في عام 2004 كنتُ أعمل مع الدكتور أحمد زويل على إعداد كتابه الشهير “عصر العلم”، وهو الكتاب الذي تشرّفتُ بتحريره وتقديمه، وكتبَ مقدّمته الأستاذ نجيب محفوظ. وهو العمل الذي يضمّ نجمين حائزين جائزة نوبل.
الطريق إلى الخرطوم
قال لي الدكتور زويل: عليك أن تستعدّ للسفر معي إلى السودان، حيث سألقي محاضرة، وأزور بعض المؤسّسات، وسوف نلتقي الرئيس وكبار المسؤولين.
وصلنا مطار الخرطوم الدولي في نهارٍ مشرق كان فيه الجوّ نموذجيّاً، وكان الاستقبال حافلاً وعدد من الوزراء وفريق من الأطفال ينتظرون بالورود، بينما مُدّت السجّادة الحمراء من باب الطائرة إلى قاعة كبار الزوّار، ولا يقطع المشهد العامّ سوى زحام الكاميرات التي جاءت لتصوير زيارة العالِم الكبير لذلك البلد الرائع.
في فندق هيلتون الخرطوم كان مُقامنا، وهناك توافد رجال الدولة على مدار الساعة، وكانت الحوارات تدور في كلّ شيء تقريباً، وسط حفاوة دافئة وصادقة، أعطت لتلك الزيارة مكانتها الخاصة في الذاكرة.
كان المطبخ السوداني، وفي مقدّمه “العصيدة”، شهيّاً للغاية، لكنّ البامية المطحونة “الويكا” التي لطالما تصدّرت مائدة الفندق كانت الأفضل، فالدكتور زويل يعرفها من دمنهور، وأنا أعرفها من بسيون، لكنّها كانت أفضل إعداداً في السودان. وكنّا نطالب بها إذا ما غابت في غداءٍ أو عشاء.
قال لنا الرئيس البشير إنّ السودان يجري الإعداد من أجل تقسيمه، وسوف يتمّ تقسيمه بالفعل
تحالف عديمي الموهبة
قال لي الدكتور زويل: إنّني مندهش من حجم اتّساع النخبة المثقّفة السودانية، وفي كلّ لقاء يُذهلني هذا الاطّلاع، وهذا المستوى من القراءة، ثمّ هذا الوقوف على جوانب عديدة من الثقافة الغربية والإسلامية معاً.
لقد كانت ملاحظة الدكتور زويل دقيقة تماماً، ففي الدعوات الرسمية وغير الرسمية كان يوجد باستمرار عدد لافت من المثقّفين. وكانت دهشتنا: كيف لبلدٍ يمتلك هذا الحجم من المثقّفين الموسوعيين والأكاديميين المهمّين ألّا يكون بالمستوى المناسب؟ لماذا لم يصبح السودان متقدّماً بينما الطليعة السودانية تعادل مثيلاتها في بلاد العالم المتقدّم؟!
لقد استطاع تحالف عديمي الموهبة في السودان الوصول إلى السلطة، وإقامة سياج حديدي بينها وبين الموهوبين، ثمّ سارت من بعد ذلك آليّة ذاتية للتخلّف، حيث تمضي آليّة تدوير القمامة بلا توقّف، بينما يقف العلماء والخبراء وأصحاب العقل والرأي خارج المشهد. وإذا ما حاول الفريق الثاني الضغط لأجل الإصلاح والتقدّم، سرعان ما جرى اتّهامه بتعطيل المسيرة وشقّ عصا الطاعة.
لا يمكن القول بأنّ الصراع بين النخبة الحقيقية والنخبة المزيّفة، أو بين مشروع أصحاب المعرفة وبين تحالف عديمي الموهبة، هو أمرٌ يخصّ السودان وحده. ولكنّه ربّما كان حاصلاً في السودان أكثر من غيره.
مصر التي نحبّها
التقينا، الدكتور زويل وأنا، الرئيس عمر البشير في قصر الرئاسة بالخرطوم. لم يحضر السفير المصري الذي قيل لنا إنّه كان يعالج أسنانه في القاهرة، فيما قال لنا أحد الدبلوماسيين إنّ الرئيس عمر البشير لا يحبُّه، ومع ذلك أصرّت القاهرة على بقائه، وهو موجود رسمياً لكنّه تقريباً لا يفعل شيئاً نتيجة عدم تعاون السلطات السودانية معه.
لا أعرف ما إذا كان ما يعانيه السفير المصري بسبب أسنانه يستحقّ حقّاً السفر إلى مصر لأجل علاجها، بينما كانت الأوضاع تزداد تدهوراً في دارفور وجنوب السودان الذي انفصل لاحقاً أم لا؟
في قاعة الصداقة بالخرطوم حيث ألقى الدكتور زويل محاضرة تاريخية حضرها آلاف السودانيين، قال له أحدهم: يا دكتور زويل، إنّنا غاضبون من بعض ما يأتينا من القاهرة، لذلك نحن سعداء جداً بزيارتك، لأنّك تمثِّل مصر التي نحبّها، والقاهرة التي نتمنّاها.
الرئيس.. يؤكّد “مؤامرة” التقسيم
في الطريق إلى قصر الرئاسة كان اتّساع النيل وموجات الطمي جديداً وجذّاباً. استقبلنا الرئيس عمر البشير في مدخل مكتبه مرحِّباً. جلسنا قرابة ثلاث ساعات. ودار الحديث في العلم والسياسة، في العالم العربي والعالم الغربي. وكان في اللقاء عدد من الوزراء والوجهاء الذين حوّلوا اللقاء إلى ندوة مصغّرة في مكتب الرئيس.
كان الرئيس البشير في صحّةٍ جيّدة حين التقيناه، وكان يقظاً للغاية، كما كان يدلي برأيه في معظم الأمور. إنّ أكثر ما صدمني في حديث الرئيس هو عدم تفاؤله، وتمكّن اليأس من عقله.
الرئيس يؤمن تماماً بنظريّة المؤامرة، لكنّ المدهش في حالة الرئيس البشير ليس إيمانه بالمؤامرة، لكنّ إيمانه بنجاح المؤامرة الحتمي، وعدم إمكانية فعل أيّ شيء في مواجهتها.
لقد تحدّث معنا كأنّه محلّل سياسي أو كاتب صحافي، وليس رئيس الدولة والقائد الأعلى للجيش. فهو يشرح وكأنّه يتحدّث عن بلدٍ آخر لا يعنيه، ويقول إنّ هذا البلد يواجه مؤامرات عديدة، وسوف تنجح جميعها، والمصير سيكون مأساويّاً لا محالة!
قال لنا الرئيس البشير إنّ السودان يجري الإعداد من أجل تقسيمه، وسوف يتمّ تقسيمه بالفعل. ولمّا سألته عمّا إذا كان يقصد التقسيم المقترح إلى شمال وجنوب، قال: لا.. ليس هذا فقط، سيتمّ التقسيم بعد ذلك إلى شرق وغرب، إلى دولة في دارفور غرباً، ودولة في كسلا شرقاً، ثمّ دولة في الشمال النوبي. أمّا نحن في الخرطوم فسوف نكون دولة عربية في الوسط النيلي تحيط بنا عدّة دول: الدولة النوبية ودول شرق وغرب وجنوب السودان.
كان الدكتور زويل مذهولاً ممّا يسمع، وقال له: سيادة الرئيس أنت تتحدّث عن خمس دول في السودان. قال: نعم.. إنّهم يعملون على ذلك، وسوف ينجحون في ذلك. هذه خطّتهم وهم ماضون في تطبيقها، خطوة وراء أخرى. وأولى الخطوات ستكون قريباً من خلال تأسيس دولة جنوب السودان.
من الخلافة إلى الدويلة
لقد بدأ الرئيس البشير حكمه عام 1989 وبقي حتى عام 2019، وكان في أعوامه الثلاثين يتحدّث عن الدولة الإسلامية، وتتحدّث جماعته عن الخلافة الإسلامية.
كان البشير يتحدّث في التسعينيات عن دولة الخلافة الكبرى التي تنطلق من السودان. كما كان ذلك جزءاً من نقاش دار مع أسامة بن لادن في أثناء إقامته في السودان. وكان موجز المشروع الإخواني السوداني في عهد البشير – الترابي هو: دولة إسلامية كبرى يقودها السودان الإسلامي.
لكنّ حلم الخلافة سرعان ما اختفى، ثمّ اختفى وراءه حلم الدولة، ثمّ ها هو الرئيس يتحدّث عن الدويلة، أو دويلات السودان. وهكذا هبط الخطاب من خلافة تخطّط لحكم خمسين دولة إلى دولة تنقسم إلى خمس دويلات.
حلم الخلافة سرعان ما اختفى، ثمّ اختفى وراءه حلم الدولة، ثمّ ها هو الرئيس يتحدّث عن الدويلة، أو دويلات السودان
ثروة الرئيس الزاهد
كان الرئيس البشير يهتف واصفاً سلطته بالنزاهة والزهد، وأنّها ليست لمالٍ أو سلطان، ولطالما كان يصرخ في الحشود: “هي لله.. هي لله. لا للسلطة ولا للجاه”. كما كان يردّد: “نحن دولة المشروع الإسلامي”، “لم ينقطع يوماً دعمنا للحركات الإسلامية”.
لم يكن شعار البشير “هي لله.. هي لله” صادقاً، بل كانت حياته للسلطة، وكانت للجاه. ولمّا غادر البشير السلطة كشفت السلطات عن الحساب رقم 2616 في بنك أمّ درمان الوطني، الذي كان الرئيس يتقاضى عبره 20 مليون دولار شهرياً كنفقات شخصية، ثمّ تمّ العثور على نحو 30 مليون دولار نقداً بمنزل يتبع للرئيس. وحسب لجنة مكافحة الفساد الحكومية، فإنّ إجمالي ثروة الرئيس البشير قد وصل إلى 4 مليارات دولار، وقد قامت اللجنة باسترداد العديد من الشركات والعقارات والمزارع والفنادق والمراكز التجارية في العاصمة الخرطوم والمدن السودانية الأخرى.
لغز السيّد الرئيس
كان الرئيس عمر البشير من أقلّ الشخصيات السودانية التي التقيناها ثقافة وأدناها معرفة. ومع ذلك كان هو رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء لـ28 عاماً، ولم يترك رئاسة الحكومة إلّا في عام 2017 فقط.
استمرّ البشير في مناصبه الشاملة على الرغم من أنّه كان مطلوباً أمام المحكمة الجنائية الدولية خلال ثلث مدّة رئاسته للبلاد، فالبشير الذي تولّى السلطة عام 1989، صدرت مذكّرة اعتقال بشأنه عام 2009، وظلّ مطلوباً عشر سنوات كاملة حتى 2019 كان يجمع فيها المال ويتحصّن بالسلطة خشية المغادرة من القصر إلى السجن.
إنّ قوّة الرئيس البشير تبدو بالنسبة لي لغزاً كبيراً، إذ كيف تمكّن ضابط بعثي سوداني موالٍ لحزب البعث العراقي من تغيير انتمائه السياسي في لحظة واحدة من البعث إلى الإخوان؟ ثمّ كيف استطاع البشير مواجهة محاولة الانقلاب عام 1990 التي قادها الفريق خالد الزين نمر، وعدد من كبار القادة، على الرغم من أنّه كان بلا شعبية عسكرية أو مدنية؟ ثمّ كيف صمد في السلطة عشرين عاماً بعد الخلاف الذي دبّ بينه وبين الترابي بعد عشرة أعوام من الانقلاب في 1999؟ ثمّ كيف صمد عشر سنوات أخرى على الرغم من مذكّرة الاعتقال الدولية ومن دون أن يتحرّك أحد لمواجهته أو يتمكّن أحد من الإطاحة به؟
كان السودان سيّئ الحظ بوصول عمر البشير إلى السلطة، ثمّ كان أسوأ حظّاً ببقائه ثلاثة عقود كاملة، فهل يواصل سوء الحظ بتمدّد الظلام من التطرّف إلى الفوضى؟
إقرأ أيضاً: السودان وسويسرا.. لماذا يفشل العرب وينجح الآخرون؟
ثمّة ما يبعث على الإحباط في المشهد السوداني المؤلم، لكنّ الشعب الذي قال للبشير: “لا”، يمكنه أن يقول للفوضى: “لا”.
لا ضوء يصل إلى وسط النفق، لكنّ الضوء ينتظر على مقربة من الظلام، ويمكن للسودان أن يشرق من جديد.
السودان يستطيع.
* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور.
له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.
لمتابعة الكاتب على تويتر: Almoslemani@