منذ زيارة رئيس تيّار المردة سليمان فرنجية باريس نهاية آذار الماضي والجدال لم يتوقّف بشأن ترشّحه لرئاسة الجمهورية والمواقف الخارجية والداخلية من هذا الترشّح واحتمالاته، لدرجة أنّ أزمة الرئاسة بدت وكأنّها التعبير الوحيد عن أزمة لبنان. كما لو أنّ هناك علاقة سببيّة بين الأزمتين، فإذا حُلّت الأولى حُلّت الثانية تلقائياً.
دائرة مغلقة
أزمة الرئاسة مهمّة، وهي الآن أوضح مثال عن الأزمة السياسية العميقة التي يعيشها البلد منذ سنوات. وانتخاب رئيس سيحمل معه انفراجات معيّنة على مستوى البلد ككلّ. لكنّ الأشكال التي يأخذها الصراع السياسي حول رئاسة الجمهورية والخطابات المتقابلة بشأنها ستجعل أزمة الرئاسة تدور في دائرة منفصلة إلى هذا الحدّ أو ذاك عن أزمة البلاد الشاملة والعميقة التي لا تكمن معالجاتها كلّها بمجرّد انتخاب رئيس جديد. لا بل إنّ طبيعة المعركة الرئاسية تعزّز اليقين في أنّ الأزمة الرئاسية أصبحت التعبير الأهمّ عن انسداد أفق التغيير الحقيقي في لبنان في المدى المنظور.
منذ زيارة رئيس تيّار المردة سليمان فرنجية باريس نهاية آذار الماضي والجدال لم يتوقّف بشأن ترشّحه لرئاسة الجمهورية والمواقف الخارجية والداخلية من هذا الترشّح واحتمالاته
نقائض التغيير
المقصود أنّ سياقات المعركة الرئاسية تأتي كلّها على نقيض السياقات المتوقّعة لمسار التغيير الذي يُفترض أنّه بدأ في 17 تشرين 2019، أي أنّ كلّ تفاصيل السباق الرئاسي تؤكّد حتّى الآن أنّ انتخاب رئيس للجمهورية لن يكون محطّة مفصليّة إيجابية في مسار التغيير السياسي والاقتصادي-الاجتماعي في البلد، بل على العكس سيكون عودة إلى الوراء، أي إلى مرحلة “ما قبل التغيير”.
ما يدفع إلى هذا الكلام هو جريان المعركة الرئاسية في دائرة سياسية مقفلة، أي بين الأفرقاء السياسيين الذي تسبّبوا تاريخياً بالأزمة، أو بالحدّ الأدنى كانوا شهوداً سلبيّين عليها ووظّفوها لمصلحتهم. تماماً كما أنّ الأزمة الرئاسية تشكّل الآن فرصة للقوى السياسية لكي تعيد إنتاج مواقعها على خريطة موازين القوى المتأرجحة.
غياب “الجمهور”
بمعنى آخر، فإنّ الجمهور أو الرأي العامّ أو المجتمع غائبون عن هذه المعركة وكأنّهم سلّموا أمرهم في الاستحقاق الرئاسي للقوى السياسية، أو بالأحرى استطاعت هذه القوى أن تستغلّ غياب أيّ رأي عامّ ضاغط في المعركة الرئاسية لتبني خياراتها فيها على قياس مصالحها، وإن حاول كلّ منها أن يصوّر مصالحه كما لو أنّها مصلحة البلاد بأسرها.
هنا يكمن العطب الحقيقي في أزمة رئاسة الجمهورية، فهي تتيح للقوى السياسية أن تقدّم نفسها على أنّها تمثّل مصالح المجتمع وتحمل خيارات حقيقية للتغيير، بينما هي في الواقع تحولُ دونه. وقبل ذلك وبعده لا يمكن إغفال أنّ سياساتها وخياراتها ومصالحها أدّت إلى الانهيار الحاصل.
والحال فإنّ معضلة الأزمة الرئاسية ليست في تقدّم حظوظ سليمان فرنجية، وهو السياسي الذي دخل النادي السياسي في مطلع التسعينيات بعدما ورث السياسة عن عائلته، بل إنّ معضلتها الأبرز تكمن في أنّه لا يمكن انتخاب رئيس للجمهورية من خارج هذا النادي. هذا إن لم يكن من المستحيل انتخاب رئيس لم يرث السياسة عن عائلته. وإن كانت هذه الوراثة لا تشكّل بذاتها “عيباً سياسيّاً” فهي في لبنان أحد تعبيرات “استمرار القديم على قدمه”.
سويّة واحدة
إذّاك يستوي الحزب ومعارضوه داخل النادي السياسي في سويّة واحدة. إذ إنّ كليهما يخوضان المعركة الرئاسية كما لو أنّها تجري قبل وقوع الأزمة الاقتصادية. فهما يخوضانها بأسلوب وخطاب وأشخاص يعبّرون عن رسوخ الماضي في الحياة السياسية.
لا يعني ذلك التخفيف من وطأة مشكلة الحزب ووقعها على البلد وعدم انحصارها في الهيمنة على قرارات الدولة المنهارة، إذ تتمثّل أيضاً في أنّ مصالح الحزب الاستراتيجية تقف حائلاً دون التغيير السياسي والاقتصادي-الاجتماعي، أو تفرض تغييراً على قياس هذه المصالح لا بحسب المصالح العميقة للمجتمع. والأخطر أنّ الحزب مستعدٌّ لاستخدام القوّة دفاعاً عن مصالحه تلك، وهو ما ظهر في تعاطيه مع انتفاضة 17 تشرين عند إظهارها استعداداً شعبياً للانقلاب على منظومة الحكم.
أزمة الرئاسة مهمّة، وهي الآن أوضح مثال عن الأزمة السياسية العميقة التي يعيشها البلد منذ سنوات. وانتخاب رئيس سيحمل معه انفراجات معيّنة على مستوى البلد ككلّ
في المقابل فإنّ القوى السياسية المعارضة للحزب مطمئنّة لمعارضتها له كما لو أنّ هذه المعارضة كافيةٌ لوحدها لاستحصال هذه القوى على شرعية سياسية حقيقية. وكأنّ وقوفها بوجه الحزب هو نهائية سياسية لا حاجة معها إلى أيّ جهدٍ “نوعيّ” لإنقاذ لبنان من وضعه الحالي، وكما لو أنّ معالجة مشكلة حزب الله كافية لوحدها لمعالجة مشكلات البلد العميقة والبنيوية.
مشكلة مزدوجة
لذلك ليس مستغرباً أن تكون كيفية طرح مشكلة الحزب والحلول المقترحة لمعالجتها قد أصبحت مشكلة بحدّ ذاتها، من دون أن تعبّر عن حلّ واقعي وإيجابي لمشكلة الحزب نفسها. ويمكننا الإحالة هنا إلى مقترحات “تعديل الصيغة” والفدرالية… إلخ، وإن كان الخلل في هذه المقترحات لا يلغي المشكلة الأساسية، أي مشكلة الحزب.
العطب الرئيسي هنا هو في منطلقات “معارضات” الحزب على أنواعها. بحيث إنّ هذه المنطلقات تستند إلى حركة موازين القوى الطائفية في البلد، لا إلى العوائق التي تمثّلها مشكلة الحزب أمام التغيير السياسي الذي لا يمكن تحقيقه في ظلّ القواعد الحالية للّعبة السياسية، أي القواعد الطائفية التي أضاف إليها الحزب بعداً أمنيّاً وعسكرياً غير مسبوق في تاريخ لبنان، باعتبار أنّ سلاح الحزب أصبح عاملاً دائماً لا ظرفياً في المشهد السياسي.
التئام الحزب ومعارضيه
والحال فإنّ المعركة الرئاسية تخلو تماماً من سردية سياسية تغييرية متماسكة في مقابل سردية الحزب. أي أنّ معارضة مرشّح الحزب سليمان فرنجية لا تستند إلى مشروعٍ رئاسي يأخذ بالأسباب التاريخية للأزمة اللبنانية ويقيم الدلائل على حؤول الحزب دون معالجتها. لأنّ هذه القوى المعارضة نفسها لا تسعى إلى التغيير أصلاً، وبالتالي تحول هي الأخرى دونه. وبذلك يلتئم الحزب ومعارضوه ضمن “النادي السياسي” على منع التغيير الحقيقي. فيغدو بذلك الفرق بين مرشّح وآخر لرئاسة الجمهورية فرقاً “عرضياً”، لأنّ الأزمة ليست في شخص الرئيس بمقدار ما هي في هبوط معايير الممارسة السياسية، وفي عدم القدرة على خرق النادي السياسي وتعديل قواعد اللعبة. أي في بقاء المجتمع خارج دائرة التأثير السياسي الإيجابي، وفي عدم فهمه لمصالحه الحقيقية كما في قدرة القوى المهيمنة على خلق انحرافات في هذا الفهم أو خلق فهمٍ موازٍ ومغلوط.
“ترند” الإصلاح
ليس قليل الدلالة في هذا السياق أن يتحوّل عنوان الإصلاح، الذي يشكّل عنوان المرحلة الجديدة أو “الترند”، إلى عنوان خارجي بحت، باعتبار أنّ فرنسا تقدّم نفسها ضامنةً لـ”الإصلاح” في العهد الجديد نيابة عن أطراف الحكم. أي أنّ الإصلاح بمعناه الواسع لا يعبرُ في أيّ قنوات سياسية واجتماعية داخلية.
إقرأ أيضاً: سليمان فرنجيّة رئيساً.. “عضّة كوساية”
لذلك يشبه عنوان الإصلاح من حيث أسلوب فرضه من فوق، عنوان “الانصهار الوطني” الذي شكّل “الترند” في مرحلة ما بعد اتفاق الطائف وفُرضَ من فوق أيضاً من قبل نظام الوصاية السورية. فكانت النتيجة أنّ الانصهار الوطني بنسخته السورية – اللبنانية أدّى إلى استبعاد أيّ إمكانية لإعادة بناء نمط علاقات جديد بين المجموعات والأفراد الخارجين من الحرب. تماماً كما أنّ طرح عنوان الإصلاح الآن سيؤدّي إلى تأجيل أيّ إصلاح حقيقي في النظام السياسي – الاقتصادي – الاجتماعي، وساعتئذٍ يضيع الفرق بين الموالاة والمعارضة حتّى يكاد يصبح معدوماً!