لو أُجري استطلاع للرأي بين الفلسطينيين عنوانه “ما هي أكثر مفردة يتداولها أهل الضفة الغربية، بما في ذلك القدس؟”، لحازت مفردة “محسوم” المرتبة الأولى.
فما هو معنى الكلمة؟ ولماذا يتمّ تداولها بهذا القدر؟
“محسوم” هي المفردة الشعبية التي أطلقها الفلسطينيون على الحاجز العسكري الذي يتعيّن على كلّ فلسطيني المرور عبره إذا ما احتاج إلى الانتقال من القرية إلى المدينة، ومن المدينة إلى مدينة أخرى. وأمّا إذا احتاج إلى الانتقال من أيّ مكان في الضفة إلى أيّ مكان في إسرائيل فلا مناصّ من المرور عبره في الذهاب والإياب.
لو أُجري استطلاع للرأي بين الفلسطينيين عنوانه “ما هي أكثر مفردة يتداولها أهل الضفة الغربية، بما في ذلك القدس؟”، لحازت مفردة “محسوم” المرتبة الأولى
وظيفة “المحسوم” تتجاوز روتين التحقّق من بطاقات الهويّة الخضراء، والتأكّد من أنّ حامل الهويّة ليس من ضمن القوائم المسجّل عليها المطلوبون، فتلك وظيفة تعوّد عليها الفلسطينيون حتى صارت جزءاً من حياتهم اليومية.
وظيفة أو وظائف “المحسوم” كثيرة، ومنها توفير تسلية للجنود لطرد الملل الذي يعتريهم جرّاء الوقوف ساعات طويلة عنده، فتراهم يتضاحكون ويلتقطون الصور حين يبلغ طابور السيارات عدّة كيلومترات، ويا ويله وطول ليله من يضغط على زمّور السيّارة لعلّ الجنود يسمحون له بالمرور، فعقوبة الزمّور شديدة القسوة لأنّ إطلاق صوته يقع تحت طائلة الاحتجاج الممنوع الذي يزعج الجنود ويحرّض على الضوضاء. ولأنّهم لا يتمكّنون من معرفة الفاعل تكون معاقبة الجميع بتأخير السماح بالمرور هي الأسهل والأفعل، وهي توفّر للجنود، إضافة إلى ذلك، متعة رؤية طابور السيارات وقد زاد طوله عدّة كيلومترات إضافية!
الإهانة والإذعان..
“المحسوم” هو الأداة السحرية التي اخترعها الإسرائيليون كي يشعر كلّ فلسطيني وفلسطينية بأنّهم واقعون شخصياً تحت الاحتلال. وحين يستبدّ الضجر بالجنود جرّاء رتابة المهمّة، يلجأون إلى تسلية إضافية اخترعوها، فيختارون شبّاناً في مقتبل العمر ويأمرونهم بالنزول من السيّارات والتوجّه إلى الرصيف وجلوس القرفصاء ووضع اليدين على الرأس كعلامة إذعان واستسلام. وبعد أن يكون آلاف الركّاب قد شاهدوا هذه الحالة، وأحياناً يكون بينهم من يتعرّفون على أقارب لهم من بين المعاقَبين، يُقال للشبّان: “ساع روخ”، أي “انتهى المشهد وبوسعك أن تغادر”. ولحسن حظّ المعاقَبين أنّ سائقي السيّارات التي أُنزلوا منها اتّفقوا معهم على أن ينتظروهم لتمكينهم من مواصلة السفر إلى مدنهم وقراهم.
لـ”المحسوم” وظائف ومآرب أخرى، فمَن يعرف ما حلّ بالمارّة عبره من عذاب، يفضّل البقاء في داره أو قريته أو مدينته. وفي حالة الاضطرار إلى السفر تكون لهذه الحالة طقوس خاصة بها. فمثلاً يكون بحوزة كلّ مواطن يعتزم السفر رقم هاتف سائق الأجرة أو مكتب السفريّات، فيتّصل به ويسأل عن حالة “المحسوم”، كما يُسأل عن حالة الطقس في بلاد أخرى، فإن كانت الحركة ميسّرة ولو بعض الشيء يجازف المتّصل بالسفر، وإن قيل له وضع “المحسوم مأزوم” يلغي السفر حتى لو أدّى ذلك إلى خسارة قوت يومه.
[VIDEO]
لـ”المحسوم” أيضاً مزايا ثقافية وإبداعية، فهو ملهم للشعراء كي يؤلّفوا قصائد عن المعاناة، وملهم للصحافيين للكتابة عن رجل مات على “المحسوم” قبل وصوله إلى المستشفى، وعن امرأة وضعت مولودها في السيّارة، وعن مواطنين استداروا بسيّاراتهم للعودة من حيث أتوا. وأمّا الذين ينامون في السيّارات إلى أن يفرجها الله، فلم يعُد الأمر مغرياً للحديث عنهم بسبب كثرة الحالات.
“محسوم” نيويورك
“محاسيم” الضفّة عسكرية بالتمام والكمال، ومسلّحة ببنادق M16، ومحروسة برشّاش خمسمئة مثبت على مرتفع مطلّ يُستخدم عند الإشارة من الجنود المناوبين.
هذا بعضٌ يسيرٌ من وظائف “المحاسيم” والقائمين عليها. أمّا “محسوم” نيويورك الذي اخترته عنواناً لهذه المقالة فهو من نوع آخر، فلا بدلات كاكية ولا بنادق ولا رشّاشات على مرتفع، بل يرتدي القائمون عليه بدلات من أفخر الماركات مع ربطات عنق من أغلى الحرير، ويقفون على باب مجلس الأمن للتدقيق في هويّات ونوايا الأعضاء للتأكّد من أنّهم لن يثيروا أموراً في مصلحة الفلسطينيين.
إقرأ أيضاً: “الحرس الثوريّ”… الإسرائيليّ
وعلى أبواب الجمعية العامّة للأمم المتحدة يقف آخرون لمنع مندوبي الدول من المشاركة في إحياء يوم النكبة، ولا يُكتفى بهذا القدر، بل يُطلب من المندوبين أن يحتفلوا بعيد استقلال إسرائيل، ويهنّئوا الفلسطينيين على فضائل الاحتلال وتواصل قهرهم وجنازاتهم ونعمة مرورهم عبر “المحاسيم” الممتدّة من قلب الضفّة وغلاف غزّة حتى قلب نيويورك.