الدولار: هبوطه “غير مصطنع”.. وبيعه “غير مبرّر”

مدة القراءة 5 د

يقول البعض في معرض تبرير هبوط الدولار إلى ما دون 100 ألف، إنّ هذا الهبوط “مصطنع” ولا يعكس حقيقة السوق. لكنّ الحقيقة هي أنّ سعر صرف الدولار، في الأسبوعين الماضيين، هو ربّما للمرّة الأولى أكثر قرباً من لعبة “العرض والطلب”، وغير مصطنعٍ بخلاف المرّات الماضية يوم كانت تأثيرات مصرف لبنان بارزة وكان دوماً يمارسها لرفع سعر الصرف، عن قصد أو غير قصد، بغية جمع الدولارات من السوق، لكنّ ما هو غير مبرّر هو استمراره ببيع دولاراته عبر “صيرفة”.
الظنّ أنّ بيع الدولارات عبر “صيرفة” هو السبب خلف هبوط الدولار، أمر غير صحيح، وذلك للأسباب التالية:
1- المستفيدون من “صيرفة”، وهم من المحظيّين غالباً، يحقّقون ربحاً، من دون أن يضخّون تلك الدولارات التي يحصلون عليها من مصرف لبنان في السوق. بل على العكس، يصرفون دولاراتٍ كانت مخزّنة في بيوتهم وداخل خزائنهم، ثمّ يعودون بها إلى البيوت والخزائن مضافاً إليها هامش ربح يُقدّر بين 8% و10% (قبل احتساب عمولة المصارف).
2- الشركات التي تنخرط اليوم في “صيرفة” تستفيد من شراء الدولارات بسعر 90 و88 ألفاً (بعد هبوطها في اليومين السابقين)، ثمّ تضخّها في السوق على شكل بضائع وسلع بأسعار مرتفعة لا تحاكي سعر الصرف الحقيقي، مستفيدة من هامش السعرين (10 آلاف ليرة) لتحقيق المزيد من الأرباح والمكاسب. حتى إنّ بعض هذه الشركات عمدت إلى ابتداع “مهنة” جديدة، وهي “بيع” الكوتا المسموح لها بها عبر “صيرفة” لأيّ جهة قادرة على تأمين الليرات اللبنانية، ثمّ تتقاسم مع صاحب المال المبلغ المحصّل من “صيرفة”.

مسلسل الهبوط والاستقرار مستمرّ ما دام مصرف لبنان صائماً عن شراء الدولارات

ما هو السبب الحقيقيّ خلف هبوط الدولار؟
السبب الرئيس خلف الهبوط هو توقّف مصرف لبنان عن شراء الدولارات من السوق. فمنذ 21 آذار، تاريخ نشر بيان مصرف لبنان الذي قضى ببيع الدولار عبر “صيرفة” للأفراد والشركات، لم يتدخّل “المركزي” في السوق بالزخم نفسه (بعض المصادر تقول إنّه يتدخّل لكن بقدر لا يُذكر).
تشير المعلومات إلى أنّ مصرف لبنان استطاع أن يوفّر ما يُقدّر بنحو راتبين لموظّفي القطاع العام، وقد دفع منهما الراتب الأول بداية هذا الشهر، والآخر سيدفعه مع نهايته أو مطلع شهر أيار. وبذلك قد لا يعود المركزي إلى السوق شارياً للدولارات قبل منتصف أيار، أي قبل بداية فصل الصيف، وهذا هو السبب الرئيس الأول خلف هبوط الدولار واستقراره دون 100 ألف.
بدوره دفع جوّ الاستقرار هذا بالصرّافين إلى الميل نحو خفض سعر الصرف أكثر على شبابيكهم ما دامت الجهة التي كانت “تجمع” من خلفهم الدولارات (مصرف لبنان) منكفئة. وهذا دفع إلى مزيد من الهبوط والاستقرار إلى حين تبدّل الصورة، وعزّز من فرص إرساء المزيد من الهبوط والاستقرار.
ليس هذا فحسب، فقد انخفض سعر صرف الدولار على منصة “صيرفة” (خفّضه مصرف لبنان طبعاً). إذ هبط من 90 ألفاً إلى 88 ألفاً، وهذا مؤشّر إلى أنّ مصرف لبنان يحاول تحفيز الناس على الانخراط بـ”صيرفة” بشكل أكبر، بعد هبوط سعر السوق السوداء وضيق الهامش بين السعرين.

تشير المعلومات إلى أنّ مصرف لبنان استطاع أن يوفّر ما يُقدّر بنحو راتبين لموظّفي القطاع العام، وقد دفع منهما الراتب الأول بداية هذا الشهر، والآخر سيدفعه مع نهايته أو مطلع شهر أيار

ماذا يريد المركزيّ وإلى متى هذا السيناريو؟
على ما يبدو فإنّ “المركزي” يطمح إلى تجفيف السوق من الليرات بشكل أكبر. إذ تشير أرقام مصرف لبنان إلى أنّ الكتلة النقدية بالليرة (M1) تراجعت من بداية شهر آذار حتى منتصفه، بنحو 10.4 تريليون ليرة (من 98.6 تريليون في 2 آذار إلى 88.2 تريليون ليرة في 16 آذار).
لكن يبدو أنّ لذلك أثماناً، إذ ليست تلك العملية مجّانية. وتشير أرقام مصرف لبنان في هذا الصدد إلى أنّ احتياطاته من العملات الصعبة هبطت في 15 يوماً قرابة 66 مليون دولار، وصولاً إلى 9.4 مليارات دولار، وهذا غير مبرّر!
أمّا مسلسل الهبوط والاستقرار فمستمرّ ما دام مصرف لبنان صائماً عن شراء الدولارات. وإذا “كَسَرَ صيامه” عن السوق، وعاد إلى شراء الدولار منه، فسيعود الدولار إلى الارتفاع، وربّما يكون هذا الارتفاع في هذه المرّة شبيهاً بالمرحلة التي سبقت بيان “المركزي” الأخير، أي عندما حلّق إلى عتبة 145 ألفاً، التي توقّف عندها وتراجع، خصوصاً مع اقترابنا من الموسم السياحي التي تصفه الهيئات السياحية في لبنان بأنّه “واعد”، أي أنّ الدولارات ستكون وفيرة وربّما يعجز الحاكم رياض سلامة (إن بقي في منصبه) عن مقاومة تأثيرها وإغراءاتها.

إقرأ أيضاً: في تمّوز… سيغلي الدولار في “الكوز”

لكن إلى حينه، يمكن الاستخلاص من كلّ ما سبق ذكره أنّ “المركزي” كان قادراً على لجم سعر الصرف من خلال الإعلان، ثمّ تطبيق وقف شراء الدولارات من السوق، من دون اللجوء إلى بيع الدولارات عبر “صيرفة” بهذا الشكل الذي يصفه البعض بأنّه “تنفيعة” لجماعة السلطة وأزلامها من التجار والمحظيّين. فهل يُعقل أن يعطي “المركزي” زبائن “صيرفة” هامش ربح أو “فائدة” (إن صحّ القول) تُراوح بين 10% و15% في غضون 3 أيام عمل، بينما الفدرالي الأميركي رفع فائدته على مراحل وصولاً إلى قرابة 5% لكن بعد 365 يوم عمل.
هذه من عجائب لبنان!

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: emadchidiac@

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…