عن مافيا السلطة ومافيات البلديّات

مدة القراءة 8 د

في حقبة زمنية متقاربة أو حتى متزامنة، كان حكّام ثلاث دول هم ثلاثة رؤساء سابقين لبلديّات عواصم بلادهم.
أولمرت في إسرائيل. شيراك في فرنسا. وأحمدي نجاد في إيران.
الأول ذهب إلى السجن فساداً. والثاني نجا منه بذريعة التقدّم في العمر، لا غير. والثالث سقط في عتمة “ستار العمائم الحديدية”.
في الفترة نفسها وما سبقها وتلاها، كان في لبنان ثلاثة رؤساء للجمهورية أُجريت في عهودهم انتخابات بلدية كانت نتيجتها في بلدات مساقط رؤوسهم أن فاز فيها خصومهم والمعارضون لهم: الهراوي في زحلة. لحّود في بعبدات. وسليمان في عمشيت. علماً أنّ الثلاثة أكّدوا وجزموا وأقسموا إنّهم لم “يتدخّلوا” فيها أبداً!!
هي إشارات معبّرة إلى عمق إشكالية العلاقة بين منظومة أيّ سلطة وبين الانتخابات البلدية في العالم، فما بالك في لبنان.
وزير الداخلية اللبنانية قام بواجبه القانوني. أصدر قراراً بتحديد مواعيد إجراء الانتخابات البلدية بعد أسابيع.
وزارته ملتزمة بروزنامة الاستحقاق القانوني كاملة: صدور الدعوة قبل ثلاثين يوماً من التئام الهيئات الناخبة. إنجاز القوائم الانتخابية بشكلها النهائي في موعدها القانوني. نشرها وفتحها للتنقيح والتصحيح والاعتراض.

يروي أحد المسؤولين أنّ حروباً شعواء يخوضها كبار مسؤولي المزرعة على توزيع مراقبي المالية على البلديات الدسمة

لجان القيد وهيئات الأقلام الانتخابية لا مشكلة فيها. ترفع وزارتا العدل والتربية القوائم، فتصدر القرارات.
حتى معضلة التعويضات لا تشكّل عقبة بدليل إجراء الانتخابات النيابية قبل سنة بالتمام، وسط الانهيار النقدي المستمرّ كما اليوم تماماً. كانت إذّاك مطالبة بزيادة التعويضات. تمّ الأمر. فلبّى المعنيّون بلا اعتراض.
حتّى مشكلة التمويل اليوم تبدو ذريعة.
أصلاً كان يُفترض بالموازنة السنوية أن تخصّص اعتماداً لاستحقاق محدّد الأجل منذ ستّ سنوات. ولم يكن طارئاً ولا استثنائياً ولا يفترض أن يفاجئ أيّ مسؤول.
كلّ هذا يشي بأنّ المشكلة في مكان آخر.

المشكلة قديمة
هي مشكلة قديمة في عقل الطبقة السياسية اللبنانية. يكفي التذكير لفهمها بحدث تأجيل الانتخابات البلدية سنة 1967.
يومها كانت ولاية مجالسها 4 سنوات. وكانت آخر انتخابات بلدية واختيارية قد أُجريت سنة 1963. لم تكن في لبنان حينذاك حرب أهلية. حتى حرب الأيام الستّة بدت ذريعة شكليّة. تأجّل الاستحقاق البلدي يومها بموجب قانون ذي مادّة وحيدة. ومن دون أسباب موجبة. هكذا قرّرت طبقتنا السياسية حرمان الناس حقّهم في إدارة مصالحهم المحلّية، من دون إعطائهم أيّ تفسير أو تعليل. وكان التأجيل لسنة واحدة، تماماً كما قيل في تأجيل البلديات السنة الماضية.
لكن ماذا حصل في السنة التالية مثلاً؟ بكلّ بساطة، جاء عام 1968 ليشهد تأجيلاً جديداً للاستحقاق البلدي، مع أنّ الطبقة السياسية جدّدت لنفسها، عبر إجرائها الانتخابات النيابية في تلك السنة تحديداً. وتتالت بعدها فرمانات التأجيل البلدي، بالاعتباط والاستنساب نفسيهما.
سنة 1972، تكرّرت المفارقة: أُجريت انتخابات نيابية مرّة أخرى، فيما الانتخابات البلدية كانت تُرمى من عام إلى آخر، حتى اندلعت الحرب… فصار التمديد مثلّثاً بلديّاً أصيلاً: نيابياً وبلديّاً واختياريّاً.
لماذا هذا النفور العفوي بين منظومة السلطة والانتخابات البلدية؟ لأكثر من سبب:
– السبب الأول هو هذا الإجماع في انطباعات الطبقة السياسية اللبنانية على أنّ الانتخابات تعني الاضطرابات. وبالتالي فكلّ تخفّف منها مكسب لها. حتى لغة تخلّفنا تؤكّد ذلك. كلّ مفرداتنا الانتخابية مستقاة من قاموس الحروب: من المعركة الانتخابية، إلى أهداف كسر العظم، انتهاء بوسائل المحادل.
هو شيء من ذهنية أنظمة الجوار حيث لا يُلجأ إلى هذا الطقس الغربي المستورَد والمستقبَح، إلا على قاعدة “إليكم نتائج الانتخابات كما وردت قبل الاقتراع”.

تجرّع سمّ دوائيّ
في حالة الانتخابات النيابية، يمكن على مضض القبول بتلك المسرحية، لتجديد “شرعية” الطبقة الحاكمة، مثل تجرّع سمّ دوائيّ. أمّا الإقدام عليه في “شأن تافه”، مثل الاستحقاق البلدي، فأمر لا ضرورة له إطلاقاً. ولا تتأخّر الطبقة المتسلّطة في تغطية تخلّفها بشعارات الحرص المزعوم على النظام العام والسلم الأهليّ، والوئام بين “العائلات اللبنانية الواحدة” وسواها من تسويغات الاستبداد.
– السبب الثاني لتجنّب الانتخابات البلدية متأصّل في عمق تفكير طبقتنا السياسية أيضاً، وهو نزوعها الطبيعي صوب الاحتكارية والاستئثارية والمركزية في تعاطي الشأن العام. تاريخياً كانت هذه الطبقة تفضّل تصغير مفهوم “السلطة المحلية”، وتعظيم مفهوم السلطة المركزية في البلد.
وهو أمر مفهوم. قبل الحرب كان هناك نظام نموذجه أنّ لبنان هو بيروت. وبيروت هي مربّع مؤسّسات السلطة لا غير. ومن يحكم هنا، يحكم كلّ البلد. وأيّ صيغة لسلطة محلّيّة في آخر دسكرة، ولو لإقامة قناة ريّ زراعية، هي انتقاص من سلطة المركز وتهديد لاستدامتها.
بعد الحرب، تطوّر هذا البعد المركزي. اكتشفت منظومة السلطة أهميّة وذهبية دجاجة البلديات: أكثر من ألف مؤسّسة. في كّل منها أكثر من 10 آلاف منتخب. أي 10 آلاف وجيه. كلّ منهم ديك في محلّته. 10 آلاف مفتاح انتخابي. يتحكّمون بإنفاق مليارات الدولارات وبتوظيف عشرات آلاف الناس.
فضلاً عن بنية زبائنيّة هائلة: مزرعة الصندوق البلدي المستقلّ مثال. مافيا المولّدات وحدها رقم “أعمالها” يفوق مليارَي دولار. مافيا اللوحات الإعلانية بونوس. مافيا التلزيمات المختلفة…
كلّ رئيس بلدية هو حتماً سمسار عقاريّ. ولكلّ توقيع منه ثمن. وثمن باهظ: خفض سعر التخمين له ثمن. إفادة البلدية لها ثمن. ما لم “يقوطب” عليها أمين السجلّ العقاري، بحيث يعطي الإفادة على مسؤوليّته ويقبض ثمنها لحسابه.
ولا ننسى توقيع مراقب وزارة المالية. والتوقيع يعني “التبليع”.
يروي أحد المسؤولين أنّ حروباً شعواء يخوضها كبار مسؤولي المزرعة على توزيع مراقبي المالية على البلديات الدسمة. يأتي المراقب المحظيّ والمدعوم، مرّة أسبوعياً. يوقّع المتراكم من معاملات، ويحمل ملفّاً منفوخاً ويخرج.
وإذا أخطأ أيٌّ كان في التزام هذا الطقس، يتعطّل سير البلدية كليّاً. وما من قوّة أرضية قادرة على استئنافه.

في حالة الانتخابات النيابية، يمكن على مضض القبول بتلك المسرحية، لتجديد “شرعية” الطبقة الحاكمة، مثل تجرّع سمّ دوائيّ. أمّا الإقدام عليه في “شأن تافه”، مثل الاستحقاق البلدي

دولة التنفيعات
إنّها دولة كاملة من التنفيعات والفساد داخل الدولة. فكيف يمكن لمنظومة الحكم أن تتركها لخيارات الناس؟!
أيّ سياسي غبيّ أو ساذج يفلتها إن لم يتحكّم بها مسبقاً؟!
– يبقى سبب ثالث سياسي بامتياز، لا بل هو أقرب إلى السبب الرئاسي تحديداً.
فمنذ عادت الانتخابات البلدية إلى الواقع اللبناني سنة 1998، بعد 35 عاماً على آخر استحقاق لها بسبب إصرار الرئيس الشهيد رفيق الحريري على  إجرائها بالتحالف مع ألفرد ماضي من القوات اللبنانية، والراحل فؤاد بطرس في بيروت ما أثار عليه وعلى مستشاره نهاد المشنوق غضباً واسعاً من النظام السوري بشخص عبد الحليم خدام. غُلّفت عودتها حينذاك بنتيجة قرار للمجلس الدستوري. قرار كسر قانون تأجيلها لـ35 سنة أخرى ربّما. وهو المجلس الدستوري نفسه الذي كان قد أُنشئ بعد أعوام من محاولة تطييره هو أيضاً عن أجندة اتفاق الطائف.
وشاءت المصادفة يومها، أو شاءت حسابات غازي كنعان في حينه، أن يحصل ذلك عشية استحقاق رئاسي. بعد تمديد ولاية “أبي جورج” لثلاث سنوات عام 1995، بفرمان من حافظ الأسد، ومن على متن طائرته بين القاهرة ودمشق يومها.
فهم الهراوي الرسالة. هي ليست انتخابات بلدية. بل هو دور رئاسي أوّل. شيء من انتخابات تمهيدية لتركيب الرئيس الذي تريده دمشق.
سارع الرجل إلى محاولة إنجاز فروضه الرئاسية في مسقط رأسه زحلة، ففشل.
وفي المقابل، كان المفاجأة غير المفاجئة، بتركيب نتائج بلدية لم يتأخّر محظيّوها “بطلس” البلد كلّه بصور إميل لحود في الأوّل من آب من ذاك العام، وفق الدعاية البعثية. فغنّى له الراحل ملحم بركات “من فرح الناس”… وقُضي الأمر.
شيء مماثل تكرّر في بلديات 2004 و2010. فعلى الرغم من تبدّل كلّ الظروف، ظلّت الطرابيش البلدية نفسها، التي رفعت يوماً صور لحود، تعود فترفع صور ألدّ خلف له أو سلف.
حتى بلديات 2016 خاضها ميشال عون بالخلفيّة نفسها: من يربح بلدية جونية، عاصمة كسروان وبكركي والموارنة و”الما همها من هديرالموج”… يصبح رئيساً للجمهورية.

إقرأ أيضاً: الاستحقاق البلديّ محطّة على طريق الرئاسة الأولى؟

سنة 2023، كلّ الحسابات متجمّعة الآن هنا. وهناك استحقاق بلدي:
ذهنية الوصاية تعود قفزاً. كلّ انتخابات شرّ، إلا إذا لم يكن بدٌّ منه.
والطبقة السياسية مستميتة للحس دولار فريش وسط نضوب المزاريب كافّة والأزمة المستفحلة مثلهم.
وثمّة استحقاق رئاسي. وهناك خارج يضع الجميع تحت مجهره: من معاقبة فاسديهم، حتى مراقبة ما إذا كان هذا المسترئس أو ذاك قادراً على ربح بلدية بلدته، قبل الرئاسة…
في ظلّ هذه الأجواء، يبدو إجراء الانتخابات البلدية ضرباً من جنون، يحتاج إلى أكثر من معجزة.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: JeanAziz1@

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…