هل تنشب حرب المياه بين إيران وأفغانستان أخيراً بسبب نهر هلمند؟ بل هل يمكن تصوّر قيام حرب أخرى بين إيران والعراق بسبب الخلاف على تدفقات نهر دجلة؟ تعزّز السوابق التاريخية إمكانية نشوب الحرب من أجل الماء، وهو أساس الحياة؛ ومنذ عام 1882، عندما كان الإنكليز يرسمون الحدود ين البلدين، خاض الإيرانيون والأفغان مفاوضات معقدة ومتقطعة من أجل تقاسم مياه نهر هلمند الذي يعتبره الأفغان نهراً خاصاً بهم، ونشبت توترات بسبب بناء سد كمال خان، إلى حين التوقيع على اتفاقية عام 1973. بل كان النهر عقدة ترسيم الحدود قبل التوصل إلى الاتفاق المذكور. هذا الاتفاق اعتبره الإيرانيون في السابق مجحفاً لهم، وكان يلتفون حوله ويستغلون انغماس أفغانستان في الحروب لزيادة حصتهم. أما النزاع العراقي الإيراني التاريخي على شط العرب، فيرجع جزئياً إلى مشكلة تقاسم مياه روافد نهر دجلة. وافترض الطرفان أن المشكلة قد سُويّت باتفاقية الجزائر عام 1975، قبل أن تجري مياه كثيرة في مجاري السياسة، وأبرزها الحرب الدموية بين العراق وإيران (1980-1988). وعلى الرغم من تغيّر المشهد السياسي في بغداد عام 2003، لكن جذور المشكلة تبقى قائمة كالنار تحت الرماد، مع التغير المناخي العالمي، وتزايد الحاجة إلى الماء بتكاثر السكان.
مناوشات مائية
وقعت أواخر أيار/مايو الماضي مناوشات حدودية بين حركة طالبان وقوات الحرس الحدودي الإيراني، بسبب الخلاف المتجدّد على الحصة الشهرية لإيران من مياه نهر هلمند؛ طهران تشكو أن طالبان تمنعها حقها من الماء، وطالبان تشدّد على أن الجفاف هو السبب في تراجع التدفقات عبر الحدود. وفي ظلال هذا التوتر السياسي والإعلامي والأمني غير المسبوق، بين كابول وطهران، طُرقت طبول الحرب وكأنها واقعة لا محالة، وتداول المسؤولون السياسيون كما الناشطون على وسائل التواصل الاجتماعي سيناريوهات الحرب واحتمالاتها مع قدر غير قليل من المبالغات. التقارير الدولية لم تتوقف منذ ما قبل الألفية الثانية عن التحذير من حروب كهذه على المياه التي تشحّ بشكل مطّرد بسبب التغير المناخي، وارتفاع حرارة الأرض عاماً بعد آخر؟ ما يحدث بين إيران وأفغانستان، يقع مثله بين إيران والعراق، لكن بطريقة معاكسة. فحكومة كابول تتحكم بتدفق نهر هلمند الجاري إلى إيران، وحكومة طهران تتحكم بتدفق مياه بعض روافد نهر دجلة إلى العراق، في وقت تحجز فيه تركيا كثيراً من مياه الفرات ودجلة عن العراق، بالسدود العملاقة التي أنشئت تباعاً منذ منتصف الستينيات، وإلى عام 2018، بما يُعرف بمشروع جنوب شرق الأناضول؟ إن إنشاء السدود على مجرى نهري دجلة والفرات، وهي فكرة مصطفى كمال أتاتورك (توفي عام 1938)، هو من أجل سدّ حاجة البلاد إلى الكهرباء؛ وأكبر تلك السدود المُنجزة، سدّ أتاتورك (عام 1992) على نهر الفرات، وسدّ إليسو (عام 2018) على نهر دجلة، وقد ألحقت السدود التركية أضراراً كبيرة بالعراق، لا سيما في زمن الجفاف. لكن مما يفاقم أكثر الأزمة المائية للعراق، لجوء إيران (وهي الحليفة الأوثق للنظام القائم في بغداد منذ عام 2003) إلى حجز مياه روافد دجلة بإقامة السدود أيضاً، بما يؤدي إلى تصحر الأراضي الزراعية العراقية، وتصاعد العجز المائي.
لا تقتصر المشكلة المائية في إيران، على البُعد البيئي الداخلي وأثره الخارجي، مهما بلغ من مستويات حرجة؛ بل إنها تكتسي في حالة إيران طابعاً جيوبوليتيكياً بالغ الحساسية
إشكال جيوبوليتيكي
لا تقتصر المشكلة المائية في إيران، على البُعد البيئي الداخلي وأثره الخارجي، مهما بلغ من مستويات حرجة؛ بل إنها تكتسي في حالة إيران طابعاً جيوبوليتيكياً بالغ الحساسية. فالنظام الثوري في طهران، يعيش منذ قيامه عام 1979 صراعات مزمنة مع دول الجوار، فضلاً عن القوى الإقليمية والدولية المناهضة له. ولهذا، يتعرض إلى مخاطر أمنية وحصارات اقتصادية، فكان اعتماده منذ البداية على الاكتفاء الذاتي غذائياً، كخيار استراتيجي من أجل الصمود والبقاء. لكن هذا الخيار يتسبّب باستنزاف شديد للثروة المائية السطحية والجوفية على حدّ سواء، وهو يوصل على نحوٍ حثيث إلى عكس المطلوب في المدى المتوسط، أي إلى تراجع المساحات المزروعة، بما يهدّد الأمن الغذائي، ويدفع السكان إلى الانتقال والهجرة. وهذا ما يُضعف النظام الإيراني وسط البيئة السياسية القلقة في الداخل ومع الخارج. وقد تجلى في السنوات الأخيرة بشكل خاص في إقليم خوزستان الذي وقعت الاضطرابات فيه بسبب السياسات المائية السائدة وأساليب إدارة شحّ المياه في مناطق واسعة من إيران. وينعكس ذلك أيضاً في العلاقات المتوترة مع الدول التي تتشارك معها مجاري الأنهار، لا سيما مع أفغانستان، وبدرجة أقل مع العراق. كانت إيران قبل الغزو الأميركي لأفغانستان عام 2001، والعراق عام 2003، تتحسّب من الجارين اللدوين: حركة طالبان في الشرق، وصدام حسين في الغرب؛ ثم تعاونت مع الولايات المتحدة في إسقاط النظامين وإبدالهما بنظامين صديقين، بل أكثر من ذلك. لكن مع الاستقرار النسبي لكلا البلدين أخيراً، صعدت أزمة المياه مع إيران إلى الواجهة.
أولاً، عادت طالبان إلى الحكم عام 2021، وهي أقوى من ذي قبل، فتستكمل جهود الحكومة الأفغانية السابقة للإفادة من نهر هلمند، مع بناء سد كمال خان (بدأ إنشاؤه حديثاً عام 1974، وأُنجز عام 2021 قبيل سيطرة طالبان). تُعتبر أفغانستان أقل دول العالم قدرة على تخزين المياه، وتصبّ أنهارها في الدول المجاورة: باكستان، وأوزبكستان، وتركمانستان، وإيران، من دون الإفادة الكافية منها لأسباب عدة، منها الحروب الطويلة على مدى عقود. أما نهر هلمند فهو أطول أنهار أفغانستان (1150 كلم)، ينبع من جبال الهندوكوش في محافظة ميدان وردك على بعد 40 كلم من كابول، ويغذّي بحيرة هامون على الحدود مع إيران. شهدت أفغانستان ارتفاعاً في درجة الحرارة بمقدار 1.8 درجة منذ منتصف القرن العشرين، مقارنة بالمتوسط ??العالمي البالغ 0.82 درجة. والتحدي الكبير على المدى القصير، هو إطعام الأفغان، إذ يعيش ما يقرب من 85% من سكان البلاد البالغ عددهم 40 مليون نسمة تحت خط الفقر، ويعاني أكثر من ثلثهم من أزمة حادة في الأمن الغذائي. وحتى في أكثر سيناريوهات الأمم المتحدة تفاؤلاً لجهة تقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، فمن المرجح أن يرتفع متوسط درجات الحرارة في أفغانستان بما لا يقل عن 1.5 درجة مئوية أخرى بحلول عام 2050. وسيؤدي هذا المستوى من الاحترار إلى تقليل كمية الثلج المتاحة لتغذية الأنهار، مما يجعل المياه أكثر ندرة. وبحسب تحليل أجرته منظمة Action Aid حول تغير المناخ وآثاره الاجتماعية الاجتماعي، فقد يضطر 5 ملايين أفغاني إضافي إلى الهجرة بسبب الكوارث المناخية بحلول عام 2050 حتى لو عملت حكومات العالم على خفض الانبعاثات بشكل كبير.
لا يقتصر الخطر الماثل على الهجرة القسرية من مناطق الجفاف، إذ إنه ينطوي أيضاً على احتمال الصدام العسكري المباشر، مع أفغانستان أو العراق، ويضاف ذلك إلى التوتر مع دولة أذربيجان في الشمال
ثانياً، سقط النظام البعثي في العراق قبل عشرين عاماً، وبات النظام الجديد موالياً لإيران، ومع ذلك يعاني العراق من حصار مائي مطبق؛ بسبب تركيا في الشمال وإيران في الشرق، من خلال إقامة السدود على نهري دجلة والفرات وروافدهما، حتى انخفضت كميات المياه المتدفقة إلى العراق بنسبة 20% من هذين النهرين، وتنحسر المساحات الزراعية باطراد. في جنوب العراق على الحدود مع إيران، تتقلص مساحة الأهوار، وتزداد ملوحة المياه. تستخرج إيران المياه من نهر كارون الذي ينبع من جبال زاغروس (طوله حوالى 950 كم)، وتصرف المياه الضارة من خلاله إلى شط العرب. وعلى الرغم من أن اتفاق الجزائر بين العراق وإيران لعام 1975، ينظم إدارة الموارد المائية المشتركة، إلا أنه لم تُعقد إلا اجتماعات قليلة بين البلدين، ولم يبحث أيّ من الجانبين بجدية بدائل ممكنة لمواجهة شحّ المياه مثل تغيير أنماط الري التي تستهلك كميات كبيرة من المياه. أما في كردستان العراق، فيحذّر المسؤولون من أن مشاريع السدود الإيرانية وتحويلات المياه يمكن أن تؤدي إلى كارثة كبيرة في السنوات القليلة المقبلة وتعجيل الهجرة البشرية الجماعية. لكن من وجهة نظر طهران، فإن أفعالها قانونية، بالنظر إلى أن نهري الزاب الصغير وسيروان، وهما من روافد نهر دجلة، ينبعان من جبال زاغروس الشمالية الغربية في إيران، قبل أن يصلا إلى العراق. ولمعالجة المشكلة، اتفقت حكومة إقليم كردستان مع بغداد على إنشاء 3 سدود. وعلى الرغم من التنسيق مع الحكومة المركزية في بغداد، فإن سدود الشمال يمكن أن تفاقم من أزمة المياه في الوسط والجنوب.
أزمة الجفاف في إيران
وفق وكالة الأرصاد الإيرانية، ارتفع متوسط درجة الحرارة في البلاد بمقدار درجتين مئويتين منذ الستينيات، وانخفض هطول الأمطار بنسبة 20? في العشرين عاماً الماضية. وكانت الفترة الزمنية من تشرين الأول/أكتوبر 2020 إلى حزيران/يونيو 2021 هي الأكثر جفافاً منذ 53 عاماً. وتوصلت دراسة حديثة أجرتها مجلة نايتشر Nature عام 2022 إلى أن هذا الاتجاه مهيأ للاستمرار والازدياد في السنوات القادمة، إذ إنه بالمقارنة مع ما بين عامي 1980 و2004، ستشهد إيران ما بين عامي 2025 و2049 موجات حر وجفاف وفيضانات أكثر تواتراً وشدة.
يُستعمل أكثر من 90? من مياه إيران للزراعة. وبسبب العقوبات الدولية، يسعى النظام الى تحقيق الاكتفاء الذاتي، عبر تشجيع المزارعين على زراعة المحاصيل كثيفة الاستهلاك للمياه مثل القمح والأرز وقصب السكر، والسماح بحفر الآبار العميقة التي استنفدت الموارد المائية المتاحة. لذا، انخفضت احتياطيات المياه الجوفية في إيران بشكل حاد على مدى السنوات الـ 14 الماضية. وأظهرت الدراسة المذكورة أن 76? من مساحة إيران تشهد الاستغلال المفرط لاحتياطيات المياه الجوفية، وخاصة في الزراعة. ويحذر الخبراء من أن بعض المناطق في جنوب وشرق إيران التي تعتبر قاحلة أو قاحلة جداً هي معرّضة لخطر أن تصبح غير صالحة للسكن بشكل دائم. وإذا حدث هذا، فقد يضطر ملايين الإيرانيين إلى الانتقال والبدء من جديد في مكان آخر.
إقرأ أيضاً: عمران خان: “الكريكيت” الأخيرة مع جيش باكستان
ولا يقتصر الخطر الماثل على الهجرة القسرية من مناطق الجفاف، إذ إنه ينطوي أيضاً على احتمال الصدام العسكري المباشر، مع أفغانستان أو العراق، ويضاف ذلك إلى التوتر مع دولة أذربيجان في الشمال. وتكمن الخطورة الآن بالنسبة لإيران خاصة، في الطبيعة المذهبية المختلفة لكلّ من نظامي أفغانستان وإيران؛ فأي حرب مع حركة طالبان ستحمل طابعاً انقسامياً حاداً في العالم الإسلامي. أما النزاع المحتمل مع النظام ذي الأغلبية الشيعية ببغداد، فيحمل من الحرج ما لا يمكن احتماله فضلاً عن سقوط سردية “إخوة المذهب” بكاملها.
لمتابعة الكاتب على تويتر: HishamAlaywan64@