حين قال لي “السيّد”: عباءتي يحميها المسيحيون

مدة القراءة 8 د

كان اللقاء على الهواء. لأوّل مرّة. وآخرها. ميشال عون وحسن نصرالله معاً في حوار تلفزيوني. بلا ألقاب. يكفيهما اسمان يعلوان كلّ لقب…

وكان نقاش في معنى لبنان. وعلّة وجوده. قبل فاصل استراحة.

تحت الهواء تابع السيّد كلامه. شارحاً قناعته العميقة في المسألة. فجأة لمس عباءته بأصابع يده وكفّها، ونظر في عينيّ، وباح لي بتلك العبارة التي لن أنساها. والتي الآن الآن أوان استذكارها وتذكير كلّ من يلزم بها.

                                        *******************

بين المسلمين والمسيحيين

كان الصلحيّ الميثاقي الكبير، تقيّ الدين الصلح، يقول: استقلال لبنان مسؤوليّة مسيحيّيه. أمّا ديمقراطيّته فمسؤوليّة مسلميه.

معادلة ذهبية دقيقة من أيّام رجال من ذهب. تفسيرها واضح. بل متجسّد في المعاناة والمآسي عبر عقود من الأحداث: كلّما تراجع دور المسيحيين، أو ضلّ أو أخطأ الرهان، تعرّض استقلال البلد للخطر. وكلّما جنح دور المسلمين، أو كابر أو توهّم، صارت ديمقراطيّة بيروت أقرب إلى استفتاءات المحيط.

هي هذه “اللبنانيّة” الفريدة الخاصّة، كما سمّاها صلحيّ كبير آخر، هو مُنح الصلح، الذي زاد عليها ذات مساء من قلب الكسليك، أنّ ما بين لبنان والمسيحيّة، هو معادل تماماً لِما بين العروبة والإسلام، وأنّ على مسيحيّي لبنان ومسلميه اجتراح المعادلات اللازمة لحياة هذه المواءمة وتطوّرها كلّ يوم. 

سُنّة لبنان أعطوه انتماءه إلى المحيط. انتماء أراده لبنان حضاريّاً منفتحاً على أفق الغد. بينما كان في المحيط دوماً من أراده انتماءً قسريّاً دوغماتيّاً مجروراً بعِقد الماضي. وكان سُنّة لبنان دوماً من ينتصر لهذا الانتماء بالصيغة اللبنانية لا غير

تعود هذه الثوابت إلى الراهن والنبض، وأنت تتابع معركة رئاسة الجمهورية.

معركة اهتزّت خلالها أمور أساسية وخطيرة. كلام كبير يتردّد.

قبل أسابيع قيل إنّه إذا وصل مرشّح الحزب، نعيد النظر في أشياء كثيرة.

وقبل أيّام سُمع من قلب طرابلس كلامٌ آخر عن مرحلة “ما قبل 1920”. ومن يكون مرتاحاً حيال خيارات كهذه ومن لا يكون.

ثمّ قبل يومين عاد خطاب “ثقافيّ” رسميّ عن “شعب واحد في دولتَيْ” البعث والمبعوث…

هل هو جنون الرئاسة فحسب؟ أم هو قلق الرمال اللبنانية المتحرّكة أبداً، فكيف بها في ظلّ تطوّرات إقليمية كبيرة وغير معروفة ولا مفهومة وما تزال مجهولة المآل والمصبّ؟

ولأنّ الأمور كذلك، يجدر التذكير ببعض البديهيّات.

منها مثلاً، أن نعم، لبنان وُجد بسبب مسيحيّيه. لا من أجلهم. ولا لهم قطعاً. بل نتيجة تراكميّةٍ لتوقهم الدائم والمجنون إلى استقلالٍ ما عن الإمبراطوريات والسلطنات. استقلال كان ثابتاً في التاريخ. متحرّكاً في الجغرافيا. حتى انتهى إلى هذا اللبنان.

بعدئذٍ انضمّت إليهم كلّ الجماعات المؤسِّسة بلا استثناء. وجاءت كلٌّ منها ببصمتها وقيمتها المضافة.

سُنّة لبنان أعطوه انتماءه إلى المحيط. انتماء أراده لبنان حضاريّاً منفتحاً على أفق الغد. بينما كان في المحيط دوماً من أراده انتماءً قسريّاً دوغماتيّاً مجروراً بعِقد الماضي. وكان سُنّة لبنان دوماً من ينتصر لهذا الانتماء بالصيغة اللبنانية لا غير.

أمّا شيعة لبنان فأعطوه قيمة المقاومة. ذلك أنّهم، بالإذن من كلّ مقاوم لبناني، الجماعة الوحيدة التي لم ينقص في تاريخها “وجود خارجي” واحد لم تقاتله. قاتَل الشيعة الفرنسيَّ والسوريَّ والفلسطينيَّ والإرهابيَّ، في مراحل مختلفة. وطبعاً قاتلوا العدوّ الصهيوني دوماً.

بينما أعطى الدروز لبنان بُعْد القلعة الأخيرة. الحصن الأخير. لا ملاذ بعده. ولا مكان آخر لهم غيره. ولا مناصّ للدفاع عنه حتى الآخِر.

ومع تلك الانضمامات تطوَّر مسيحيّو لبنان في فكرهم، بلا وعي ربّما، من فكرة الوطن، اللاهوتيّ البُعد، إلى القراءة التاريخية لتأسيسه، قبل أن ينتهوا إلى علّة وجود واضحة عنوانها مفردتان: حرّية وحداثة. بِلاهما لا لبنان عندهم. ولا معنى لوجودهم فيه ولا جدوى. وحتّى لا وجود لهم فيه.

المسيحيون يا سيّد، بأكثريّتهم الغالبة، كما اللبنانيون الخارجون من كلّ قَبَلية وقبْلية، يريدون لك عباءتك المؤمنة ويريدون لك ومعك مقاومتك الشجاعة

ثورة الورود.. والرضوخ

عند وصولهم إلى تلك المرحلة، جاءت 17 تشرين. ثورة الورود وأعمارها. ثورة استعادة كلّ القيم بالفرح حتى الحبور. ثورة جمعت كلّ جغرافيا الوطن. فاعتنقها المسيحيون. حسبوها القيمة المضافة النهائية، لجمع كلّ لبنان وكلّ لبنانيّيه في إطار ثنائيّتهم المنشودة: حرّية وحداثة، وفتح أفقه المطلوب صوب الدولة المدنية والمواطنة الشاملة.

قبل أن تبدأ الانهيارات. سُحِلت ورود الثورة بفَقْء العيون. سقطت الدولة واقعاً ومفهوماً. عادت الهجرة الكثيفة نزفاً من آخر ثنايا القلب. وتخلّى العالم عن أيّ اهتمام فعليّ جدّي بهذا “المكان”.

في حمأة تلك المأساة، خرج من يقول لهم: نحن نسمّي رئيس الجمهورية ونقطة على السطر. يبقى عليكم خيار واحد: إمّا أن تقبلوا وترضخوا الآن، وإمّا أن تهدروا وقتكم وآخر أثمانكم وخسائركم الأخيرة… ثمّ ترضخوا بعد حين.

ومن أعطى هذا الانطباع، لنفسه ولمرشّحه وللمسيحيّين وللّبنانيّين، إنّما ظلم كلّ هؤلاء معاً.

ظلم سليمان فرنجية أوّلاً، لأنّه جعله خطأً مرشّح الحزب والثنائي حصراً. لم يترك له فسحة ليعلن مارونيّ أو مسيحيّ آخر، مؤيِّد أصلاً له، من كسروان أو بشرّي، تأييده له. وهذا معبّر جدّاً عن صورة الحزب التي بلغها في بيئة هؤلاء.

وظلم فرنجية ثانياً لأنّه أظهره مرشّح “اليُتْم المسيحي”، وهو ليس كذلك طبعاً.

وظلمه ثالثاً لأنّه أوجد حول ترشيحه انطباعاً أنّه مرشّح عودة منظومة الوصاية ومنظومة الكارثة والإفلاس، التي تتوسّل سبيلاً لإعادة تعويم ذاتها وإعادة إنتاج شرعيّتها البائدة.

لكنّ الأهمّ أنّ من رشّح فرنجية بهذه الطريقة، ظلم كلّ المسيحيين. وهم في غالبيّتهم الساحقة مع المقاومة. ومنذ 1982 على الأقلّ. هي قناعة من يعرف نبضهم ووجدانهم بعمق. كانت تجربة 1982 آخر الصدمات وآخر المغامرات والمقامرات. وكانت قاتلة. لكن مُحيِية في الوجدان والعقل الجماعي. بعدئذٍ صارت إسرائيل عدوّاً “عن جدّ”. وصاروا مع مقاومتها. لكن مع مقاومتها من أجل لبنان. لا من أجل نفوذ إيران. ولا من أجل أوراق نظام دمشق. ولا من أجل تحرير فلسطين حتّى. مع إيمانهم العميق بأنّ قضية شعبها هي قضية حقّ. عليهم مناصرتها. وأوّل دعمهم لفلسطين، أن يبنوا لبنان سيّداً ديمقراطياً قويّاً بحرّيته ونموّه واقتصاده وحداثته. لا أن يدمّروه، فيدمّروا النموذج العربي الوحيد المضادّ للتيوقراطية الصهيونية.

ظلم فرنجية.. والمقاومة

الذي رشّح فرنجية بهذه الطريقة وبهذين الأسلوب والكلام، ظلم المقاومة أخيراً. لأنّه جعل غالبية اللبنانيين في موقع مضادّ لمرشّحها. فيما هم وبالكثير منهم معها. وهذا ما لم يقبل الحزب بمناقشته بعد: أن تكون كلّياً مع المقاومة، وألّا تكون أبداً مع المشروع السياسي لحزب. أن تكون جينيّاً ضدّ الكيان الصهيوني، وألّا تكون أبداً مع “ولاية لبنان الخمينيّة”. أن تؤمن بكلّ أحشائك بأنّ لبنان لا يمكنه أن يحيا يوماً بلا مقاومة. وأن تؤمن بنفس القدر والعمق، بأنّ لبنان نفسه لا يمكنه أن يحتمل لحظة واحدة مشروعاً تيوقراطياً لدولته وثقافته وحياة أبنائه.

ظلمت المقاومة نفسها حين أوحت أنّ سليمان فرنجية هو الماروني الوحيد الذي لا يطعنها. فهل إلى هذا الحدّ كانت المقاومة فاشلة في خياراتها ولبنانيّتها لتبلغ هذا الحدّ، أو لتتوهّم ذلك؟

ظلمت نفسها حين ألمحت إلى أنّ جهاد أزعور، مثلاً، هو السلاح الفتّاك القادر على تدمير المقاومة وإزالتها. فهل إلى هذا الحدّ باتت مفلسة في نسج حمايتها الوطنية؟!

إقرأ أيضاً: الشيعة لا يخسرون بفارق الأصوات

4 شباط 2008

أعود إلى ذلك المساء من 4 شباط 2008، يوم جلست بين السيّد والجنرال محاوراً على الهواء. سألت السيّد عن لبنان وكيانه وخصوصيّته وتعدّديّته وعن هواجس المسيحيين… قبل أن ينتظر تحت الهواء، أمسك عباءته الخارجة من نصر تموز، وقال لي: “هل ترى هذه العباءة؟ أنا أعرف أنّه لا يمكنني ارتداؤها، ما لم يكن هناك مسيحيون في لبنان”!

المسيحيون يا سيّد، بأكثريّتهم الغالبة، كما اللبنانيون الخارجون من كلّ قَبَلية وقبْلية، يريدون لك عباءتك المؤمنة ويريدون لك ومعك مقاومتك الشجاعة. لكنّهم يريدون معها، وغاية لها، دولة نهائية اسمها لبنان. دولة حرّية وحداثة. دولة لا يُعتدى على مالها العامّ، ولا على ملكها العامّ، ولا على ملكيّات أفرادها، ولا على مرافقها العامّة، ولا على سيادتها الوطنية، ولا على مؤسّساتها الدستورية والقانونية، ولا على حرّياتها الخاصّة والعامّة، ولا على حداثتها الإبداعية، ولا على ثقافتها المعاصرة، ولا على اقتصادها الإنساني، ولا على فضائها الخاصّ والعامّ، ولا على حيّز اللاديني فيها، ولا حتى على قانون السير فيها وإشاراتها وشوارعها وضواحيها… بذريعة مقاومة أو بجريرة مستغلٍّ لقوّتها أو مستظلٍّ بحصانتها أو دجّال متسلّق لسلطةٍ بالاستقواء بها وبشهدائها. يريدون المقاومة ويقدّسونها لأنّهم يقدّسون غايتها وهي لبنان. وحصراً لبنان.

لم يفُت الوقت. ولن.

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…