حين كان سليمان فرنجية مجتمعاً بباتريك دوريل في قصر الإليزيه مطلع الشهر، وزّع إعلام “حزب الله” تصريحاً لرئيس كتلة الوفاء للمقاومة محمد رعد هاجم فيه فكرة “الرئيس ذي الخلفيّة الاقتصادية” التي رأى فيها أجندة لإخضاع لبنان لشروط البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
أتى التصريح بعدما تردّد أنّ رعد نفسه التقى بمدير دائرة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي جهاد أزعور الشهر الماضي، على سبيل استكشاف إمكانية التوافق عليه لرئاسة الجمهورية كي يكون خياراً لتسوية بديلة. كان ذلك بمنزلة الردّ من “حزب الله”، لكنّ مقتضاه أبعد من ذلك، إذ إنّه يشير إلى أنّ المكوّن الاقتصادي في الطبخة الرئاسية مضطرب جدّاً، بغضّ النظر عمّا يريده الفرنسيون وما يقدّمه فرنجية لهم من تعهّدات.
في خلفيّة التفكير اللبناني أنّ الأزمات الاقتصادية تُحلّ من تلقاء نفسها ما إن يأتي الحلّ السياسي. بل إنّ الأطراف اللبنانية على اختلافها تتقاطع عند الاعتقاد بأنّ الأزمة الراهنة هي في جوهرها سياسية
بالبديهة، يشير موقف “حزب الله” العلني إلى أنّ اسم أزعور كان قد اكتسب بالفعل أرضيّة للتداول خارجيّاً، لدى الأميركيين أو سواهم، بعدما كان قد اكتسب أرضية داخلية من خلال موافقة العونيين على تسميته، وعدم ممانعة بكركي. وأضيف إلى ذلك ما كشفه رئيس حزب القوات سمير جعجع من أنّ الرئيس فؤاد السنيورة طرح عليه اسم أزعور، وبدا أنّ جعجع مستعدّ للنقاش في الأمر وفق معيار أساس هو أن يكون “مستعدّاً للوقوف” (في وجه الحزب).
ليس معتاداً في التاريخ اللبناني طرحُ بروفايل اقتصادي للرئاسة، وقد يكون ما دفع جبران باسيل إلى هذا الخيار أنّه يريد رئيساً من خارج الأحزاب والبيوت السياسية ذات التمثيل الوازن، ليبقى هو متحكّماً بالتمثيل المسيحي في الحكومة والدولة.
أمام الرئيس العتيد أولويّتان اقتصاديّتان تتقدّمان على ما عداهما في الاهتمامات الدولية:
– تنفيذ أجندة صندوق النقد الدولي، التي تشمل إقرار استراتيجية إعادة هيكلة البنوك وقانون المعالجة الطارئة للمصارف، والبدء بعملية تقويم لأكبر 14 بنكاً، والتدقيق ذا الغرض الخاصّ على الموجودات الخارجية لمصرف لبنان، وإقرار خطة ماليّة متوسّطة المدى واستراتيجية لإعادة هيكلة الدين، وتوحيد سعر الصرف، وإقرار قانون “الكابيتال كونترول”.
– تنظيف مصرف لبنان من فيض الفساد وتضارب المصالح وإخفاء البيانات.
بطبيعة الحال، من الصعب منافسة أزعور لو كان المطلوب بروفايلاً اقتصاديّاً للمرحلة، فهو بحكم منصبه في رأس هرم الدائرة التي تصمّم برامج الإقراض وتضع “وصفات” الحلول للأزمات المالية والنقدية التي تعانيها دول المنطقة، من مصر إلى تونس والأردن وباكستان، ولبنان بطبيعة الحال. يبدو مغرياً أن يأتي صاحب الوصفة ليتولّى تنفيذها!
لكن على البروفايل الاقتصادي أن ينافس البروفايل السياسي لفرنجية، والبروفايل العسكري لقائد الجيش العماد جوزف عون، وربّما البروفايل الدبلوماسي لناصيف حتّي الذي بدأ اسمه يتردّد أخيراً. فهل في الأفق ما يشير إلى إمكانية أن يتقدّم “الاقتصادي” على “السياسي” و”العسكري” و”الدبلوماسي”؟
لم يعرف لبنان رئيساً واحداً للجمهورية ذا خلفيّة اقتصادية، منذ الاستقلال، سوى إلياس سركيس. وحتى سركيس نفسه لم يكن رجل اقتصاد في الأساس، بل كان محامياً ثمّ قاضياً في ديوان المحاسبة، ثمّ مديراً للشؤون القانونية في رئاسة الجمهورية في عهد شارل حلو، لكنّه اكتسب البروفايل الاقتصادي من تولّيه حاكمية مصرف لبنان لتسع سنوات اعتباراً من عام 1967، وصنع شهرته من “التوفيق” في شراء الذهب بكميّات هائلة قبل قرار الرئيس الأميركي الراحل ريتشارد نيكسون فكّ ربط الدولار بالذهب عام 1971. ولا شكّ أنّ انتخابه لم يكن لمهمّة اقتصادية، بل على أساس الصفقة التي سمحت بدخول قوات الردع العربية إلى لبنان عام 1976.
مقاربة الفرنسيين للملفّ الاقتصادي ليست مطابقة، لكنّها ليست بعيدة عن هذا التفكير. ليس في أولويّاتهم تغيير شكل الحكم أو وجوهه، بل لجأوا إلى الوجوه القديمة والأحزاب المهيمنة للتفاهم معها
في خلفيّة التفكير اللبناني أنّ الأزمات الاقتصادية تُحلّ من تلقاء نفسها ما إن يأتي الحلّ السياسي. بل إنّ الأطراف اللبنانية على اختلافها تتقاطع عند الاعتقاد بأنّ الأزمة الراهنة هي في جوهرها سياسية. فريق الممانعة يعبّر عن ذلك بالقول إنّ لبنان يتعرّض “للحصار” من القوى الدولية والإقليمية، والفريق الآخر يقول إنّ “حزب الله” تسبّب بالأزمة حين ضرب علاقة لبنان بمحيطه العربي.
مقاربة الفرنسيين للملفّ الاقتصادي ليست مطابقة، لكنّها ليست بعيدة عن هذا التفكير. ليس في أولويّاتهم تغيير شكل الحكم أو وجوهه، بل لجأوا إلى الوجوه القديمة والأحزاب المهيمنة للتفاهم معها. وليس مستبعداً أن يكون في صلب التفاهم مع “حزب الله” حسابات تتعلّق بمصالح الشركات الفرنسية، خصوصاً “توتال” التي تستعدّ للتنقيب عن الغاز قبالة معقل نفوذ الحزب. على هذا الأساس، تبقى الصفقة السياسية الحصان الذي يجرّ خلفه عربة الصفقات الاقتصادية. ولذلك لم يعبأ الفرنسيون بضعف البروفايل الاقتصادي لفرنجية. وحتى الاسم المطروح لرئاسة مجلس الوزراء في سياق التسوية نفسها ليس له سابق خبرة في الميدان الاقتصادي أو المالي.
فرنجية نفسه يفرد قليلاً من الاهتمام بالبرنامج الاقتصادي، ولم يطرح حتى الآن سوى أفكار مرتجلة وعناوين عامّة، منها الالتزام بالعمل مع صندوق النقد الدولي، لكن من دون أن يعلن التزاماً واضحاً ومحدّداً بتطبيق الشروط المنصوص عليها في الاتفاق على مستوى الخبراء، والتي تحتاج إلى معارك ضروس لإقرارها.
إقرأ أيضاً: كيف يخرج مصرف لبنان من رياض سلامة؟
كلّ ما طُبّق حتى الآن من الاتفاق مع صندوق النقد لم يتجاوز بندين فاقدين للصلاحيّة، هما تعديلات قانون السرّية المصرفية التي لم تحظَ بقبول صندوق النقد، وقانون موازنة 2021، فيما المطلوب إقرار موازنة 2023 التي انقضى شهرها الرابع. وهذا يشير إلى الصعوبات التي سيواجهها الرئيس العتيد، ليس فقط مع “حزب الله”، بل مع مراكز النفوذ والمصالح، بدءاً من أصحاب المصارف وليس انتهاء بهم.
إذا كان فرنجية قد تعهّد بتوظيف علاقته بالنظام السوري و”حزب الله” للمصلحة الوطنية في الملفّات السياسية فإنّ توظيفها في الملفّ الاقتصادي ليس ممّا يفكر فيه الحزب وفرنسا.
لمتابعة الكاتب على تويتر: OAlladan@