إسرائيل تنحرف.. من هرتزل إلى جابوتنكسي

مدة القراءة 6 د

تطرح التظاهرات المتواصلة في إسرائيل ضدّ التعديلات القضائية التي تتمسّك بها حكومة بنيامين نتانياهو السؤال الكبير التالي: من يمثّل الصهيونية: الجماعات الدينية (المتشدّدة) أم الجماعات المدنية الليبرالية؟
عندما وُلدت الحركة الصهيونية قبل 120 عاماً، وُلد معها هذا السؤال الذي ما يزال حتى اليوم يبحث عن جواب. كان هناك موقفان مختلفان من مفهوم الصهيونية ينطلقان من حاجة يهود العالم إلى وطن خاصّ بهم بعدما أساءت إليهم شعوب العالم القديم والحديث، من روسيا شرقاً حتى إسبانيا وبريطانيا غرباً.
في عام 1903 طرح مؤسّس الحركة الصهيونية ثيودور هرتزل مبدأ أن يكون لليهود دولة تكون لهم وطناً ويعيشون معاً في ظلّها. لم يكن موقع الوطن المنشود هو الهدف. كان الهدف هو الوطن بحدّ ذاته. في ذلك الوقت طُرح مشروع الوطن اليهودي في شرق إفريقيا، وتحديداً في أوغندا التي كانت تحت الاحتلال البريطاني. وافق هرتزل على الاختيار وعمل له. إلا أنّ موافقته كانت نقطة ضعفه في المجتمع اليهودي المتديّن الذي يربط نفسه بالأرض المقدّسة في فلسطين.
من هنا قامت حركة صهيونية دينية مناوئة لهرتزل تحت شعار “العودة إلى صهيون”، وكانت بزعامة جابوتنسكي. وصهيون بالنسبة لهم هي فلسطين حيث الهيكل اليهودي (؟). مع خضوع هرتزل لهذا الموقف تحوّلت الحركة الصهيونية من حركة تبحث عن وطن ما في أيّ مكان، إلى دولة تؤمن بوطن في مكان محدّد وبهويّة دينية محدّدة.
بعد ذلك قامت إسرائيل في عام 1948 على هاتين القاعدتين، القاعدة العلمانية والقاعدة الدينية. كلّ منهما تستقوي بالثانية في مواجهة العدوّ المشترك الذي هو الشعب الفلسطيني والعالم العربي من حوله.

تعلن إسرائيل أنّها دولة ديمقراطية، وتذهب إلى أبعد من ذلك فتدّعي أنّها الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط. وهو ادّعاء يتناقض مع حرمان الفلسطينيين من حقّ المواطنة

الحركة الأميركية تتبنّى الحركة اليهودية
تماهت الحركة الدينية اليهودية مع الحركة الدينية المسيحانية في الولايات المتحدة والمعروفة باسم “الحركة الصهيونية المسيحانية”. وهي حركة تؤمن بالعودة الثانية للمسيح، وأنّ لهذه العودة شروطاً لا بدّ من العمل على توفيرها حتى تتحقّق العودة، ومنها تجميع اليهود في فلسطين وبناء الهيكل ليعلن فيه المسيح ووسط مجتمع يهودي عودته، كما فعل في المرّة الأولى. هكذا تبنّت الحركة الأميركية الحركة اليهودية منذ بداياتها الأولى على أساس ديني مشترك. فاليهودية التي لا تؤمن بالمسيح ما تزال تنتظر مجيئه. والمسيحانية التي تؤمن بالمسيح تنتظر عودته. وبين المجيء والعودة قام التحالف الديني الذي لعب دوراً رئيساً في تحديد الثوابت والالتزامات الأميركية تجاه المشروع الصهيوني في فلسطين.
لكن أيّ مشروع؟ مشروع الدولة العلمانية الديمقراطية الذي يقول به اليهود العلمانيون المهاجرون من الدول الأوروبية؟ أم مشروع الدولة الدينية حصراً الذي يقول به المتطرّفون الدينيون اليهود؟
ما يزال هذا السؤال مطروحاً حتى اليوم. ويتجلّى بصورة خاصة في التظاهرات التي تعمّ إسرائيل على خلفية مشروع نتانياهو لتبديل النظام القضائي. وكان قد تجلّى قبل ذلك في مشروع رئيس الحكومة الأسبق إسحق رابين لتحقيق تسوية سياسية مع المرحوم ياسر عرفات. وهو المشروع الذي دفع رابين حياته ثمناً له على يد أحد المتطرّفين اليهود في تل أبيب. ذلك أنّ المشروع الديني الذي أعدّه جابوتنسكي هو مشروع إلغائي للآخر الفلسطيني (مسلماً كان أو مسيحياً) ويحصر حقّ المواطنة باليهود وحدهم دون سواهم لتكون إسرائيل دولة دينية يهودية توراتية، مهيّأة لاستقبال المخلّص المنتظر.

الديمقراطية… الاحتلالية
تعلن إسرائيل أنّها دولة ديمقراطية، وتذهب إلى أبعد من ذلك فتدّعي أنّها الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط. وهو ادّعاء يتناقض مع حرمان الفلسطينيين من حقّ المواطنة. يقول المتطرّفون المتديّنون إنّ قبول غير اليهود مواطنين هو “خطأ توراتيّ” وليس خطأ دستورياً أو قانونياً. فالمواطنة الإسرائيلية هي حقّ حصريّ لليهود، وهذا يعني “أرض الميعاد”. وهذا أيضاً معنى “يهوديّة الدولة”.
لقد سبق للكنيست (البرلمان) الإسرائيلي أن أقرّ قانون يهوديّة الدولة. وبموجبه، كما يقول المتطرّفون اليهود، تسقط المواطنة عن كلّ من هو ليس يهوديّاً. يمكن أن يعيش غير اليهودي في المجتمع اليهودي، ولكن ليس بصفته مواطناً. تماماً كما حدث من قبل في جنوب إفريقيا حيث قام نظام الأبارتايد على خلفيّة عنصرية وليس على خلفية دينية.
يرفض العلمانيون اليهود هذا المنطق. إلا أنّ عجزهم عن تسفيهه قانونيّاً حمل الكثيرين منهم على الهجرة من إسرائيل والعودة إلى الدول التي هاجروا منها وكانوا مواطنين فيها.
ترجمة ذلك هو سقوط المشروع الصهيوني الذي قال به تيودور هرتزل في مقابل فرض المشروع الصهيوني الآخر الذي قال به زائيف جابوتنسكي، وتبنّاه ديفيد بن غوريون الذي كان أوّل رئيس لحكومة إسرائيلية في عام 1948.
كان جابوتنسكي يقول إنّ الوطن اليهودي لا يقتصر على فلسطين وحدها، لكنّه يشمل الأردن أيضاً. نتانياهو ابن هذه المدرسة وهو المؤتمَن على مواصلة العمل من أجل إكمال المشروع.

وجدت الحركة الدينية قوّتها ليس في قيام إسرائيل في عام 1948، إنّما في نتائج حرب حزيران 1967

وجدت الحركة الدينية قوّتها ليس في قيام إسرائيل في عام 1948، إنّما في نتائج حرب حزيران 1967. إذ اعتبرت أنّه ما كان باستطاعة إسرائيل أن تحقّق ذلك الانتصار بالاستيلاء على القدس (والضفّة الغربية وغزّة ومرتفعات الجولان) من دون تدخّل إلهي. وهو ما يتماهى أيضاً مع عقيدة الصهيونية المسيحانية في الولايات المتحدة.
منذ ذلك الوقت بدأت الحركة الدينية تتغلغل في مفاصل الدولة والمجتمع حتى أصبحت الآن مع نتانياهو قادرة على فرض توجّهاتها الدينية ليس فقط ضدّ حقوق المسلمين والمسيحيين من عرب 1948 ومن أهل غزّة والضفّة الغربية وصحراء النقب، لكن أيضاً ضدّ المدنيين العلمانيين من اليهود أنفسهم أيضاً.

حرب الصهيونية… ضدّ اليهود أيضاً
بدأ المشروع اليهودي بالحلم بدولة في أيّ مكان. وأصبح الآن مشروعاً دينياً إلغائياً حتى للعلمانيين اليهود أنفسهم. يحمل لواء هذا المشروع اليوم بتسلئيل سموتريتش الذي يشغل منصب وزير المال في حكومة نتانياهو.
كان حزب الليكود الذي يرأسه نتانياهو نفسه حزباً علمانياً. إلا أنّه اليوم أبعد ما يكون عن العلمانية. فقد استسلم للتطرّف الديني لحسابات سياسية خاصّة بنتنياهو شخصياً، واضطرّ إلى تبنّي الشروط والمطالب التي يتمسّك بها المتشدّدون الذين لا يريدون دولة لحماية اليهود وإيوائهم فقط، بل ولاستقبال المخلّص المنتظر.

إقرأ أيضاً: إسرائيل والخوف على المكانة؟

بصرف النظر عن موقف الفلسطينيين والعرب والمسلمين والعالم، يسود اعتقاد في إسرائيل بأنّ المصير يقرّره انتصار أو هزيمة أحد الطرفين: المتديّنين الذين يستعدّون لبناء الهيكل الذي سيظهر فيه المخلّص، أو المدنيّين الذين يستعدّون للعودة من حيث أتوا بعدما بدأ هيكل الديمقراطية يتداعى ويتآكل.
يتعدّى الصراع الداخلي في إسرائيل حدود المصالح الشخصية والحسابات الحزبية. إنّه صراع عقَدي بدأ مع بداية الحركة الصهيونية واستمرّ معها، ويدخل الآن مرحلة تقرير المصير.

مواضيع ذات صلة

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…

السّوداني يراسل إيران عبر السعودية

 لم يتأخّر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ومعه قادة القوى السياسية في قراءة الرسائل المترتّبة على المتغيّرات التي حصلت على الساحة السورية وهروب رئيس…