عندما صدر حكم المحكمة الدستورية بإبطال مجلس الأمّة الكويتي المُنتخب في أيلول 2022، لم تُسلّم مجموعة من غالبيّة النواب به ولم ترضخ له، وذهبت إلى “تصنيع” طعن عليه، عنوانه “طعن بدعوى بطلان أصليّة”، أملاً في اجتراح “مُعجزة” تعيده إلى الحياة.
قدّمت هذه المجموعة “الطعن الاستثنائي” إلى المحكمة الدستورية نفسها، ورفَدَته بنحو 10 أسباب أهمّها أنّ المحكمة تدخّلت في عمل من أعمال السيادة، وفي سلطات الأمير، وبسطت رقابتها على المواءمة السياسية لمرسوم حلّ المجلس السابق المُنتخب في 2020.
على الرغم من سيرهم في الطعن، ترشّح أعضاء هذه المجموعة للانتخابات المقرّرة في 6 حزيران المقبل، لكنّهم كانوا يُمنّون النفس بإلغائها، في حال وافقت المحكمة على طعنهم وأعادت المجلس الذي أبطلته في 19 آذار الماضي.
يوم الأربعاء الماضي، قُضي الأمر وقضت المحكمة على أيّ أمل برجوع المجلس السابق، عبر رفضها الطعن وتثبيت حكمها السابق، وبذلك لم يعد هناك خيار أمام الجميع إلا الذهاب إلى صناديق الاقتراع مجدّداً.
تُجمع الأوساط والصالونات السياسية على أنّ الانتخابات المقبلة ربّما تكون الأكثر فتوراً في تاريخ الكويت الحديث، فلا الناخبون يعتقدون أنّ أصواتهم ستُغيّر شيئاً في المشهد، ولا المرشّحون يُعلّقون آمالاً كبيرة على ما هو قادم.
يبدو مشهد الإحباط مُسيطراً والخشية من العودة إلى المربّع الأوّل قائمة، لأنّ أسس الخلافات ما زالت كما هي، وصراعات مراكز القوى مستمرّة وربّما تتصاعد أكثر
إحباط المرشّحين.. والناخبين
بالنتيجة، يبدو مشهد الإحباط مُسيطراً والخشية من العودة إلى المربّع الأوّل قائمة، لأنّ أسس الخلافات ما زالت كما هي، وصراعات مراكز القوى مستمرّة وربّما تتصاعد أكثر.
في ظلّ هذه الأجواء، تشير الترجيحات إلى أنّ النواب السابقين (من مجلسَيْ 2020 و2022) سيعودون بغالبيّتهم إلى مجلس الأمّة الجديد، وأنّ عدداً قليلاً من المقاعد ربّما يكون من نصيب أسماء جديدة.
لكنّ هذه الأسماء قد تقلب الموازين، فالصراع حالياً بعنوانه العريض بين فريقين: الأوّل يضمّ مؤيّدين لرئيس الحكومة أحمد النوّاف، والثاني يضمّ معارضين له ومؤيّدين لرئيس مجلس الأمّة السابق مرزوق الغانم.
من الواضح أنّ ملامح المواجهة المقبلة بدأت ترتسم: سيكون النوّاف رئيساً لحكومة لديها كتل مؤيّدة لها تضمّ نوّاباً مُخضرمين وشرسين من تلاوين متعدّدة، والغانم “زعيماً” للمعارضة التي يُرجّح أن تضمّ عدداً لا يُستهان به من النواب.
لا تشبه المعارضة في الكويت المعارضات في دول أخرى، فهي ليست قائمة على أسس حزبية أو مبادئ مرتبطة بمشاريع سياسية أو اقتصادية، بل هي معارضة شخوص أكثر منها معارضة برامج، ومعارضة مراحل أكثر منها معارضة ثابتة، وبالتالي هي تشبه “التعاقد على القطعة” أو حسب الحدث، بحيث قد يصبح نائب من أشدّ الموالين للحكومة واحداً من أشرس معارضيها إذا أوقفت مصالحه أو “تنفيعاته” في الدوائر الحكومية.
في ظلّ حالة الاستقطاب الحادّة والتوقّعات بعدم الإقبال الكثيف على الصناديق، سيضمن النواب الذين ينتمون إلى مجاميع وتكتّلات كبيرة (مثل الإخوان المسلمين والسلفيّين والشيعة والقبليّين) مقاعدهم بسهولة، فيما ستكون المعركة في كلّ دائرة (10 نواب من أصل 50) على المقاعد الثلاثة أو الأربعة الأخيرة فيها.
الذئاب المنفردة
ستجري هذه المعركة عمليّاً بين “الذئاب المنفردة”، وهم المرشّحون الجدد نسبيّاً على الساحة، الذين دفعت بهم أطراف الصراع إلى المعركة من دون تبنّيهم، لتضمن معادلة (رابح – رابح) ولا تتحمّل أيّ تبعات، سواء فازوا أو خسروا.
على سبيل المثال رشّحت جماعة “الإخوان المسلمين” رسمياً 3 أسماء في 3 دوائر مختلفة، لكنّ مرشّحيها “غير الرسميين” يتوزّعون على جميع الدوائر، والهدف هو تشكيل كتلة كبيرة “غير رسمية” ربّما يصل عددها إلى 10.
سيكون السلفيين والشيعة أيضاً قادرين على ضمان فوز مرشّحيهم لأنّ مجموعات الناخبين الصلبة والأساسية ستذهب إلى الصناديق، ولن تكون من فئة المتردّدين أو المحبطين.
على هذا المنوال، تنحصر المعركة عمليّاً بين “الذئاب المنفردة” الذين سيشكّلون الرافعة لأيّ من فريقَيْ المواجهة (المؤيّد والمعارض لرئيس الحكومة):
– الفريق الأوّل يريد أن يحصل على أكثر من 30 نائباً ليضمن الغالبيّة أوّلاً، ثمّ رئاسة المجلس ثانياً (الأرجح أن يدعم المخضرم أحمد السعدون)، ثمّ اللجان البرلمانية ثالثاً. بعد ذلك، يشكّل صمام الأمان للحكومة الجديدة (التي سيتمّ تشكيلها بعد الانتخابات وفقاً للدستور) وتكون له حصّة في التعيينات الجديدة، سواء في تعيين الوزراء أو تعيين القياديين في جهات الدولة وعددهم بالعشرات.
– الفريق الثاني يريد أن يحصل على 10 نواب فأكثر (على الأقلّ)، ليُشكّل معارضة وازنة قادرة على المُشاغبة وتقديم الاستجوابات للوزراء ورئيس الحكومة.
مخطّط “طرح الثقة”
لكن لماذا يريد هذا الفريق أكثر من 10 نواب، إذا كان نائب واحد يستطيع تقديم الاستجواب؟ الجواب ببساطة أنّ تقديم الاستجواب لوحده ليس الهدف، فهو يؤدّي إلى وقوف الوزير على المنصّة ليدافع عن نفسه في مواجهة الاتّهامات، لكنّ طرح الثقة به في نهاية الاستجواب يحتاج إلى كتاب موقّع من 10 نواب. وبغضّ النظر عن نتيجة التصويت، يؤدّي طرح الثقة إلى إحراج جميع النواب، فالتصويت لصالح الوزير ليس “عملاً شعبياً” في نهاية المطاف.
لكنّ ذلك لا يعني بأيّ حال من الأحوال أنّ مكوّنات كلّ فريق متّفقة على كلّ العناوين المطروحة، أو حتى غالبيّتها، ولا يمكن الحديث عن موالاة ومعارضة إلا بالعناوين السياسية العريضة.
إقرأ أيضاً: الكويت تنتظر 6 حزيران
أمام واقع هذا التوازن، سيكون لـ”الذئاب المنفردة” الكلمة الفصل في ترجيح إحدى الكفّتين، مع الأخذ بالاعتبار أنّ غالبية هؤلاء يبتعدون في حملاتهم الانتخابية عن تصنيف أنفسهم في أحد المعسكرين، بل إنّ بعضهم قد يستخدم عناوين معاكسة تماماً لأهدافه التي تظهر جليّة بعد وصوله إلى مجلس الأمّة.
مع استبعاد المفاجآت الكبرى ووضوح أدوات المعركة، سيكون مجلس الأمّة الجديد نسخة “كربونية” عن المجالس السابقة: مؤيّدون للحكومة ومعارضون لها، لا سبيل للتوافق بينهم، لأنّ الصراع أساساً ليس تشريعياً أو على برامج اقتصادية وإصلاحية، وإنّما هو سياسي في جوهره بين شيوخ وأقطاب يستخدمون كلّ الوسائل لحجز مكان لهم في سُلّم القيادة.