمان، في مسار مناقض لنص الدستور وروحه، والذي وضع آلية لإلغاء الطائفية السياسية من خلال المادة 95. وسعت الطروحات المختلفة في هذا المجال، إلى تعزيز الانفصالية الاجتماعية والسياسية، عبر مبدأ: كل طائفة تنتخب نوابها. وهذا مع العلم، أن التيار الوطني الحر في ذلك الحين، كان حليف حزب الله في السراء والضراء منذ تفاهم مار مخايل عام 2006. وبعد عشر سنوات، انعقد تفاهم آخر بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية (اتفاق معراب)، أي أن القوات حالفت حليف الحزب، وهي كانت حليفة تيار المستقبل من قبل، والمستقبل بات حليف التيار العوني لاحقاً. وفي هذه الدائرة، يقع الحزب في الوسط؛ نقطة التلاقي بين المتحالفين المتضامنين. كان اتفاق معراب كناية عن تحالف بين أكبر حزبين مسيحيين لتقاسم المناصب والمواقع، وسنّ قانون انتخابي جديد، يعتمد النسبية، فظهر قانون معدّل عن القانون الأرثوذكسي. وافقت الأحزاب الإسلامية على هذا القانون الانتخابي الذي يناقض عملياً مقتضيات العيش المشترك. فماذا كانت الحصيلة؟ تضاعف التشنج الطائفي، واتسعت الفجوة بين اللبنانيين، وتوالت التهديدات بفضّ الشركة الوطنية. بل تخطت الحملات والخطابات كل الخطوط، عندما استعيد خطاب التمايز والتعالي والعنصرية الذي سبق الحرب الأهلية واشتدّ أثناءها، عبر انتقاد طرق العيش واللباس والتصرف لدى الطوائف الأخرى. أن تكون لبنانياً، هو أن تتبع نمطاً خاصاً؛ تكون لبنانياً حقيقياً كلما اقتربت من هذا النمط، وتفقد لبنانيتك بالقدر الذي تتباعد فيه عن هذا النمط. هو استعادة تاريخية لنمط من التفكير العصبوي الخطر.
إن أيّ فيدرالية هي أقرب إلى النجاح إن قامت على جمع دول مستقلة ذاتياً بشكل رضائي، لا على تفتيت دولة مركزية قائمة
يقولون الآن إن الطائف فشل على نحوٍ مطلق، ولا بدّ من الرجعة تلقائياً إلى الفدرالية المطبّقة عملياً خلال الحرب؛ مناطق مستقلة ذاتياً، وبقية مؤسسات الدولة تدير المصالح المشتركة بالحدّ الأدنى. حالياً، تنهار حتى المصالح المشتركة مع انهيار مؤسسات الدولة. كما أن الوضع السابق لم يكن نظاماً فدرالياً رسمياً متوافقاً عليه de jure، بل كان تقاسم الأمر الواقعde facto ، خلال الحرب. وشتان بين الاثنين.
إيجابيات الطبيعة التعدّدية..
ينتشر مفهوم العيش المشترك، أو العيش معاً، coexistence، في الأدبيات السياسية والقانونية في العالم، سواء أكان التعايش بين الدول ذات السيادة، أو داخل كل دولة من الدول، وهو ليس مصطلحاً لبنانياً خاصاً؛ فمعظم دول العالم، ذات طبيعة تعددية، عرقياً وإثنياً ودينياً. وفي الغالب، تنشأ علاقة معقدة بين أكثرية وأقلية، ويجري البحث عن طرائق التعامل مع هذا التمايز، لنسج هوية وطنية جامعة. فهل يكون الحل بتذويب الأكثرية للأقليات assimilation، بفرض ثقافتها عليها بقوة القانون، كما جرّبت دول عدة عبر التاريخ. حاولت إسبانيا المسيحية في القرن الخامس عشر الميلادي تذويب بقية المسلمين إثر حروب الاسترداد، وأنشأت محاكم التفتيش لمراقبة تصرفات المسلمين وكذلك اليهود، ومحاكمة ضمائرهم، وفرض التنصير عليهم. فكان التهجير، وكذلك إخفاء الأقلية المسلمة لعقيدتها لقرون، ولم تندثر. وتحاول الصين في السنوات الأخيرة، تذويب الأقلية الإسلامية في الجزء الصيني من تركستان (الإيغور)، وهي أقامت أحد أكبر معسكرات الاعتقال في العالم، على أساس عرقي، لتغيير ثقافة المسلمين بالقوة، وجعلهم صينيين حقيقيين بالمعنى الثقافي والسياسي. ولن تنجح. وتواجه الدول الغربية المستوردة للمهاجرين من أنحاء العالم، مشكلة دمج المهاجرين ذوي الأعراق والثقافات المختلفة في نسيج المجتمع الأكثري. وتختلف المقاربات، وتتنوع النظريات. من الاستيعاب الشامل، كما تنشط فرنسا في فرض القيم العلمانية على مسلميها، وهي فشلت سابقاً، وستظل تفشل. أو الاستيعاب المرن، كما تفعله بريطانيا من خلال التعامل الأسلس مع مسلميها، كما مع بقية الأعراق، حتى وصل غير البريطانيين وغير المسيحيين إلى المواقع التنفيذية الأولى في الدولة، مثل رئيس حكومة بريطانيا الحالي، الهندي الأصل ريشي سوناك Rishi Sunak، وحمزة يوسف، الباكستاني الأصل، رئيساً لحكومة اسكتلندا.
تحدّي التعايش..
هذا حين نتحدث عن التعايش بين أكثرية كبيرة وأقلية صغيرة، فكيف يكون التعايش بين طوائف متقاربة في الحجم، ومتوازية في التأسيس التاريخي للدولة، كما هو حال لبنان، وهي عوامل أشد تعقيداً، تجعل من الصعوبة بمكان، تجاوز طائفة على أخرى، أو فرض نمط طائفة على بقية الطوائف، أو ادعاء الأسبقية أو الأرجحية أو التفوق العنصري لأي طائفة. وبالمقابل، فإن كسر العيش المشترك سياسياً وإعلامياً ونفسياً، والتحريض السافر على قيم الآخرين، تحت أي ذريعة، هو أفضل وصفة لحرب أهلية جديدة. ليس لأن اللبنانيين غير قادرين على العيش معاً، وقد أفاض المرجع الدستوري الدكتور أنطوان مسرة في دراسة له عام 1988، أي قبل عام كامل من عقد اتفاق الطائف، بعنوان: تحدّي التعايشThe Challenge of Coexistence في سرد وقائع صمود العيش المشترك اللبناني في أحرج الأوقات خلال الحرب الأهلية وما تخلّلها من فظائع، معتبراً أن أي نظام تظهر قوته، كما نقاط ضعفه إبان الأزمات؛ بل لأن أحزابهم السياسية تمتهن الشعبوية المدمرة، في بلد منهك لم يعد يحتمل تجاوزات السياسيين فيه، وقد أهدروا موارده، وأفسدوا شعبه، وهدموا الهيكل على رؤوس الجميع، وما زالوا يتلكأون في مصارحة “زبائنهم” من الأنصار والأتباع أن “البقرة الحلوب”/الدولة قد جفّ ضرعها، ولا بد من مواجهة الواقع كما هو؛ فلم تعد الدولة قادرة على دفع الرواتب/الإعاشات، لهذا الفائض غير المقبول من الموظفين. ولم يعد مستساغاً، الاستمرار في جعل رئاسة الجمهورية عُقدة العُقد. من أجلها تخاض الحروب، وفي سبيلها تُعطّل الحياة السياسية والدستورية، وعلى مذبحها، يُذبح العيش ويُقتل الأمل!
إقرأ أيضاً: “بيت بمنازل كثيرة”.. كيف يتّفق اللبنانيّون على اختلافهم؟
لكن وبغض النظر عن سيناريوهات لبنان الصغير الجديد بعد القضاء تماماً على كل مقومات لبنان الكبير الحالي، وهو نتاج انهيار الليرة تحديداً، التي كانت الرمز الجامع للبنانيين خلال الحرب خاصة، فإنه ثمة مفهوم مفتاحي لا يمكن تجازوه، مهما كانت حواصل الأفكار والطروحات والمشاريع، وهو التعايش، أو العيش المشترك. فلا مفرّ منه، فيما لو بقينا دولة مركزية موحدة، أو دولة لامركزية، أو فدرالية، أو حتى كونفدرالية. فلن تكون دويلة صافية لأحد، وستبقى التداخلات والتدخلات بين الكانتونات المتجاورة، وفيها أقليات جديدة من بقية الطوائف.
لمتابعة الكاتب على تويتر: HishamAlaywan64@