تسرّبت أنباء متواترة خلال اليومين الماضيين عن وساطة إقليمية/دولية لطيّ ملفّ الاشتباكات العسكرية الجارية حالياً في السودان:
– صرّح وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بأنّهم يتواصلون مع أطراف متعدّدة من أجل التوصّل إلى وقف دائم لإطلاق النار.
– كذلك قال وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين إنّ بلاده اقترحت استضافة محادثات تجمع بين قائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو قائد قوات الدعم السريع المتمرّدة.
جمهورية مصر العربية تفرّدت بموقف ثابت يدعم الجيش الوطني باعتباره الركيزة الأساسية للمحافظة على الأمن القومي السوداني والمصري معاً
لكن في الأسبوع الثاني من هذه الاشتباكات يبدو أن لا مبادرة يمكنها إيقاف هذه العملية ومنع الجيش من القيام بمهامّه الدستورية المتمثّلة في إنهاء التمرّد وفرض الأمن. فقد بات واضحاً أنّ بعض القوى الدولية، التي تتخفّى خلف العبارات الدبلوماسية فارغة المحتوى، لا تمتلك رؤية واضحة تمكِّن السودانيين من العبور نحو المستقبل. بل وقد استغلّ بعضها هشاشة الفترة الانتقالية للتمدّد على حساب السيادة الوطنية وإضعاف القوى الفاعلة في المشهد السوداني من أجل مصالحهم وأجندتهم. وأبانت التجربة التي أعقبت سقوط النظام السابق أنّ القوى الخارجية المؤثّرة في المشهد السوداني قد ساهمت مساهمة كبيرة في وصول الأمور إلى هذه النقطة الحرجة.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل تستطيع هذه القوى التي تسبّبت في الأزمة أن تكون مدخلاً إلى حلّها؟
نيسان 2019: الإمارات ومصر
لفهم أكثر عمقاً للدور السلبي الذي قامت به القوى الخارجية في السودان نحتاج إلى العودة للوراء قبل سقوط النظام السابق في نيسان من عام 2019.
كان واضحاً وقتها أنّ هناك مشروعاً غربياً تقوده الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا يسعى بقوّة إلى إزاحة نظام الإنقاذ من السلطة. وتولّت الإمارات العربية المتحدة دور الإدارة التنفيذية للتحشيد والتعبئة وتنسيق الأدوار مع بعض القوى السياسية السودانية لإنجاز المهمّة.
بعد سقوط النظام مباشرة طفت إلى السطح الأجندة المتقاطعة بين القوى الغربية وحلفائها الإقليميين في عدد من الملفّات في الشأن السوداني، وفي مقدَّم تلك الملفّات إعادة النظر إلى قوات الدعم السريع والمكوّن العسكري إجمالاً.
فبينما استمرّ الغربيون عموماً، وبريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي خصوصاً، في اعتبار المكوّن العسكري امتداداً للنظام السابق بصورة ما، وحرصوا على تفكيكه وإضعافه وتعظيم دور القوى المدنية، كانت دول الخليج ترى أنّه يمكن توظيف المكوّن العسكري للقيام بالمهمّة التي أُسقط النظام السابق من أجلها، وهي ضمان عدم عودة الإسلاميين للسلطة بأيّ ثمن وتأمين مصالح الدول الخارجية الطامعة في البلاد الغنيّة ذات الموارد المتنوّعة، وفي موانئها التي تشكّل أهمية أمنيّة واستراتيجية، والتوّاقة إلى الاستثمار في التعدين، وخاصة الذهب.
لكنّ جمهورية مصر العربية تفرّدت بموقف ثابت يدعم الجيش الوطني باعتباره الركيزة الأساسية للمحافظة على الأمن القومي السوداني والمصري معاً.
أدّى صراع المحاور المكتوم هذا إلى تشتّت إرادة القوى السودانية التي أُنيط بها تحقيق الانتقال الآمن نحو الانتخابات والحكم المدني، فأصبح كلّ طرف في الداخل من الأطراف المدنية والعسكرية يسعى إلى تنفيذ أجندة حلفائه الخارجيين.
ولمّا كانت هذه الأجندة متقاطعة، فقد تعطّل دولاب الدولة بالكامل طوال الأربع سنوات الماضية، وضعفت فعّالية أداء الجهاز التنفيذي للدولة، وهو ما فتح الباب واسعاً للتدخّلات الخارجية في أدقّ شؤون الحكم بصورة لم يسبق لها مثيل في تاريخ البلاد، وساهم في تضخّم قوات الدعم السريع على حساب الجيش الوطني عبر استغلال تحالفاتها الإقليمية وعلاقاتها الدولية .
المقاربة القائمة على إقصاء القوى الرئيسية في الشارع السوداني ومحاولة تمكين قوى صغيرة مدعومة من الخارج أثبتت أنّها مقاربة كارثية بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى
“استجلاب” الخارج إلى السلطة
ما زاد الطين بلّة هو إقدام رئيس الوزراء السابق دكتور عبدالله حمدوك، بالتنسيق مع السفير البريطاني السابق بالسودان عرفان صديق، على استقدام البعثة الدولية بموجب قرار مجلس الأمن 2524 الذي أعطاها صلاحيات واسعة لهندسة المشهد السياسي وتكريس انفراد قوى الحرّية والتغيير بتشكيل حاضر ومستقبل السودان.
منذ وصوله السودان حرص فولكر بيرتس مبعوث الأمين العام والخبير الأمني بقضايا الشرق الأوسط على استدعاء تجربتَيْه السابقتين في العراق وسوريا لتعميق الانقسام السياسي في البلاد. إذ أدار ظهره لكلّ القوى المؤثّرة في البلاد وآثر العمل مع مجموعة صغيرة من قوى الحرّية والتغيير (المجلس المركزي) التي ضمن لها وحدها تمثيل قوى الثورة والانتقال الديمقراطي، مكرّساً عقلية الإقصاء التي اعتمدت عليها هذه القوى الصغيرة. بل وقام بدور خطير في تعطيل الحوار الوطني الذي انعقدت جلسته اليتيمة بفندق “السلام روتانا” وقاطعته قوى الحرّية والتغيير – المجلس المركزي، فأصرّ على إلغاء مشروع الحوار بالكلّية. وهو ما تسبّب وقتها في أزمة بينه وبين الاتحاد الإفريقي الذي كان يتبنّى رؤية مغايرة ترى أنّ الحلّ يجب أن يكون على يد السودانيين وبصورة شاملة لا تستثني أحداً، باعتبار أنّ ذلك الشمول هو الذي سيعصم البلاد من الوقوع في هاوية الانقسام ثمّ الحرب الأهلية.
بعد تجميد مشروع الحوار تكوّنت “الرباعية الدولية” التي تضمّ الولايات المتحدة الأميركية، بريطانيا، السعودية والإمارات العربية المتحدة، والتي تبنّت رؤية مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة. ومن رحم ذلك التحالف وُلد دستور تسير به نقابة المحامين والاتفاق الإطاري في الخامس من كانون الأول 2022، وهو الذي كان سبباً مباشراً في إشعال الحرب الدائرة الآن. إذ هدّد قادة الحرّية والتغيير الجيش بالحرب في حال استمراره في تبنّي رؤيته القاضية بتوسيع مظلّة القوى المشاركة في الاتفاق مستندين إلى الدعم الخارجي ومستقوين بقائد قوات الدعم السريع الذي استمالوه إلى صفّهم بعدما زيّنوا له أنّ التوقيع على ذلك الاتفاق سيفتح له الباب للتطبيع مع القوى الغربية.
أطماع الخارج.. والداخل
المقاربة القائمة على إقصاء القوى الرئيسية في الشارع السوداني ومحاولة تمكين قوى صغيرة مدعومة من الخارج أثبتت أنّها مقاربة كارثية بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى. فإلى جانب أنّها أضعفت مقدّرات الدولة وجعلتها نهباً للأطماع الخارجية فقد انتهت إلى إشعال حرب بين أركان المكوّن العسكري ورهنت مستقبل البلاد ومصيرها للمجهول.
وإذا كانت هذه الأطراف الخارجية حريصة على السودان وأهله فالمنطق يدعوها إلى مراجعة مقاربتها للأزمة وسبل حلّها. لكنّ التجربة العملية تخبرنا أنّ الأطراف المذكورة لا تنشغل إلا بمصالحها وأجندتها من دون الالتفات إلى معاناة المواطنين السودانيين. فقد وقفت كلّ هذه الأطراف تتفرّج على الاقتصاد السوداني وهو يئنّ تحت وطأة الإجراءات الوحشية القاسية التي طبّقتها حكومة الدكتور حمدوك على المواطنين استجابةً لضغوط صندوق النقد الدولي. ولم تجد الولايات المتحدة حرجاً في تلك الظروف القاسية أن تمدّ يدها إلى الخزينة السودانية الفارغة لتأخذ منها أكثر من ثلاثمئة مليون دولار ثمناً لرفع اسمه من قائمة الدول الراعية للإرهاب. فيما ظلّ بقيّة “أصدقاء السودان” يبذلون له الوعود التي لن تنفّذ من شاكلة الإعفاء من الديون وإطلاق المشروعات الاستثمارية التي لن ترى النور أبداً.
وإذا كانت هذه القوى حريصة على انتقال ديمقراطي حقيقي فلماذا لم تشجّع حلفاءها على المضيّ في تنظيم انتخابات عامّة في البلاد بعد أربع سنوات من سقوط النظام السابق؟ بل لماذا لم تكن الانتخابات من ضمن أجندة مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة ولا الرباعية الدولية؟ ولماذا كثّفت القوى الدولية ضغوطها على قائد الجيش بعد قرارات الخامس من تشرين الأول 2021 بعدم تكوين حكومة تكنوقراط تكون من مهامّها إجراء الانتخابات العامّة وإنهاء الفترة الانتقالية المتطاولة والهشّة؟ هذه الأسئلة تبيّن بجلاء أنّ قضية الديمقراطية وإنهاء معاناة السودانيين ليست من أولويّاتها، لكنّها تريد حكومة أقليّة تنفّذ لها أجندتها وتحرس مصالحها.
إقرأ أيضاً: السودان وسويسرا.. لماذا يفشل العرب وينجح الآخرون؟
لكلّ ذلك فإنّ كلّ السودانيين مدعوّون إلى الوعي أنّ حلّ مشاكلهم إنّما يكون بأيديهم، وأنّ الاستنصار بالأجنبي لن يعمل إلا على مزيد من إضعافهم وإغراقهم في متاهات الانقسام والتمزّق، وأنّ خطوة التصحيح تبدأ بالمحافظة على الجيش الوطني الموحّد الذي تعبّر قوّته عن قوّة الدولة وصلابتها.
أمّا القوى الخارجية فعليها أن تعترف بفشلها البيّن وهي تتبنّى سياسة إضعاف الجيش والتلويح المستمرّ بفرض العقوبات على قيادته والمناداة سرّاً وجهراً بتفكيكه، وعليها أن تعرف أن تفكّك الجيش السوداني لن تتوقّف عواقبه الوخيمة على منطقة القرن الإفريقي وحدها وإنّما ستمتدّ تأثيراتها إلى كامل القارّة والدول الغربية، وعلى هذه القوى أن تكفّ أيديها عن التدخّل السلبي في شؤون السودان الداخلية اليوم قبل الغد، وتترك لأبنائه ترتيب أوضاعهم بما يحقّق مصلحتهم ومصلحة الجميع.
*وزير الدولة للإعلام السابق في السودان ودكتور في القانون المقارن