خلال زيارته حلب إثر الزلزال وعلى أبواب الذكرى الـ 12 لاندلاع “الثورة السورية”، أطل بشار الأسد مع شعور عارم بـ “انتصار” في ظنه انه وجيشه صنعاه. غَفَلَ عن أن من صاغ بقاءه وحماه هو تدخلان روسي سبقه إيراني.
ما عزز شعور الفرح المتعاظم عند رئيس النظام كان “اندفاعة” عربية تبقى غير ذي أرجحية مُقررة في عودته إلى الجامعة العربية. قرار الثنائي مصر ـ السعودية ومعه انتظار قطري يقفان مانعاً. الانتباه الاميركي ومعه الاتحاد الاوروبي أشد قسوة في التعامل معه.
فرح الأسد والاندفاعة العربية
ابتسامات الأسد وضحكاته على انقاض ما دمره هو قبل أن يليه الزلزال، أظهر وكأنه يتحدث على افتراض أنه منتصر. الباعث على شعوره هذا اعتقاده من خارج السوية السياسية أنه حصل على “إحاطة واندفاعة” عربيتين، مع انغماس أميركي – أوروبي في الحرب على أوكرانيا. وهذا ما تسقطه مواقف عربية وازنة وانتباه دقيق من واشنطن والعواصم الأوروبية.
هذان الموقف والانتباه نهضا على أساس سياسي عميق قوامه انشطار النظام السوري بين إيران وروسيا، ناهيك عن انه قبل الزلزال ببضع ساعات واصل السلاح الجوي للأسد غاراته وبدعم روسي على المنطقة الشمالية الغربية التي تسيطر عليها المعارضة، في دلالة على رفض مطلق للنظام في الاستجابة للعملية السياسية.
وفر الزلزال للأسد فرصتين: تكتيكية نحو الداخل، وسياسية باتجاه الخارج. الاولى استغلها لتصوير أنه “منتصر” ونظامه. الأخرى كانت نادرة في علاقته مع الخارج بعد سنوات من العزلة السياسية
الموقف السعودي ـ المصري
“أساس” تحدث إلى “مصدر دبلوماسي عربي رفيع” أكد أن “مصر والسعودية متريثتان ولم توجها أية دعوة للمشاركة في القمة العربية إلى رئيس النظام السوري. الرياض والقاهرة تنتظران من دمشق إعلان الانخراط في العملية السياسية لضمان مصالحة حقيقية بين النظام والمعارضة، وكذلك تأمين عودة “آمنة” فعلياً للنازحين”.
وهذا أقل ما يمكن تقديمه احتراماً لمن سقطوا وفقدوا وهجّروا في جهات الدنيا الأربع، وذلك كله على طريق عودة سوريا إلى مسارها الطبيعي وبما يعيد لعاصمة الأمويين دورها وحضورها في الإقليم.
الأرجح ان مبعث السعادة على وجه بشار الأسد مرده إلى أن الزلزال جاء كـ “فرصة” لمحو الأدلة على بشاعة ما ارتكبه النظام. والأسوأ في إطلالته أنه جرؤ على مطالبة العالم “بإعادة الإعمار” في سوريا.
كان هذا طبيعياً أن يحصل بعد ترويج الرجل وإعلامه لأتفه روايتين: الاولى هي أن الغرب هو من يحاصر سوريا ويتسبب بالضيق والجوع اللذين نزلا بالسوريين. والثانية مفادها أن نظامه يحارب الإرهاب الداعشي جنباً إلى جنب مع العالم، في حين أن النظام نفسه اعتبر ان كل من يعارضه هو ارهابي.
انتهاز دم الزلزال
عملياً، وفر الزلزال للأسد فرصتين: تكتيكية نحو الداخل، وسياسية باتجاه الخارج. الاولى استغلها لتصوير أنه “منتصر” ونظامه. الأخرى كانت نادرة في علاقته مع الخارج بعد سنوات من العزلة السياسية. سلط الأضواء على جميع رسائل التعازي التي تلقاها من قادة العالم.
وما زاد من سيل ادعاءاته السياسية، تمثل في دفق المساعدات الانسانية العربية إلى مناطق النظام التي لم يسقط فيها سوى 349 قتيلاً من أصل 10,024 سورياً بينهم 4,191 في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة شمال سوريا، و5,439 من اللاجئين إلى تركيا، بحسب تقرير صدر عن “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”.
يُغفل الأسد أنه لا يسعه التقدم من العالم بوصفه ضحية. نظامه تتنوع أشكاله من الهيمنة على لبنان مروراً بزعزعة استقرار العراق وصولاً إلى القتل بحرب إبادة عبر البراميل المتفجرة واسقاطها على رؤوس المدنيين، وكذلك التهجير الجماعي.
تاريخ الدم المسفوح
دخلت سوريا عامها الثالث عشر تحت بشاعات النظام مثقلةً بحصيلة قتلى تجاوزت نصف مليون وعشرات آلاف المفقودين ناهيك عن ملايين من النازحين واللاجئين داخل البلاد وخارجها، بحسب تقرير نشرته وكالة الصحافة الفرنسية في الاول من آذار.
حتى لو وضعنا الأفعال جانباً، يبقى أن لغة الأسد تنتسب إلى ماضٍ كله وعيد وتهديد فعلي لشعبه، ونظري بإزاء إسرائيل التي يهددها بـ “زمان ومكان” لا يعرفهما غير الله ورسوله والذين آمنوا.
صحيح أن ما أعاد بشار الأسد إلى الواجهة جاء من خلفية الجدل عن أهداف التطبيع معه. في الأساس لم يقف إلى جانبه غير الجزائر والعراق في طلب إعادته إلى الجامعة العربية في قمة الجزائر العام الماضي.
يواصل الاتحاد الأوروبي تمسكه بموقفه الرافض للتطبيع مع النظام السوري، في محاولة لدفعه إلى التفاوض من أجل تحقيق حل سياسي
اتجاهات الدول في العلاقة مع الأسد
في قراءة الوقائع المحيطة بعلاقات النظام السوري مع محيطه الإقليمي والعربي، فإن المحيطين الإقليمي والدولي ينشطران إلى ثلاثة أطر تتوزع بين متريث، مندفع، وممتنع:
1ـ محور المتريّثين الذي يتشكّل من السعودية ومصر:
أ- بحسب “المصدر الدبلوماسي العربي الرفيع” فإن الرياض تبدي تحفظات شديدة حتى الآن، وذلك على الرغم من اللقاءات الأمنية بين ممثلين عن البلدين. وسبق للسعودية ومصر وقطر ان عرقلوا عودة سوريا إلى قمة الجزائر عام 2022. في حينه علّل ثلاثي الدول موقفه بـ”التدخل الإيراني”.
التدخل الإيراني، وهو بالتعريف سيطرة وهيمنة، تبدل حُكماً مع قرار استئناف العلاقات بين إيران والسعودية برعاية الصين. لكن ما ينبغي التوقف عنده هو ما اعلنه وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان على هامش لقائه مع المبعوث الخاص للامين العام للأمم المتحدة إلى سوريا غيرد بيدرسون من أن “الحاجة هي في قيام دول المنطقة بالعمل معاً لإيجاد حل سياسي” للحرب في سوريا والمستمرة منذ 12 عاماً. واضاف أن “ذلك سيتطلب بعض العمل”. عملياً لا يوجد تغيير مبدئي في الموقف السعودي الجديد الذي يبقى رهناً بما سيؤديه الأسد من استجابة للعملية السياسية مع المجتمعين العربي والدولي.
ب- من جهتها، فإن مصر موقفها متسق مع الموقف السعودي على الرغم من رفعها مستوى الاتصالات مع النظام السوري من المربع الأمني إلى المستوى السياسي. كان دافع القاهرة إلى ذلك ينهض على تقاطع مشترك وقديم مع دمشق حول الموقف من “الاسلام السياسي”.
إلا أن ما يؤكد اتساق الموقفين المصري والسعودي هو بيانهما المشترك قبل أيام من انتهاء العام الماضي عقب اجتماع لجنة التشاور السياسي بين البلدين في القاهرة وإعلانهما “التشارك في دعم الحل السياسي في سوريا وفق القرار 2254”.
2 ـ الإطار المندفع للتطبيع مع النظام السوري
– الساعين إلى التطبيع مع حماسة متفاوتة هم المملكة الأردنية وتركيا والإمارات. الأولى بفعل الخلل الامني على الحدود مع سوريا وارتفاع كمية تهريب الكبتاغون والأسلحة إليها. هذا يضاف إلى “عبء النازحين السوريين” الاقتصادي في بلد لا موارد لديه، ويعاني منذ عام 1948 من اللجوء الفلسطيني.
أمّا الثانية وبحماسة أعلى من المملكة الهاشمية فلأسباب متصلة بتحالف الولايات المتحدة مع قوات “قسد” الكردية ما رفع نسبة التوتر بين البلدين، ودفع السياسة التركية الى ان تنحو أكثر نحو روسيا والتفاهم معها ومع دمشق على منع قيام كيان كردي.
وما يجمع أنقرة وعمان في اندفاعتيهما المتفاوتتَيْ الحماسة هي المشاكل الاقتصادية الهيكلية الناجمة عن عديد النازحين إلى هاتين الدولتين.
مشكلة اللاجئين إلى أنقرة أثرت بشكل كبير على حضور حزب العدالة والتنمية، وخصوصاً أن الرئيس رجب طيب إردوغان على ابواب انتخابات رئاسية.
– أما الاندفاعة الإماراتية “الضوئية” للتطبيع مع الاسد تجد جذرها في موقف أبو ظبي المناهض للإسلام السياسي الإخواني والذي انبعث اثر “الربيع العربي” وانتشر على نطاق واسع. هذا الواقع كان مُقرِّراً حاكماً عند الإمارات لتعديل نظرتها إلى سوريا، إذ دفعت رؤية مشتركة بين البلدين إلى دور هذا الإسلام في تركيا وليبيا إلى إعادة وصل ما انقطع منذ عام 2012.
خطر النظام السوري ومراوغته
حصل هذا فيما كان منسوب خطر النظام السوري يرتفع ضد الأمن الإقليمي العربي جراء توسع الحضور الإيراني الذي راح يتعمق على كل المستويات: العسكرية، والمذهبية، والثقافية.
في الاثناء كان النظام السوري يرفض الاستجابة لأي من شروط المبادرة العربية التي اقترحها ملك الاردن عبد الله الثاني على الرئيس الاميركي جو بايدن منتصف عام 2021 لايجاد حل للقضية السورية.
قبل ذلك، لم تحقق التسوية السياسية في إطار اللجنة الدستورية وقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 لعام 2015 أي شيء بسبب ربط النظام السوري أي تقدم بشرط الحوار بين الغرب وروسيا، ولرفضه أي تقليص لنفوذ إيران.
إقرأ أيضاً: هل بدأ العقل عودته إلى الشرق الأوسط؟
3 ـ أمّا جبهة الرافضين للتطبيع فتتشكّل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
أ- على المستوى الاميركي ترفض واشنطن أي تطبيع ما لم يكن مقروناً بالقرار 2254. وقد أكد المتحدث باسم وزارة الخارجية نيد برايس أن بلاده لا تدعم مواقف الدول التي تعزز علاقاتها أو تعرب عن دعمها لإعادة الاعتبار لبشار الاسد، وأن الدعم الأميركي لهذا التوجه يظل مرهوناً بحل سياسي وبما يتماشى مع قرار مجلس الأمن رقم 2254. التعبير الأوضح كان بدأ منذ زمن. تجلى ذلك في العقوبات الاميركية على النظام السوري، وأهمها قانون قيصر عام 2019. كذلك في توقيع بايدن نهاية العام الماضي قانون مكافحة المخدرات الذي يعتبر تجارة المخدرات المرتبطة بالأسد “تهديداً أمنياً عابراً”، فضلاً عن العقوبات على الأسد وعائلته وعلى أركان نظامه وبعض داعميه الماليين من لبنان.
ب- من جهته، يواصل الاتحاد الأوروبي تمسكه بموقفه الرافض للتطبيع مع النظام السوري، في محاولة لدفعه إلى التفاوض من أجل تحقيق حل سياسي. وفي مطلع العام الحالي اطلق الاتحاد ثلاث لاءات في وجه تأهيل الاسد: لا للتطبيع، لا لإعادة الاعمار، ولا لرفع العقوبات ما لم يمتثل لمتطلبات الحل السياسي. وذلك في أوضح تعبير عن التناغم مع الموقف الاميركي.
لمتابعة الكاتب على تويتر: jezzini_ayman@