تعطي الطريقة التي أجاب بها وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان عن أسئلة الصحافيين، في المؤتمر الذي عقده في مقرّ سفارة “الجمهوريّة الإسلاميّة”، فكرة عن دور “الساحة” المحجوز للبنان عند قائد فريق “الممانعة”. المعنيّ بقائد فريق “الممانعة” “مرشد” الجمهوريّة في إيران علي خامنئي. كذلك تعطي تلك الطريقة التي اعتمدها عبد اللهيان في التعاطي مع الأسئلة التي وُجّهت إليه فكرة عن وجود اللبنانيين، في معظمهم طبعاً، في عالم آخر لا علاقة له بما يدور في المنطقة والعالم. هؤلاء اللبنانيون أسرى همومهم الصغيرة التي جعلتهم في مرحلة معيّنة، في عهد سليمان فرنجيّة الجدّ، يصدّقون رواية كاذبة ومضحكة في آن عن عرض أميركي يتضمّن تهجير المسيحيين كي يجري توطين الفلسطينيين مكانهم!
ما هي رسالة عبد اللهيان؟
كان مفترضاً باللبنانيين، جميع اللبنانيين، فهم الرسالة التي يحملها وزير الخارجية الإيراني الذي لم يعطِ أيّ جواب جدّيّ عن أيّ سؤال طُرح عليه. عندما كانت الحاجة إلى إيضاحات تتعلّق بالموقف الإيراني من رئاسة الجمهوريّة وغير ذلك، كان عبد اللهيان يتفادى الردّ، بل يجد طريقة ليقول كلاماً عامّاً يحمل كلّ التفسيرات المحتملة والممكنة إرضاء لكلّ الأذواق والتوجّهات…
كان وزير الخارجيّة الإيراني يتصرّف، في معظم الأحيان، بطريقة أبويّة وحنونة توحي بأنّ “الجمهوريّة الإسلاميّة” مجرّد متفرّج في لبنان، بل جمعيّة خيريّة، لا علاقة لها بالكارثة التي حلّت به. إنّها كارثة بدأت بالاستثمار السخيّ والمستمرّ، قبل ما يزيد على أربعين عاماً، في ميليشيا مذهبيّة بغرض تغيير طبيعة الطائفة الشيعية في لبنان وصولاً إلى تغيير طبيعة المجتمع كلّه. أليس إفقار لبنان، في ضوء انهيار النظام المصرفي، تغييراً لطبيعة لبنان كلّه وليس لمجتمعه بمكوّناته المختلفة فقط؟
ليس انتخاب رئيس للجمهوريّة همّاً إيرانياً. لا فارق عند “الجمهوريّة الإسلاميّة” بين انتخاب سليمان فرنجيّة، مرشّح الثنائي الشيعي، رئيساً للجمهوريّة من جهة، واستمرار الفراغ من جهة أخرى
يبقى أهمّ ما في زيارة عبد اللهيان للبنان، قبل أيّام قليلة من وصول الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى دمشق لجرد الديون المترتّبة على سوريا تجاه إيران، جولته في الجنوب. شملت الجولة توقّفاً في مارون الرأس حيث تمثال لقاسم سليماني الذي يرمز إلى رغبة في مواجهة إسرائيل. عند تلك النقطة، ساهم الوزير الإيراني في زرع شجرة زيتون، بما يشير إلى أنّ قرار السلم والحرب، انطلاقاً من جنوب لبنان، قرار إيراني لا أكثر ولا أقلّ. نسي عبد اللهيان، ربّما، تذكير اللبنانيين بأنّ الضوء الأخضر في شأن ترسيم الحدود البحريّة مع إسرائيل كان قراراً إيرانياً، وأنّ إيران لم تقبض بعد ثمن هذا الضوء الأخضر، الذي سمح لإسرائيل باستغلال النفط والغاز في حقل كاريش، في وقت كان عهد ميشال عون – جبران باسيل، أي “عهد حزب الله”، يشرف على نهايته.
ليس انتخاب رئيس للجمهوريّة همّاً إيرانياً. لا فارق عند “الجمهوريّة الإسلاميّة” بين انتخاب سليمان فرنجيّة، مرشّح الثنائي الشيعي، رئيساً للجمهوريّة من جهة، واستمرار الفراغ من جهة أخرى.
بكلام أوضح، جاء وزير الخارجية الإيراني إلى لبنان في سياق عملية تجميع أوراق تمارسها “الجمهوريّة الإسلاميّة” التي يأتي رئيسها إلى دمشق ليقول لكلّ من يعنيه الأمر إنّ النظام السوري في الجيب الإيرانيّ، خصوصاً في ضوء التراجع الروسي. وجد فلاديمير بوتين نفسه مضطرّاً في الأسابيع القليلة الماضية إلى البحث عن مجنّدين سوريين يحلّون في مواقع يشغلها العسكريون الروس الذين اضطرّ إلى نقلهم إلى أوكرانيا… حيث يواجه الرئيس الروسي وجيشه في بخموت معركة صعبة إلى أبعد حدود.
ميشال عون وصهره
في وقت تتغيّر فيه المنطقة والعالم، وفيما إيران تبحث عن تكريس وجودها في لبنان وسوريا… وفي وقت سيتبيّن فيه مدى جدّية المصالحة السعوديّة – الإيرانيّة التي رعتها الصين، يبحث ميشال عون وجبران باسيل عن إثبات وجود لتيّارهما في جزّين. لا يدركان أنّ جزّين لفظتهما منذ فترة طويلة وليس لهما مكان فيها مهما حاولا استيراد جماهير لملء المقاعد في الكنيسة التي خطب فيها رئيس الجمهوريّة السابق وصهره لإثبات أنّهما الأقوى.
في ظلّ الهموم اللبنانيّة الصغيرة، وهي هموم جعلت معظم اللبنانيين عاجزين عن فهم لماذا جاء حسين أمير عبداللهيان إلى بيروت في هذا التوقيت بالذات، فات هؤلاء أنّ مصير بلدهم في مهبّ الريح. فات هؤلاء، خصوصاً، أنّ الوقت ليس وقت المناكفات الصغيرة التي لا فائدة تُذكر منها بمقدار ما تعبّر عن غياب أيّ شعور بالمسؤولية أو وعي سياسي في الحدّ الأدنى للوعي.
إقرأ أيضاً: حِجاب السفارة.. رؤوسكم ملكٌ لي!
جاء البيان الصادر عن وزارة الخارجية الأميركية لمناسبة مرور ستّة أشهر على انتهاء ولاية ميشال عون ليذكّر الجميع بأنّ الولايات المتحدة يائسة من الوضع اللبناني ومن قدرة اللبنانيين على أخذ أمورهم بيدهم. لكنّ البيان الأميركي بمنزلة تذكير أيضاً بأنّ البلد لا يزال تحت الرادار الأميركي، وأنّ واشنطن غير راضية عن التوجّه الفرنسي في ما يخصّ لبنان… أي أنّها غير راضية عن الرضوخ لما تريده إيران في لبنان. ليس معروفاً إلى أيّ مدى ستكون مفيدةً الرسالةُ الأميركيّة المتمثّلة في بيان وزارة الخارجية الرافض لانتخاب “رئيس فاسد” في لبنان. المعروف، في المقابل، أنّ زيارة وزير الخارجيّة الإيراني تطرح سؤالاً في غاية الأهمّية: هل يستطيع لبنان الخروج يوماً من الهيمنة الإيرانيّة أم لا؟
يبقى الباقي كلّه تفاصيل باستثناء بداية ظهور وعي لبناني لكون البلد تحوّل مجرّد “ساحة” عند “المرشد” الإيراني ولا شيء آخر غير ذلك. يحصل ذلك في وقت تبدو فيه “الجمهوريّة الإسلاميّة” مستعدّة أكثر من أيّ وقت لعصر لبنان ورميه مثلما عصرت ميشال عون وجبران باسيل ورمتهما في ماضٍ قريب جدّاً.
لمتابعة الكاتب على تويتر: khairallahkhai5@