نشأة حزب الله في بداية ثمانينيات القرن الماضي وتسلُّمه راية المقاومة بدعم مباشر من الجمهورية الإسلامية في إيران، أحدثا دون أدنى شكّ تغييراً في المشهد السياسي العامّ وفي الواقع الميداني في جنوب لبنان وفي قواعد اللعبة التي ارتبطت آنذاك بالتعامل مع الاحتلال الإسرائيلي في عام 1982 وتحدّياته.
وبالطبع، لم يبدأ تاريخ المقاومة في الجنوب مع حزب الله، بل كان ثمرة نضال وطني لعقود أسّس لثقافة مقاومة الاحتلال. لكنّ التحوّلات الكبرى التي جرت، ولا سيّما بعد التحرير في عام 2000، وحرب تموز عام 2006، وقيام حزب الله بدور إقليمي في سوريا واليمن وغيرهما من البلاد، مع استمرار دوره في مواجهة إسرائيل وانخراطه المتنامي في النظام السياسي اللبناني على قاعدة “الأمر لي”، أخذت تثير لدى غالبية اللبنانيين والنخب السياسية والاقتصادية المخاوف والأسئلة المتعدّدة. تتعلّق هذه المخاوف بتداعيات دور المقاومة الذي يتجاوز المصالح اللبنانية وتأثيره على كيان الدولة التي أصبحت بفعل مصادرة قرارها في السلم والحرب، دولة منقوصة السيادة، إذ اهتزّ العديد من أركانها، وتُواجه تصنيفها “دولة فاشلة” في ظلّ عجز النظام السياسي عن مواجهة تداعيات الأزمة الماليّة وإقرار خطط الإصلاح وتعطُّل آليّات احترام الاستحقاقات الدستورية، وفي مقدَّمها انتخاب رئيس الجمهورية. وبالتأكيد فإنّ الامتنان الكبير على الصعيد الوطني للتضحيات الكبيرة للمقاومة الإسلامية وشهدائها الذين سقطوا في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، والإجماع الذي تحقّق في اعتبار إسرائيل عدوّاً للبنان وشعبه، لم يمنعا من طرح إشكاليات وأسئلة متعدّدة، وأهمّها: هل تستطيع الدولة أن تقوم إذا ما بقيت سياستها الدفاعية وقرار السلم والحرب في يد حزب الله؟ وهل تستطيع دولة منقوصة السيادة أن تقوم بأيّ إصلاحات؟ وهل لبنان قادر على تحمّل أعباء مواجهة يقرّرها موقع المقاومة ودورها في “محور الممانعة”؟ والسؤال الأهمّ: كيف تتعامل المقاومة بوصفها جزءاً من “وحدة الجبهات” كما يريدها الراعي الإيراني إذا تعارضت مصالح لبنان الوطنية مع متطلّبات ومستلزمات هذه الوحدة؟ وهل حان الوقت لاستراتيجية دفاعية وطنية؟ أم السياق الذي تذهب إليه المواجهة الإيرانية الإسرائيلية على خلفيّة الملف النووي يحول دون التفكير بهذا الخيار؟
لا شكّ في أنّ الحزب قد أرسى نوعاً من التوازن مع العدوّ الإسرائيلي، ولم يعد دخول الجنوب اللبناني نزهة، بل أصبح مكلفاً والاطمئنان الذي ينعم به الجنوبيون يجب الحفاظ عليه والتعامل معه بمسؤولية عالية
منطق الدولة أم منطق المقاومة؟
بالطبع الإجابة على الأسئلة أعلاه تخضع لقراءتين مختلفتين، لا بل متناقضتين، كما تخضع لمعيار أساسي يحكم النقاش لدى الأطراف ويتعلّق بأمر مفصلي: لمن يجب أن تكون الأولوية، لمنطق الدولة أم لمنطق المقاومة؟ في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية تخلّت المقاومة عن سلاحها وساد منطق الدولة. في لبنان، السياق مختلف جذريّاً، لذلك نتساءل: هل من إرادة سياسية للبحث في مقاربة عملية تجعل استمرار المقاومة بدورها يتحدّد في إطار المصالح الوطنية ويخضع لمنطق الدولة وسياستها الدفاعية؟ وإذا استمرّ حال التعارض بين منطق الدولة ومنطق المقاومة، فأيّ منطق يجب أن يسود؟ وأيّ كلفة إذا طار منطق الدولة وطارت معه مصالح الدولة العليا؟ وأيّ كلفة سيتحمّلها لبنان إذا ساد منطق “وحدة الجبهات”؟
يفترض مناقشة هذه الأسئلة بهدوء وبعيداً من الأحكام المسبقة والعصبيّات والمصالح الفئوية والضيّقة. وفي البداية يجب الاعتراف أنّ انقساماً وطنياً يكاد يكون عمودياً في التعامل والإجابة على هذه الأسئلة، وينطلق هذا الانقسام من قراءتين لم تتمكّنا من بناء تصوُّر مشترك لمواجهة التهديدات الإسرائيلية التي تطال لبنان، وتحديد موقعه في الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، وفي المخاطر التي تتهدّد حلّ الدولتين جرّاء السياسات اليمينية المتطرّفة للحكومات الإسرائيلية المتعاقبة ولحكومة نتانياهو الحالية. ليس هذا الانقسام جديداً، بل كان سائداً في الجمهورية الأولى ودفع لبنان ثمنه غالياً، إذ وجد جذوره في تلك المرحلة في الالتباس الذي تضمّنه الميثاق الوطني غير المكتوب باعتبار لبنان “ذا وجه عربي” وفي معادلة “لا للشرق ولا للغرب”، وبالتالي تحوّل هذا الالتباس خلافاً وطنياً على هويّة لبنان وموقعه في القضايا العربية، وفي مقدَّمها القضية الفلسطينية. كان من المفترض إزالة هذا الالتباس مع اتفاق الطائف الذي حسم هويّة لبنان العربية وأكّد أنّ “لبنان عربي الهويّة والانتماء”، وحسم نهائية الكيان اللبناني بالتأكيد أنّ “لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه”. لكن للأسف، يبدو أنّ هذين المبدأين الدستوريَّين بقيا في الحدود النظرية، ولم يتكرّسا في الفكر السياسي اللبناني، ولا في الممارسة السياسية لبعض الأطراف في مرحلة ما بعد الطائف، ولا أخذا مكانهما في السياسة التربوية لتكريسهما في ثقافة “المواطنين وتطلّعاتهم في السياسة والاجتماع”. وبالنتيجة صارت مرجعية السياسة الخارجية في السنوات الأخيرة مؤسّسة على الخصومة مع عدد من البلدان الخليجية، ووقعت السياسة الدفاعية أسيرة مصادرة قرار السلم والحرب.
السيادة ركن أساسيّ من أركان الدولة
تنطلق القراءة التي تتمسّك باستعادة الدولة لقرار السلم والحرب ورسم سياسة دفاعية وطنية تتيح للجيش اللبناني بناء استراتيجية دفاعية تستفيد من خبرات المقاومة وتتعامل بجدّية مع المخاطر التي تشكّلها إسرائيل، من أحد أركان الدولة التي تحدّد وجودها ومكانتها، وهو ممارسة سيادتها من خلال وظائفها السيادية، ومنها الدفاع الوطني والأمن، التي لا يجوز أن يكون أيّ طرف داخلي أو خارجي شريكاً للدولة فيها، وإلّا اعتُبرت دولة منقوصة السيادة كما هو وضع الدولة اللبنانية حالياً. وتنطلق هذه القراءة أيضاً من الموقف الرسمي للدولة اللبنانية الذي تبنّى مقرّرات قمّة الجامعة العربية في بيروت في آذار 2002، التي تضمّنت إقامة الدولة الفلسطينية وفقاً لحدود الرابع من حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، ومن اتفاقية الطائف التي نصّت على استعادة سلطة الدولة حتى الحدود اللبنانية المعترف بها دولياً وتنفيذ القرار 425 والتمسّك باتفاقية الهدنة الموقّعة في 23 آذار 1949م، واتّخاذ كلّ الإجراءات اللازمة لتحرير كلّ الأراضي اللبنانية من الاحتلال الإسرائيلي وبسط سيادة الدولة على كلّ أراضيها ونشر الجيش اللبناني في منطقة الحدود اللبنانية المعترف بها دولياً….. والمعروف أنّ سلاح حزب الله قد استُثني في بداية التسعينيات من قرار حلّ الميليشيات باعتباره سلاحاً وظيفته تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي. جرى التحرير في عام 2000 مع بقاء جزء من قرية الغجر وتلال كفرشوبا ومزارع شبعا تحت الاحتلال، الأمر الذي جدّد شرعية استمرار المقاومة، علماً أنّ الحكومة السورية تمتنع حتى اليوم عن تقديم وثيقة إلى الأمم المتحدة تعترف فيها بلبنانيّة مزارع شعبا التي تتعامل معها الأمم المتحدة كمنطقة خاضعة لولاية قوات “أندوف” التي تشكّلت بموجب قرارَيْ مجلس الأمن 242 و338 والمكلّفة مراقبة اتفاق الهدنة بين إسرائيل وسوريا.
قراءة الحزب لدوره ولموقعه في المعادلة الإقليمية وفي خطّ الممانعة ودوره في الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، تنطلق من قناعة تفترض عدم قدرة الجيش على حماية الجنوب من الاعتداءات الإسرائيلية
تجاوزت الحكومات المتعاقبة هذه الإشكالية، وتبنّت معادلة “الشعب والجيش والمقاومة”، بهدف إضفاء الشرعية على سلاح حزب الله واستمراره في دوره في الجنوب بعد الانسحاب الإسرائيلي وتطبيق القرار 425 والموافقة على الخط الأزرق. أتاحت هذه المعادلة للمقاومة الاستمرار بعملياتها، إلا أنّ مزارع شبعا وتلال كفرشوبا بقيت تحت الاحتلال ولا نعرف هل كانت موانع التحرير تقنية عسكرية أو لأسباب أخرى، وقُيّدت تحرّكات الجيش لأنّه لم يترافق معها التزامٌ باتفاقية الطائف المتعلّقة ببسط سلطة الدولة حتى الحدود المعترف بها، ذلك أنّ ميزان القوى الذي كان قائماً في مرحلة الوصاية السورية التي فرضت كما صار معروفاً تعديلاً في الخرائط العسكرية اللبنانية لضمّ مزارع شبعا إليها، لم يكن يسمح للدولة اللبنانية بممارسة استقلاليّتها في هذا المجال. وعلى الرغم من دعوات مجلس الأمن المتكرّرة للحكومة اللبنانية عند كلّ تمديد لقوات الطوارىء إلى تعزيز سلطة الدولة وبسط سيطرتها، لم تنتشر وحدات الجيش بالعدد والعتاد المطلوبين إلا بعد صدور القرار 1701 عقب حرب تموز في عام 2006. وما يزال مجلس الأمن يذكّر الحكومة اللبنانية عند كلّ تمديد لقوات الطوارىء بضرورة تعزيز سلطة الدولة والتعاون لتحقيق الاستقرار في المنطقة الحدودية.
بالطبع ميزان القوى الذي حال دون بسط سلطة الدولة بشكل فعّال، كما حال دون رسم سياسة دفاعية مستقلّة في مرحلة الوصاية السورية ما يزال قائماً، وتداعياته على موقع الدولة وممارستها لأدوارها ووظائفها السيادية كبيرة، إذ تحوّلت المقاومة من وسيلة لتحرير الأرض إلى هدف يسمو على مكانة الدولة، وأصبحت جزءاً من مشروع إقليمي له أجندته السياسية والعسكرية، الأمر الذي يطرح معضلة التوفيق بين هذه الأجندة ومصالح لبنان وتطلّعات شعبه.
حزب الله وحساب الكلفة والعوائد
بالطبع، قراءة حزب الله لدوره ولموقعه في المعادلة الإقليمية وفي خطّ الممانعة ودوره في الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، تنطلق من قناعة تفترض عدم قدرة الجيش على حماية الجنوب من الاعتداءات الإسرائيلية، ومن اعتبارات ما فوق الدولة، وما فوق “الأمّة اللبنانية” باعتبار لبنان “مجموعة أمم”، أو “مجموعة شعوب”، ومن اعتبارات عقائدية أيضاً. وهنا لا أتحدّث عن ولاية الفقيه بالمفهوم الديني، إذ إنّ المادّة التاسعة من الدستور اللبناني تتيح وتحمي حرّية المعتقَد المطلقة، ولكن بالمفهوم المتعلّق بالالتزام السياسي الذي تتطلّبه هذه الولاية، وبالتالي يصبح من الصعب تقدير ترتيب وموقع المصالح الوطنية وموقع الدولة اللبنانية ومكانتها في سلّم الترتيب السياسي الذي تضعه هذه الولاية لقضايا المنطقة والصراع عليها. وتنطلق قراءة حزب الله أيضاً من قناعته بتآكل قوّة الردع الإسرائيلية، وربّما اقتراب الكيان الصهيوني من نهايته، الأمر الذي يحتّم بقاء لبنان ضمن وحدة الساحات حتى ساعة الصفر، علماً أنّ الحزب يتابع بدقّة ما يجري في فلسطين، وكيف نأت حركة حماس بنفسها عن الجولة الأخيرة التي جرت بين الجيش الإسرائيلي وحركة الجهاد الإسلامي وأدّت إلى مقتل عدد من القياديين الميدانيين، ويتابع أيضاً التغييرات التي تجري في الجنوب السوري وربّما تؤسّس لمشهد جديد يعيد التأكيد أنّ مفهوم وحدة الجبهات محصور بغزّة ولبنان فقط، ويقتصر دور النظام السوري على ترداد المقولة الشهيرة: “نردّ على الاعتداءات الإسرائيلية في الوقت والمكان المناسبين”. من هنا حزب الله هو الوحيد القادر على أن يعطي التفسير الحقيقي الذي يقف وراء المناورة التي أجراها في عرمتى شمال الليطاني. ففي المنطق العسكري تجري المناورات إمّا لدرء نقاط ضعف في خطوط الدفاع ومعالجتها، أو للتصعيد العسكري وتوجيه رسائل تخدم الردع أو التوازن، أو لتحسين الأداء وتطويره، أو استعداداً لعمل عسكري ما. فهل جرت المناورة منذ أيام على واحدة من هذه الخلفيّات؟ أم على خلفيّة ما يُحكى عن استعداد إسرائيلي لضرب المنشآت النووية الإيرانية؟ وهل إطلاق المسيَّرات يقع في خانة الإجراءات الدفاعية؟ أم في خانة أخرى نجهلها؟ وهل الجيش الموجود في منطقة الـ 1701 يجري تحذيره في مثل هذه الحالات؟
إقرأ أيضاً: استراتيجية الحزب الدفاعية: ما عليها.. وما عليها
لا شكّ في أنّ حزب الله قد أرسى نوعاً من التوازن مع العدوّ الإسرائيلي، ولم يعد دخول الجنوب اللبناني نزهة، بل أصبح مكلفاً والاطمئنان الذي ينعم به الجنوبيون يجب الحفاظ عليه والتعامل معه بمسؤولية عالية، علماً أنّ الاستقرار ما يزال هشّاً وأيّ خطأ في قواعد الاشتباك من أيّ فريق قد يؤدّي إلى مواجهة مفتوحة. ويدفع التعامل البراغماتي والمسؤول الذي ظهر في مواقف حزب الله منذ نهاية حرب تموز حتى اليوم إلى الاعتقاد بأنّه أخذ يعطي أهميّة في قراراته لحساب “الكلفة والعوائد”، وهذا تطوّر بالغ الأهمية، ويُظهر موقفه المؤيّد لاتفاق ترسيم الحدود والتغطية السياسية التي أعطاها لهذا الاتفاق أنّه لم يعد قادراً على تحمّل الكلفة السياسية لتعطيل ملفّ اقتصادي بهذا الحجم. ولكن على الرغم من أهمية هذه الخطوات المتقدّمة، يبدو أن لا معطى استراتيجياً يبشّر بإمكانية فصل لبنان عن خيار “وحدة الجبهات”، وبالتالي لم تنضج حتى الآن الظروف السياسية الإقليمية لوضع المقاومة تحت سقف الدولة ورسم سياسة دفاعية مستقلّة مبنيّة على اتفاقية الهدنة وعلى المخاطر التي تتهدّد لبنان.
وتبقى الأسئلة: هل يتحمّل لبنان الانتظار فيما يُعاد تشكيل المشهد السياسي في المنطقة بعد الاتفاق السعودي الإيراني، وتقوم كلّ دولة بمراجعة سياستها الخارجية وفقاً لهذه التطوّرات؟ وهل نتحمّل الاستمرار بلعبة ميزان القوى في انتخابات رئاسة الجمهورية وإطاحة قاعدة التسوية التي يقوم عليها نظام الشراكة في لبنان؟
* أستاذ الدراسات العليا في الجامعة اللبنانية/كلية الحقوق والعلوم السياسية والإدارية.